Monday, 31 August 2015

صحيح البخاري حديث 00003

حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت  أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال  اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم  فرجع بها رسول الله  - ص 4 - صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي

حديث ٣ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيْهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيْجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِيْ غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِيْ فَغَطَّنِيْ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِيْ فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِيْ فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِيْ فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِيْ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِيْ فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فَرَجَعَ بِهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيْجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُوْنِيْ زَمِّلُوْنِيْ فَزَمَّلُوْهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيْجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيْتُ عَلَى نَفْسِيْ فَقَالَتْ خَدِيْجَةُ كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيْكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُوْمَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِيْنُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيْجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيْجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيْلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيْرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيْجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيْكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِيْ مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوْسُ الَّذِيْ نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوْسَى يَا لَيْتَنِيْ فِيْهَا جَذَعًا لَيْتَنِيْ أَكُوْنُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُوْدِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِيْ يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.

Telah menceritakan kepada kami Yahya bin Bukair berkata, Telah menceritakan kepada kami dari Al Laits dari 'Uqail dari Ibnu Syihab dari 'Urwah bin Az Zubair dari Aisyah -Ibu Kaum Mu'minin-, bahwasanya dia berkata: "Permulaaan wahyu yang datang kepada Rasulullah shallallahu 'alaihi wasallam adalah dengan mimpi yang benar dalam tidur. Dan tidaklah Beliau bermimpi kecuali datang seperti cahaya subuh. Kemudian Beliau dianugerahi kecintaan untuk menyendiri, lalu Beliau memilih gua Hiro dan bertahannuts yaitu 'ibadah di malam hari dalam beberapa waktu lamanya sebelum kemudian kembali kepada keluarganya guna mempersiapkan bekal untuk bertahannuts kembali. Kemudian Beliau menemui Khadijah mempersiapkan bekal. Sampai akhirnya datang Al Haq saat Beliau di gua Hiro, Malaikat datang seraya berkata: "Bacalah?" Beliau menjawab: "Aku tidak bisa baca". Nabi shallallahu 'alaihi wasallam menjelaskan: Maka Malaikat itu memegangku dan memelukku sangat kuat kemudian melepaskanku dan berkata lagi: "Bacalah!" Beliau menjawab: "Aku tidak bisa baca". Maka Malaikat itu memegangku dan memelukku sangat kuat kemudian melepaskanku dan berkata lagi: "Bacalah!". Beliau menjawab: "Aku tidak bisa baca". Malaikat itu memegangku kembali dan memelukku untuk ketiga kalinya dengan sangat kuat lalu melepaskanku, dan berkata lagi: (Bacalah dengan (menyebut) nama Tuhanmu yang Menciptakan, Dia Telah menciptakan manusia dari segumpal darah. Bacalah, dan Tuhanmulah yang Maha Pemurah)." Nabi shallallahu 'alaihi wasallam kembali kepada keluarganya dengan membawa kalimat wahyu tadi dalam keadaan gelisah. Beliau menemui Khadijah binti Khawailidh seraya berkata: "Selimuti aku, selimuti aku!". Beliau pun diselimuti hingga hilang ketakutannya. Lalu Beliau menceritakan peristiwa yang terjadi kepada Khadijah: "Aku mengkhawatirkan diriku". Maka Khadijah berkata: "Demi Allah, Allah tidak akan mencelakakanmu selamanya, karena engkau adalah orang yang menyambung silaturrahim." Khadijah kemudian mengajak Beliau untuk bertemu dengan Waroqoh bin Naufal bin Asad bin Abdul 'Uzza, putra paman Khadijah, yang beragama Nasrani di masa Jahiliyyah, dia juga menulis buku dalam bahasa Ibrani, juga menulis Kitab Injil dalam Bahasa Ibrani dengan izin Allah. Saat itu Waroqoh sudah tua dan matanya buta. Khadijah berkata: "Wahai putra pamanku, dengarkanlah apa yang akan disampaikan oleh putra saudaramu ini". Waroqoh berkata: "Wahai putra saudaraku, apa yang sudah kamu alami". Maka Rasulullah shallallahu 'alaihi wasallam menuturkan peristiwa yang dialaminya. Waroqoh berkata: "Ini adalah Namus, seperti yang pernah Allah turunkan kepada Musa. Duhai seandainya aku masih muda dan aku masih hidup saat kamu nanti diusir oleh kaummu". Rasulullah shallallahu 'alaihi wasallam bertanya: "Apakah aku akan diusir mereka?" Waroqoh menjawab: "Iya. Karena tidak ada satu orang pun yang datang dengan membawa seperti apa yang kamu bawa ini kecuali akan disakiti (dimusuhi). Seandainya aku ada saat kejadian itu, pasti aku akan menolongmu dengan sekemampuanku". Waroqoh tidak mengalami peristiwa yang diyakininya tersebut karena lebih dahulu meninggal dunia pada masa fatroh (kekosongan) wahyu.

صحيح البخاري - بدء الوحي (4)
صحيح مسلم - الإيمان (160)
سنن الترمذي - المناقب (3632)
مسند أحمد - باقي مسند الأنصار (6/153)
مسند أحمد - باقي مسند الأنصار (6/223)
مسند أحمد - باقي مسند الأنصار (6/233)

Terjemahan Hadith




الشروح         
 - ص 31 - قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ) هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الْمِصْرِيِّينَ ، وَأَثْبَتُ النَّاسِ فِي اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الْفَهْمِيِّ فَقِيهِ الْمِصْرِيِّينَ . وَعُقَيْلٌ بِالضَّمِّ عَلَى التَّصْغِيرِ ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ الْفَقِيهُ ، نُسِبَ إِلَى جَدِّ جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ ، الزُّهْرِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ، وَهُوَ مِنْ رَهْطِ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، اتَّفَقُوا عَلَى إِتْقَانِهِ وَإِمَامَتِهِ .
قَوْلُهُ : ( مِنَ الْوَحْيِ ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةً ، أَيْ : مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً وَرَجَّحَهُ الْقَزَّازُ . وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَيُونُسَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ " الصَّادِقَةُ " وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ضِغْثٌ ، وَبُدِئَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِلْيَقَظَةِ ، ثُمَّ مَهَّدَ لَهُ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا رُؤْيَةَ الضَّوْءِ وَسَمَاعَ الصَّوْتِ وَسَلَامَ الْحَجَرِ .
قَوْلُهُ : ( فِي النَّوْمِ ) لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ ، أَوْ لِيُخْرِجَ رُؤْيَا الْعَيْنِ فِي الْيَقَظَةِ لِجَوَازِ إِطْلَاقِهَا مَجَازًا .
قَوْلُهُ : ( مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ) بِنَصْبِ مِثْلَ عَلَى الْحَالِ ، أَيْ : مُشْبِهَةً ضِيَاءَ الصُّبْحِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ ، أَيْ : جَاءَتْ مَجِيئًا مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . وَالْمُرَادُ بِفَلَقِ الصُّبْحِ ضِيَاؤُهُ . وَخُصَّ بِالتَّشْبِيهِ لِظُهُورِهِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ .
قَوْلُهُ : ( حُبِّبَ ) لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَاعِثِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، أَوْ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَاعِثِ الْبَشَرِ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الْإِلْهَامِ . وَالْخَلَاءُ بِالْمَدِّ الْخَلْوَةُ ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ فَرَاغُ الْقَلْبِ لِمَا يَتَوَجَّهُ لَهُ . وَحِرَاءُ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ كَذَا فِي الرِّوَايَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ وَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا ، وَحُكِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ جَوَازًا لَا رِوَايَةً . هُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ . وَالْغَارُ نَقْبٌ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانُ .
قَوْلُهُ : ( فَيَتَحَنَّثُ ) هِيَ بِمَعْنَى يَتَحَنَّفُ ، أَيْ : يَتَّبِعُ الْحَنِفِيَّةَ وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ ثَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ " يَتَحَنَّفُ " بِالْفَاءِ أَوِ التَّحَنُّثُ إِلْقَاءُ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِثْمُ ، كَمَا قِيلَ يَتَأَثَّمُ وَيَتَحَرَّجُ وَنَحْوُهُمَا .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ التَّعَبُّدُ ) هَذَا مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ ، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِدْرَاجِ .
 - ص 32 - قَوْلُهُ : ( اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَتَحَنَّثُ ، وَإِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ ، كَذَا قِيلَ . وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَدِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخَلْوَةِ قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتُهَا وَهِيَ شَهْرٌ ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ كَانَ رَمَضَانَ رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ . وَاللَّيَالِي مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ ، وَذَوَاتُ مَنْصُوبَةٌ أَيْضًا وَعَلَامَةُ النَّصْبِ فِيهِ كَسْرُ التَّاءِ . وَيَنْزِعُ بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ : يَرْجِعُ وَزْنًا وَمَعْنًى ، وَرَوَاهُ الْمُؤَلِّفُ بِلَفْظِهِ فِي التَّفْسِيرِ .
قَوْلُهُ : ( لِمِثْلِهَا ) أَيِ : اللَّيَالِي . وَالتَّزَوُّدُ اسْتِصْحَابُ الزَّادِ . وَيَتَزَوَّدُ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَحَنَّثُ . وَخَدِيجَةُ هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، تَأْتِي أَخْبَارُهَا فِي مَنَاقِبِهَا .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ ) أَيِ : الْأَمْرُ الْحَقُّ ، وَفِي التَّفْسِيرِ : حَتَّى فَجَئَهُ الْحَقُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - أَيْ بَغَتَهُ . وَإِنْ ثَبَتَ مِنْ مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ أَوَّلًا قَبْلَ الْيَقَظَةِ ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الْمَلَكِ فِي الْيَقَظَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَامِ . وَسُمِّيَ حَقًّا لِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :  إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوَّلُ شَأْنِهِ يَرَى فِي الْمَنَامِ ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ ، صَرَخَ جِبْرِيلُ " يَا مُحَمَّدُ " فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ " يَا مُحَمَّدُ ، جِبْرِيلُ " فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ . ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِقْرَائِهِ  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ  وَرَأَى حِينَئِذٍ جِبْرِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ يَاقُوتٍ يَخْتَطِفَانِ الْبَصَرَ  ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا "  لَمْ أَرَهُ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ  " ، وَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيَهُ صُورَتَهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا ، وَالثَّانِيَةَ عِنْدَ الْمِعْرَاجِ . وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ "  لَمْ يَرَ مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادَ  " وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ ابْنِ لَهِيعَةَ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَرَّةُ غَيْرَ الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فَرَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ وَلَدِهِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ  أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِرَاءَ وَأَقْرَأَهُ  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ  ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا ، فَأَتَاهُ مِنْ أَمَامِهِ فِي صُورَتِهِ فَرَأَى أَمْرًا عَظِيمًا  .
قَوْلُهُ : ( فَجَاءَهُ ) هَذِهِ الْفَاءُ تُسَمَّى التَّفْسِيرِيَّةَ وَلَيْسَتِ التَّعْقِيبِيَّةَ ; لِأَنَّ مَجِيءَ الْمَلَكِ لَيْسَ بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ حَتَّى تُعَقَّبَ بِهِ ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ ، بَلِ التَّفْسِيرُ عَيْنُ الْمُفَسَّرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ .
قَوْلُهُ : ( مَا أَنَا بِقَارِئٍ ) ثَلَاثًا . " مَا " نَافِيَةٌ ، إِذْ لَوْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً لَمْ يَصْلُحْ دُخُولُ الْبَاءِ ، وَإِنْ حُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ جَوَازُهُ فَهُوَ شَاذٌّ ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ ، أَيْ : مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ . فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا قِيلَ لَهُ  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ  أَيْ : لَا تَقْرَؤُهُ بِقُوَّتِكَ وَلَا بِمَعْرِفَتِكَ ، لَكِنْ بِحَوْلِ رَبِّكَ وَإِعَانَتِهِ ، فَهُوَ يُعَلِّمُكَ ، كَمَا خَلَقَكَ وَكَمَا نَزَعَ عَنْكَ عَلَقَ الدَّمِ وَغَمْزَ الشَّيْطَانِ فِي الصِّغَرِ ، وَعَلَّمَ أُمَّتَكَ حَتَّى صَارَتْ تَكْتُبُ بِالْقَلَمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ . وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ - وَهُوَ قَوْلُهُ  مَا أَنَا بِقَارِئٍ - يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ . وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ وَالتَّأْكِيدَ ، وَالتَّقْدِيرُ : لَسْتُ بِقَارِئٍ الْبَتَّةَ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ؟ أَجَابَ أَبُو شَامَةَ  - ص 33 - بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ أَوَّلًا "  مَا أَنَا بِقَارِئٍ  " عَلَى الِامْتِنَاعِ ، وَثَانِيًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالنَّفْيِ الْمَحْضِ ، وَثَالِثًا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ . وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ أَقْرَأُ وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ وَفِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ فِي دَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ : كَيْفَ أَقْرَأُ ؟ كُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( فَغَطَّنِي ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي ، وَالْغَطُّ حَبْسُ النَّفَسِ ، وَمِنْهُ غَطَّهُ فِي الْمَاءِ ، أَوْ أَرَادَ غَمَّنِي وَمِنْهُ الْخَنْقُ . وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : فَأَخَذَ بِحَلْقِي .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ) رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ ، أَيْ : بَلَغَ الْغَطُّ مِنِّي غَايَةَ وُسْعِي . وَرُوِيَ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ أَيْ بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ مَبْلَغَهُ . وَقَوْلُهُ " أَرْسَلَنِي " أَيْ : أَطْلَقَنِي ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَهْدَ هُنَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ .
قَوْلُهُ : ( فَرَجَعَ بِهَا ) أَيْ بِالْآيَاتِ أَوْ بِالْقِصَّةِ .
قَوْلُهُ : ( فَزَمَّلُوهُ ) أَيْ : لَفُّوهُ . وَالرَّوْعُ بِالْفَتْحِ الْفَزَعُ .
قَوْلُهُ : ( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ) دَلَّ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ " يَرْجُفُ فُؤَادُهُ " عَلَى انْفِعَالٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ " زَمِّلُونِي " . وَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا : أَوَّلُهَا : الْجُنُونُ وَأَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ ، جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ ، وَأَبْطَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَحُقَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ ، لَكِنْ حَمَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى . ثَانِيهَا : الْهَاجِسُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَهَذَا اسْتَقَرَّ وَحَصَلَتْ بَيْنَهُمَا الْمُرَاجَعَةُ . ثَالِثُهَا : الْمَوْتُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ . رَابِعُهَا : الْمَرَضُ ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ . خَامِسُهَا : دَوَامُ الْمَرَضِ . سَادِسُهَا : الْعَجْزُ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ . سَابِعُهَا : الْعَجْزُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمَلَكِ مِنَ الرُّعْبِ . ثَامِنُهَا : عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ . تَاسِعُهَا : أَنْ يَقْتُلُوهُ . عَاشِرُهَا : مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ . حَادِيَ عَشَرِهَا : تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ . ثَانِيَ عَشَرِهَا : تَعْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ وَأَسْلَمُهَا مِنَ الِارْتِيَابِ الثَّالِثُ وَاللَّذَانِ بَعْدَهُ ، وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ مُعْتَرَضٌ . وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا ) مَعْنَاهَا النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ ، وَيَحْزُنْكَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمَضْمُومَةِ وَالنُّونِ مِنَ الْحُزْنِ . وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ مِنَ الْخِزْيِ . ثُمَّ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا بِأَمْرٍ اسْتِقْرَائِيٍّ وَصَفَتْهُ بِأُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِمَّا إِلَى الْأَقَارِبِ أَوْ إِلَى الْأَجَانِبِ ، وَإِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِالْمَالِ ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ أَوْ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ فِيمَا وَصَفَتْهُ بِهِ . وَالْكَلُّ بِفَتْحِ الْكَافِ : هُوَ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :  وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ  وَقَوْلُهَا "  وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ  " فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَتُكْسِبُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الصَّوَابُ الْمُعْدِمُ بِلَا وَاوٍ أَيِ : الْفَقِيرُ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكْسِبُ . قُلْتُ : وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمُعْدِمِ الْمَعْدُومَ لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا تَصَرُّفَ لَهُ ، وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ . فَكَأَنَّهَا قَالَتْ : إِذَا رَغِبَ غَيْرُكَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالًا مَوْجُودًا رَغِبْتَ أَنْتَ أَنْ تَسْتَفِيدَ رَجُلًا عَاجِزًا فَتُعَاوِنَهُ . وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ : قَوْلُهُ يَكْسِبُ مَعْنَاهُ مَا يَعْدَمُهُ غَيْرُهُ  - ص 34 - وَيَعْجِزُ عَنْهُ يُصِيبُهُ هُوَ وَيَكْسِبُهُ . قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ إِنْسَانًا : كَانَ أَكْسَبَهُمْ لِمَعْدُومٍ ، وَأَعْطَاهُمْ لِمَحْرُومٍ وَأُنْشِدَ فِي وَصْفِ ذِئْبٍ : كَسُوبٌ كَذَا الْمَعْدُومِ مِنْ كَسْبِ وَاحِدِ أَيْ : مِمَّا يَكْسِبُهُ وَحْدَهُ ، انْتَهَى . وَلِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَتَكْسِبُ " بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ، قَالَ عِيَاضٌ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ . قُلْتُ : قَدْ وَجَّهْنَا الْأُولَى ، وَهَذِهِ الرَّاجِحَةُ ، وَمَعْنَاهَا تُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ ، فَحَذَفَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ ، وَيُقَالُ : كَسَبْتَ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتَهُ بِمَعْنًى . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرُكَ . وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ ، لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ . وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْبَعْثَةِ مَحْظُوظًا فِي التِّجَارَةِ . وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ إِفَادَتِهِ لِلْمَالِ يَجُودُ بِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَكْرُمَاتِ .
وَقَوْلُهَا " وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ " هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِأَفْرَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ وَفِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ " وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ " وَهِيَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ . وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ " وَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ " . وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِحْبَابُ تَأْنِيسِ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ بِذِكْرِ تَيْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَتَهْوِينِهِ لَدَيْهِ ، وَأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِنَصِيحَتِهِ وَصِحَّةِ رَأْيِهِ .
قَوْلُهُ : ( فَانْطَلَقَتْ بِهِ ) أَيْ مَضَتْ مَعَهُ ، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ . وَوَرَقَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ . وَقَوْلُهُ " ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ " هُوَ بِنَصْبِ ابْنِ وَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ وَرَقَةَ أَوْ صِفَةٌ أَوْ بَيَانٌ ، وَلَا يَجُوزُ جَرُّهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ صِفَةً لِعَبْدِ الْعُزَّى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَا كَتْبُهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ عَلَمَيْنِ .
قَوْلُهُ : ( تَنَصَّرَ ) أَيْ : صَارَ نَصْرَانِيًّا ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَمَّا كَرِهَا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ إِلَى الشَّامِ وَغَيْرِهَا يَسْأَلُونَ عَنِ الدِّينِ ، فَأَمَّا وَرَقَةُ فَأَعْجَبَهُ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَتَنَصَّرَ ، وَكَانَ لَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّهْبَانِ عَلَى دِينِ عِيسَى وَلَمْ يُبَدِّلْ ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ بِشَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْبِشَارَةِ بِهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَفْسَدَهُ أَهْلُ التَّبْدِيلِ وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو فَسَيَأْتِي خَبَرُهُ فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ : ( فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ) ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ : وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَلِمُسْلِمٍ : فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ . وَالْجَمِيعُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَعَلَّمَ اللِّسَانَ الْعِبْرَانِيَّ وَالْكِتَابَةَ الْعِبْرَانِيَّةَ فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ كَمَا كَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْنِ . وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا خَبْطٌ فَلَا يُعْرَّجُ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا وَصَفَتْهُ بِكِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ دُونَ حِفْظِهِ لِأَنَّ حِفْظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مُتَيَسِّرًا كَتَيَسُّرِ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ ، فَلِهَذَا جَاءَ فِي صِفَتِهَا " أَنَاجِيلُهَا صُدُورُهَا " . قَوْلُهَا " يَا ابْنَ عَمِّ " هَذَا النِّدَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ " يَا عَمُّ " وَهُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّوْقِيرِ لَكِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَمَخْرَجُهَا مُتَّحِدٌ ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ . وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي الْعِبْرَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فِي وَصْفِ وَرَقَةَ وَاخْتَلَفَتِ الْمَخَارِجُ فَأَمْكَنَ التَّعْدَادُ ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا أَشْبَهَهُ . وَقَالَتْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :  اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ  . لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَوَرَقَةُ فِي عِدَدِ النَّسَبِ إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ فِيهِ سَوَاءً ، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي دَرَجَةِ إِخْوَتِهِ . أَوْ قَالَتْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ لِسِنِّهِ . وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يُعْرَفُ بِقَدْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْئُولِ ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ  - ص 35 - خَدِيجَةَ لِوَرَقَةَ "  اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ  " أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْلِيمِ .
قَوْلُهُ : ( مَاذَا تَرَى ؟ ) فِيهِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ : فَأَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ ابْنَ عَمِّهَا فَأَخْبَرَتْهُ بِالَّذِي رَأَى .
قَوْلُهُ : ( هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ) . وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ " أَنْزَلَ اللَّهُ " ، وَفِي التَّفْسِيرِ " أُنْزِلَ " عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ " هَذَا " إِلَى الْمَلَكِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرِهِ ، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ لِقُرْبِ ذِكْرِهِ . وَالنَّامُوسُ : صَاحِبُ السِّرِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ . وَزَعَمَ ابْنُ ظَفَرٍ أَنَّ النَّامُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ ، وَالْجَاسُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ . وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ . وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ أَحَدُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ . وَالْمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَقَوْلُهُ " عَلَى مُوسَى " وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا ; لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ عِيسَى . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ ، بِخِلَافِ عِيسَى . كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ . أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ ، وَأَمَّا مَا تَمَحَّلَ لَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ عَلَى اعْتِقَادِ النَّصَارَى فِي عَدَمِ نُبُوَّةِ عِيسَى وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَقَانِيمِ فَهُوَ مُحَالٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ وَرَقَةَ وَأَشْبَاهِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّبْدِيلِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَمَّنْ بَدَّلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ وَرَقَةَ قَالَ : نَامُوسُ عِيسَى . وَالْأَصَحُّ مَا تَقَدَّمَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ضَعِيفٌ . نَعَمْ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلًا أَتَتِ ابْنَ عَمِّهَا وَرَقَةَ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ فَقَالَ :  لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي إِنَّهُ لَيَأْتِيهِ نَامُوسُ عِيسَى الَّذِي لَا يُعَلِّمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَبْنَاءَهُمْ  . فَعَلَى هَذَا فَكَانَ وَرَقَةُ يَقُولُ تَارَةً نَامُوسُ عِيسَى وَتَارَةً نَامُوسُ مُوسَى ، فَعِنْدَ إِخْبَارِ خَدِيجَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ قَالَ لَهَا نَامُوسُ عِيسَى بِحَسَبِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَعِنْدَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ قَالَ لَهُ نَامُوسُ مُوسَى لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا ، وَكُلٌّ صَحِيحٍ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ "  يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا  " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى  انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ  . وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ : التَّقْدِيرُ : يَا لَيْتَنِي جُعِلْتُ فِيهَا جَذَعًا . وَقِيلَ : النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ إِذَا جَعَلْتَ فِيهَا خَبَرَ لَيْتَ ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَضَمِيرُ " فِيهَا " يَعُودُ عَلَى أَيَّامِ الدَّعْوَةِ . وَالْجَذَعُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - هُوَ الصَّغِيرُ مِنَ الْبَهَائِمِ ، كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ شَابًّا لِيَكُونَ أَمْكَنَ لِنَصْرِهِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ سِرُّ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيرًا أَعْمَى .
قَوْلُهُ : ( إِذْ يُخْرِجُكَ ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ " إِذْ " فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِذَا ، وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَغَفَلَ عَنْهُ  - ص 36 - أَكْثَرُ النُّحَاةِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى  وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ  هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ النُّحَاةَ لَمْ يُغْفِلُوهُ بَلْ مَنَعُوا وُرُودَهُ ، وَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ وَقَالُوا فِي مِثْلِ هَذَا : اسْتَعْمَلَ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَتَهُ ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ هُنَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّعْبِيرِ "  حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ  " وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ مَا ادَّعَاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ ، وَمَجَازُهُمْ أَوْلَى ، لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي صُورَةِ الْمُضِيِّ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ أَوِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ دُونَ تِلْكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْعِ الْوُرُودِ وُرُودًا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ لَا عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْتِقْبَالِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمُسْتَحِيلِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ خَيْرٍ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَمَنَّى أَنْ يَعُودَ شَابًّا ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً . وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّمَنِّيَ لَيْسَ مَقْصُودًا عَلَى بَابِهِ ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ ، وَالتَّنْوِيهُ بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ .
قَوْلُهُ : ( أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا جَمْعُ مُخْرِجٍ ، فَهُمْ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَمُخْرِجِيَّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَاسْتَبْعَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرِجُوهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقَدَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ وَصْفُهَا . وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ الدُّغُنَّةِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ .
قَوْلُهُ : ( إِلَّا عُودِيَ ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ " إِلَّا أُوذِيَ " فَذَكَرَ وَرَقَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ مَجِيئُهُ لَهُمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ ; وَلِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِذَلِكَ مُنَابَذَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ فَتَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ مِنْ ثَمَّ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبَ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى مَا يُجِيبُ بِهِ إِذَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ .
قَوْلُهُ : ( إِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ ) إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَالَّذِي بَعْدَهَا مَجْزُومٌ . زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ " حَيًّا " وَلِابْنِ إِسْحَاقَ " إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ " يَعْنِي يَوْمَ الْإِخْرَاجِ .
قَوْلُهُ : ( مُؤَزَّرًا ) بِهَمْزَةٍ أَيْ : قَوِيًّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَأَنْكَرَ الْقَزَّازُ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مُؤَزَّرًا مِنَ الْأَزْرِ . وَقَالَ أَبُو شَامَةَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِزَارِ ، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَشْمِيرِهِ فِي نُصْرَتِهِ ، قَالَ الْأَخْطَلُ : قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ الْبَيْتَ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ . وَأَصْلُ النُّشُوبِ التَّعَلُّقُ ، أَيْ : لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى مَاتَ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى زَمَنِ الدَّعْوَةِ ، وَإِلَى أَنْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ . فَإِنْ تَمَسَّكْنَا بِالتَّرْجِيحِ فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ ، وَإِنْ لَحَظْنَا الْجَمْعَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ : وَفَتَرَ الْوَحْيُ . لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْ لِوَرَقَةَ ذِكْرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَجَعَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ انْتِهَاءَ أَمْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ لَا إِلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ .
وَفُتُورُ الْوَحْيِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ ، فَقَدْ رَوَى الْمُؤَلِّفُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
( فَائِدَةٌ ) : وَقَعَ فِي تَارِيخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّةَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَعَلَى هَذَا فَابْتِدَاءُ النُّبُوَّةِ بِالرُّؤْيَا وَقَعَ مِنْ  - ص 37 - شَهْرِ مَوْلِدِهِ وَهُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِكْمَالِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَابْتِدَاءُ وَحْيِ الْيَقَظَةِ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَتْرَةِ الْوَحْيِ الْمُقَدَّرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ مَا بَيْنَ نُزُولِ " اقْرَأْ " وَ  يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ  عَدَمَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ ، بَلْ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْقُرْآنَ فَقَطْ . ثُمَّ رَاجَعْتُ الْمَنْقُولَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ تَارِيخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ : أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا عَنْ دَاوُدَ بِلَفْظِ : بُعِثَ لِأَرْبَعِينَ ، وَوُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَعَلَى هَذَا فَيَحْسُنُ - بِهَذَا الْمُرْسَلِ إِنْ ثَبَتَ - الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ ، فَقَدْ قِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ عَشْرٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِقَدْرِ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ هَذِهِ الْقِصَّةَ ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ مِيكَائِيلُ بَدَلَ إِسْرَافِيلَ ، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُرْسَلَةَ وَقَالَ : لَمْ يُقْرَنْ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا جِبْرِيلُ ، انْتَهَى . وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي إِلَّا إِنْ صَحِبَ النَّافِيَ دَلِيلُ نَفْيِهِ فَيُقَدَّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَخَذَ السُّهَيْلِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَجَمَعَ بِهَا الْمُخْتَلِفَ فِي مُكْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُسْنَدَةِ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَمَنْ قَالَ مَكَثَ عَشْرَ سِنِينَ حَذَفَ مُدَّةَ الرُّؤْيَا وَالْفَتْرَةَ ، وَمَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَضَافَهُمَا . وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ لَا يَثْبُتُ ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَتْ أَيَّامًا ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ : ( قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ) إِنَّمَا أَتَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا ، وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بِكَذَا ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مُعَلَّقًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ التَّعْلِيقِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ثُبُوتُ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَقَدُّمِ شَيْءٍ عَطَفْتَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ - أَيْ : بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ - وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بِخَبَرٍ آخَرَ وَهُوَ كَذَا ، وَدَلَّ قَوْلُهُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَقَوْلُهُ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ عَلَى تَأَخُّرِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَنِ اقْرَأْ ، وَلَمَّا خَلَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْآتِيَةُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أَشْكَلَ الْأَمْرُ ، فَجَزَمَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ  يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ  - ص 38 - أَوَّلُ مَا نَزَلَ  - من القرآن -  ، وَرِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ الصَّحِيحَةُ تَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ ، وَسِيَاقُ بَسْطِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْرَأْ .
قَوْلُهُ : ( فَرُعِبْتُ مِنْهُ ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ : فَزِعْتُ ، دَلَّ عَلَى بَقِيَّةٍ بَقِيَتْ مَعَهُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَتْ بِالتَّدْرِيجِ .
قَوْلُهُ : ( فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ زَمِّلُونِي مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي فَنَزَلَتْ  يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ  أَيْ : حَذِّرْ مِنَ الْعَذَابِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ  وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ  أَيْ عَظِّمْ  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ  أَيْ : مِنَ النَّجَاسَةِ ، وَقِيلَ الثِّيَابُ النَّفْسُ ، وَتَطْهِيرُهَا اجْتِنَابُ النَّقَائِصِ ، وَالرُّجْزُ هُنَا الْأَوْثَانُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ ، وَالرُّجْزُ فِي اللُّغَةِ : الْعَذَابُ ، وَسَمَّى الْأَوْثَانَ هُنَا رُجْزًا ; لِأَنَّهَا سَبَبُهُ .
قَوْلُهُ : ( فَحَمِيَ الْوَحْيُ ) أَيْ جَاءَ كَثِيرًا ، وَفِيهِ مُطَابَقَةٌ لِتَعْبِيرِهِ عَنْ تَأَخُّرِهِ بِالْفُتُورِ ، إِذْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى انْقِطَاعٍ كُلِّيٍّ فَيُوصَفُ بِالضِّدِّ وَهُوَ الْبَرَدُ .
قَوْلُهُ : ( وَتَتَابَعَ ) تَأْكِيدُ مَعْنَوِيٌّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِحَمِيَ : قَوِيَ ، وَتَتَابَعَ : تَكَاثَرَ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْوَقْتِ " وَتَوَاتَرَ " ، وَالتَّوَاتُرُ مَجِيءُ الشَّيْءِ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلٍ .
( تَنْبِيهٌ ) : خَرَّجَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِسْنَادِ فِي التَّارِيخِ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ ، ثُمَّ عَنْ جَابِرٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ " تَتَابَعَ " : قَالَ عُرْوَةُ - يَعْنِي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ - وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رَأَيْتُ لِخَدِيجَةَ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ  " قَالَ الْبُخَارِيُّ : يَعْنِي قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ . قُلْتُ : وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي مَنَاقِبِ خَدِيجَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ : ( تَابَعَهُ ) الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ ، وَمُتَابَعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ اللَّيْثِ هَذِهِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي قِصَّةِ مُوسَى . وَفِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ قَوْلُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ : سَمِعْتُ عُرْوَةَ .
قَوْلُهُ : ( وَأَبُو صَالِحٍ ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ ، وَعَلَّقَ عَنِ اللَّيْثِ جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَفْرَادِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ . وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ مَقْرُونًا بِيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ - كَالدِّمْيَاطِيِّ - أَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ الْحَرَّانِيُّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ أَسْنَدَهُ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ كَاتِبِ اللَّيْثِ .
قَوْلُهُ : ( وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ ) بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مُثَقَّلَةٌ ، وَحَدِيثُهُ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ .
قَوْلُهُ : ( وَقَالَ يُونُسُ ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ الْأَيْلِيَّ ، وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ . ( بَوَادِرُهُ ) يَعْنِي أَنَّ يُونُسَ وَمَعْمَرًا رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَوَافَقَا عُقَيْلًا عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا بَدَلَ قَوْلِهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، وَالْبَوَادِرُ جَمْعُ بَادِرَةٌ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ ، فَالرِّوَايَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى الْفَزَعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ غَيْرَ هَذَا فِي أَثْنَاءِ السِّيَاقِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ . وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري
[3] باب حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ.
قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ».
قَالَ «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ».
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ».
قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
[الحديث أطرافه في 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982] .
(حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا بواو العطف (يحيى) أبو زكريا (بن بكير) بضم الموحدة تصغير بكر القرشي المخزومي المصري المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به واسم أبيه عبد الله، (قال: حدّثنا الليث) بالمثلثة ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي عالم أهل مصر من تابعي التابعين، قال أبو نعيم: أدرك نيفًا وخمسين من التابعين القلقشندي المولود سنة ثلاث أو أربع وتسعين، المتوفى في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكان حنفي المذهب فيما قاله ابن خلكان، لكن المشهور أنه مجتهد.
وقد روينا عن الشافعي أنه قال: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه ضيعه قومه.
وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، (عن عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا ابن خالد بن عقيل بفتح العين، الأيليّ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، القرشيّ الأمويّ المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدنيّ تابعيّ صغير، ونسبه المؤلف كغيره إلى جدّه الأعلى لشهرته به، (عن عروة بن الزبير) بالتصغير (عن عائشة أم الؤمنين، رضي الله عنها (أنها قالت أول ما بدىء به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي) إليه (الرؤيا الصالحة في النوم)، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقولها قالها قال: فأخذني فغطني، فيكون قولها أول ما بدىء به حكاية ما تلفظ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فلا يكون من المراسيل.
وقوله: من الوحي أي من أقسام الوحي، فمن للتبعيض.
وقال أبو عبد الله القزاز: ليست الرؤيا من الوحي ومن لبيان الجنس.
وقال الأبّي نعم هي كالوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها.
وفي رواية مسلم كالمصنف في رواية معمر ويونس الصادقة وهي التي ليست فيها ضغث، وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين فهو ْصفة موضحة أو لأن غيرها يسمى حلمًا، أو تخصيص دون السيئة والكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وأهل المعاني يسمونها صفة فارقة.
وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي.
وحينئذ فيكون ابتداء النبوّة بالرؤيا حصل في شهر ربيع وهو شهر مولده.
واحترز بقوله من الوحي عما رآه من دلائل نبوّته من غير وحي كتسليم الحجر عليه كما في مسلم، وأوّله مطلقًا ما سمعه من بحيرا الراهب كما في الترمذي بسند صحيح.
(فكان) بالفاء للأصيلي ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وفي نسخة للأصيلي، وكان أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا يرى رؤيا) بلا تنوين (إلا جاءث مثل فلق الصبح) كرؤياه دخول المسجد الحرام، ومثل نصب بمصدر محذوف، أي إلاّ جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمعنى أنها شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فيكون النصب على الحال، وعبر بفلق الصبح لأن شمس النبوّة قد كانت مبادىء أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها وتم نورها، والفلق: الصبح.
لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص، والبيان إضافة العام إلى الخاص.
وعن أمالي الرافعي حكاية خلاف أنه أوحي إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء من القرآن في النوم أولاً.
وقال: الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة، ووقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه عليه الصلاة والسلام هو جبريل.
ولفظه أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام هو جبريل استعلن، وإنما ابتدىء عليه الصلاة والسلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحتمل القوى البشرية، فبدىء بأوائل خصال النبوة.
(ثم حبب إليه الخلاء) بالمدمصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل، وعبر بحبب المبني لما لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهًا على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصادق قلبًا خاليًا فتمكّنا.
وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًّا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها.
وخلوته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوّة مكتسبة.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (يخلو بغار حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض، قال: وهي لغية وهو مصروف إن أُريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر، وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامها في بيت فقال: حرا وقبا ذكّر وأنّثهما معًا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار نقب فيه.
(فيتحنث فيه) بالحاء المهملة وآخره مثلثة، والضمير المنفصل عائد إلى مصدر يتحنث، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوّب إذا اجتنب الإثم والحوب.
أو هي بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء، (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة.
ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب للمقام، وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي.
ورواية المصنف من طريق يونس عنه في التفسير تدل على الإدراج، والليالي نصب على الظرفية متعلق بقوله يتحنث، لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلب التعبد.
وذوات نصب بالكسرة صفة الليالي، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام.
وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير، ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف ومسلم جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحق أنه شهر رمضان.
قال في قوت الإحياء: ولم يصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر منه، نعم روى الأربعين سوار بن مصعب وهو متروك الحديث.
قاله الحاكم وغيره، وأما قوله تعالى: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] فحجة للشهر، والزيادة إتمامًا للثلاثين حيث استاك أو أكل فيها كسجود السهو فقوي تقييدها بالشهر وأنها سُنّة.
نعم الأربعون ثمرة نتاج النطفة علقة فمضغة فصورة والدر في صدفه.
فإن قلت: أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم؟ أجيب بأنه أوّل ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مرّ.
فدلّ على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة ثم للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق وظهوره مبارك عليه وعلى أمته تأسّيًا وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم.
فإن قلت: لمِ خصّ حراء بالتعبد فيه دون غيره؟ قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره، لأنه منزوٍ مجموع لتحنثه وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة.
وعند ابن إسحق أنه كان يعتكف شهر رمضان، ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر، (قبل أن ينزع) بفتح أوّله وكسر الزاي أي يحن ويشتاق ويرجع(إلى أهله) عياله.
(ويتزود لذلك) برفع الدال في اليونينية لأبوي ذر والوقت عطفًا على يتحنث، أي يتخذ الزاد للخلوة أو التعبد.
(ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها، (فيتزود لمثلها) أي لمثل الليالي وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزوّد بكونه من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السُّنّة لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه.
(حتى جاءه) الأمر (الحق) وهو الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد.
وفاء فجاءه تفسيرية كهي في قوله تعالى: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] تفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق.
(فقال) له (اقرأ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد.
(قال) عليه الصلاة والسلام ولأبوي ذر والوقت قلت (ما أنا بقارىء).
وفي رواية ما أحسن أن أقرأ.
فما نافية واسمها أنا وخبرها بقارىء وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية.
وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحق ماذا أقرأ؟ وبأن الأخفش جوّز دخول الباء على الخبر المثبت، قال ابن مالك في بحسبك زيد أن زيدًا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة، وحسبك خبر مقدّم لأنه نكرة، والباء زائدة فيه.
وفي مرسل عبيد بن عمير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارىء.
قال السهيلي، وقال بعض المفسرين أن قوله تعالى: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل عليه السلام حين قال له اقرأ.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (فأخذني) جبريل (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبري فغتني بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حب النفس.
(حتى بلغ مني الجهد) بفتح الجيم ونصب الدال أي بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي، فهو مفعول حذف فاعله.
وفي شرح المشكاة أن المعنى على النصب أن جبريل بلغ في الجهد غايته، وتعقبه التوربشتي بأنه يعود المعنى إلى جبريل غطه حتى استفرغ قوته وجهد جهده بحيث لم تبق فيه بقية، قال: وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك وداخله الرعب، وحينئذ فمن رواه بالنصب فقد وهم.
وأجاب الطيبي بأن جبريل في حال الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى له بها عند سدرة المنتهى، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له بها وغطه وحينئذ فيضمحل الاستبعاد انتهى.
ويروى الجهد بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه فهو فاعل بلغ.
(ثم أرسلني) أي أطلقني.
(فقال: اقرأ.
قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي فقلت: (ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب وبالضم والرفع كسابقه.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة) وهذا الغط ليفرّغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكنيته إلى ما يلقى إليه.
وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات.
وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولا يذكر الجهد هنا، نعم هو ثابت عنده في التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وعدّ بعضهم هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يناقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق).
قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله: باسم ربك حال.
أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدل على أن البسملةمأمور بها في ابتداء كل قراءة.
وقوله: ربك الذي خلق، وصف مناسب مُشعِر بعلية الحكم بالقراءة.
والإطلاق في قوله خلق أوّلاً على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله: ({ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ) الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور أنه أوّل ما نزل.
وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى { مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي المرشد أوّل ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل هذا الموضع { مَا لَمْ يَعْلَمْ} طوى النمط، ومن ثم قال القرّاء: إنه وقف تام.
وقال: من علق، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإنسان في معنى الجمع.
وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه.
(فرجع بها) أي بالآيات (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى أهله حال كونه (يرجف) بضم الجيم يخفق ويضطرب، (فؤاده) قلبه أو باطنه أو غشاؤه لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمأَلوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوّة لا تزيك طباع البشرية كلها (فدخل) عليه الصلاة والسلام (على خديجة بنت خويلد) أم المؤمنين (رضي الله عنها) التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له (فقال) عليه الصلاة والسلام: (زمّلوني زمّلوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف.
وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع، (فقال) عليه الصلاة والسلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر) جملة حالية (لقد) أي والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الرعب، أو المرض، كما جزم به في بهجة النفوس أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أوّلاً عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله وأكد باللاء وقد تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة.
(فقالت) له عليه الصلاة والسلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قالت بإسقاط الفاء (كلا) نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك أو لا خوف عليك، (والله ما يخزيك الله أبدًا) بضم المثناة التحتية وبالخاء المعجمة الساكنة والزاي المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة من الخزي، أي ما يفضحك الله.
ولأبي ذر عن الكشميهني ما يحزنك الله بفتح أوّله وبالحاء المهملة الساكنة والزاي المضمومة أو بضم أوّله مع كسر الزاي وبالنون من الحزن، يقال حزنه وأحزنه.
(إنك) بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال العلاّمة البدر الدماميني: وفصلت هذه الجملة عن الأولى لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو سؤال عن سبب خاص، فحسن التأكيد.
وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك لسبب عظيم، فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل: هل سبب ذلك هو الاتّصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف كما يشير إليه كلامك، قالت: إنك (لتصل الرحم) أي القرابة، (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو الذي لا يستقل بأمره، أو الثقل بكسر المثلثة وإسكان القاف، (وتكسب المعدوم) بفتح المثناة الفوقية، أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.
وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو كسبت المال، وإلى اثنين نحو كسبت غيري المال وهذا منه.
ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني وتكسب بضم أوّله من أكسب، أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تتبرع به له، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، أو تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم.
والرواية الأولى أصح كما قاله عياض، والرواية الثانية قال الخطابي: الصواب العدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.
وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب الأزهري عن ابن الأعرابي رجل عديم لا عقل له، ومعدوم لا مال له، قال في المصابيح: "كأنهم نزلوا وجود من لا مال لهمنزلة العدم".
(وتقري الضيف) بفتح أوّله بلا همز ثلاثيًا قال الآبي وسمع بضمها رباعيًّا، أي تهيىء له طعامه ونزله.
(وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه، وإنما قالت نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل.
قال لبيد: نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشرّ لازب ولذلك أضافتها إلى الحق، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد بأن.
واللام، لتنزيل حيرته ودهشته واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامع لأصول مكارم الأخلاق.
وفيه دليل على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير.
(فانطلقت) أي مضت (به خديجة) رضي الله عنها مصاحبة له لأنها تلزم الفعل اللازم المعدى بالباء بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة) بنصب ابن الأخير بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره لأنه يصير صفة لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف ولا تحذف لأنه لم يقع بين علمين وراء ورقة مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد لأنها بنت خويلد بن أسد.
(وكان) ورقة (امرأً قد) ترك عبادة الأوثان و (تنصَّر)، وللأربعة وكان امرأ تنصر، (في الجاهلية) بإسقاط قد، وذلك أنه خرج هو ويزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، (وكان) ورقة أيضًا (يكتب الكتاب العبراني) أي الكتابة العبرانية، وفي مسلم كالبخاري في الرؤيا الكتاب العربي، وصححه الزركشي باتفاقهما، (فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب) أي الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد والعبرانية بكسر العين فيها نسبة إلى العبر بكسر العين وإسكان الموحدة، زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس.
قيل سميت بذلك لأن الخليل عليه السلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وعن سفيان ما نزل من السماء وحي إلا بالعربية، وكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها، والباء في بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب، أي يكتب باللغة العبرانية من الإنجيل.
وذلك لتمكنه في دين النصارى ومعرفته بكتابهم.
(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي فقالت له خديجة) رضي الله تعالى عنها: (يا ابن عمّ اسمع) بهمرّة وصل (من ابن أخيك) تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو قالته على سبيل الاحترام، (فقال له) عليه السلام (ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبر ما) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني بخبر ما (رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس) بالنون والسين المهملة وهو صاحب السرّ كما عند المؤلف في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن دريد: هو صاحب سرّ الوحي والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونزل بحذف الهمزة يستعمل فيما نزل نجومًا، وللكشميهني أنزل الله ويستعمل فيما نزل جملة، وفي التفسير أنزل مبنيًّا للمفعول.
فإن قلت: لم قال موسى ولم يقل عيسى مع كونه أي ورقة نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام وكذلك كتاب نبينا عليه الصلاة والسلام بخلاف عيسى، فإن كتابه أمثال ومواعظ أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوّته، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ عيسى، (يا ليتني فيها) أي في مدة النبوة أو الدعوة، وجعل أبو البقاء المنادى محذوفًا أي يا محمد، وتعقب بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى كقول مريم " { يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 23] ، وأجيب بأنه قد يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا فيخاطبها، كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني متُّ، وتقديره هنا ليتني أكون في أيام الدعوة، (جذعًا) بفتح الجيموالمعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت قوله فيها أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوة لأنصرك، أو على أن ليت تنصب الجزأين، أو بفعل محذوف أي جعلت فيها جزعًا.
وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي جذع بالرفع خبر ليت، وحينئذ فالجار يتعلق بما فيه من معنى الفعل كأنه قال: يا ليتني شاب فيها، والرواية الأولى أكثر وأشهر، والجذع هو الصغير من البهائم، واستعير للإنسان، أي يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوّتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك.
(ليتني) وللأصيلى يا ليتني (أكون حيًّا إذ يخرجك قومك) من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] .
قال ابن ملك: وهو صحيح، وتعقبه البلقيني بأن النحاة منعوا وروده وأوّلوا ما ظاهره ذلك، فقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالّة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته.
ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وهو على سبيل المجاز كالأوّل، وعورض بأن المؤولين ليسوا النحويين بل البيانيون، وبأنه كيف يمنع وروده مع وجوده في أفصح الكلام؟ وأجيب بأنه لعله أراد بمنع الورود ورودًا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال.
فإن قلت: كيف تمنى ورقة مستحيلاً وهو عود الشباب؟ أجيب: بأنه يسوغ تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، أو بأن التمني ليس مقصودًا على بابه، بل المراد به التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوّة تصديقه فيما يجيء به، أو قاله على سبيل التحسّر لتحقّقه عدم عود الشباب.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أو) بفتح الواو (مخرجيَّ هم) بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت سابقة الواو كسرة وفتحت ياء مخرجيّ تخفيفًا، وهم مبتدأ خبره مخرجيّ مقدمًا، ولا يجوز العكس لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مخرجيّ غير محضة لأنها لفظية لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، والهمزة للاستفهام الإنكاري لأنه استبعد إخراجه عن الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك، فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم محل الروح من الجسد.
فإن قلت: الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو: { فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] و { فَأَيْنَ تَذْهَبُون} [التكوير: 26] وحينئذ ينبغي أن يقول هنا وأمخرجيّ، لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف؟ أجيب: بأن الهمزة خصّت بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام وهو له الصدر نحو: أو لم ينظروا، أفلم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور.
وقال جار الله وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي وإن العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف والتقدير أمعاديّ هم ومخرجيّ هم؟ وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر.
فإن قلت: كيف عطف قوله أو مخرجيّ هم وهو إنشاء على قول ورقة: إذ يخرجك قومك وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، وأيضًا فهو عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف؟ أجيب بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربية جوازه، وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح، وأما المانعون فعلى التقدير المذكور.
وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، بل هذا هو الظاهر، فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، الذي هو ظرف متعلق بها، والتمني إنشاء فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء.
وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم والكلام الفصيح.
قال تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] .
(قال)ورقة (نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به) من الوحي (إلا عُودي) لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركني) بالجزم بأن الشرطية (يومك) بالرفع فاعل يدركني، أي يوم انتشار نبوّتك، (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزًا، أي قويًّا بليغًا وهو صفة لنصرًا، ولما كان ورقة سابقًا واليوم متأخرًا أسند الإدراك لليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق، وهذا ظاهره أنه أقرّ بنبوّته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا.
وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحق، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل، الحديث.
وفي آخره فلما توفي قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه في الدلائل، وقال: إنه منقطع، ومال البلقيني إلى أنه يكون بذلك أوّل من أسلم من الرجال، وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده في الصحابة.
(ثم لم ينشب) بفتح المثناة التحتية والمعجمة أي لم يلبث (ورقة) بالرفع فاعل ينشب (أن توفي) بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهو بدل اشتمال من ورقة أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موت ورقة فقال الواقدي: إنه خرج إلى الشام فلما بلغه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده حتى إذا كان ببلاد لخم وجذام قتلوه وأخذوا ما معه وهذا غلط بين، فإنه مات بمكة بعد المبعث بقليل جدًّا ودفن بمكة كما نقله البلاذري وغيره، ويعضد قوله هنا وكذا في مسلم، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
(وفتر الوحي) أي احتبس ثلاث سنين كما في تاريخ أحمد، وجزم به ابن إسحق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف، وزاد معمر عن الزهري في التعبير حتى حزن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك من جهة الإسناد والمتن والمعنى في سورة اقرأ من التفسير.
فإن قلت: إن قوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي معارض بما عند ابن إسحق في السبرة أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم، فإنه يقتضي تأخره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام.
أجيب: بأنّا لا نسلم المعارضة لأن شرطها المساواة.
وما روي في السيرة لا يقاوم ما في الصحيح، ولئن سلمنا فلعل راوي ما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئًا.
ومن ثم جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وحينئذ فتكون الواو في قوله: وفتر الوحي ليست للترتيب.
ورواة هذا الحديث ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه تابعيّ عن تابعي، وأخرجه المؤلف في التفسير والتعبير والإيمان، ومسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في التفسير.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري
[3] (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا قَالَت أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء وَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء فَيَتَحَنَّث فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذوت الْعدَد قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ اقْرَأ قَالَ مَا أَنا بقاريء قَالَ فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ قلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ فَقلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّالِثَة ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرجف فُؤَاده فَدخل على خَدِيجَة بنت خويلد رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع فَقَالَ لِخَدِيجَة وأخبرها الْخَبَر لقد خشيت على نَفسِي فَقَالَت خَدِيجَة كلا وَالله مَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى ابْن عَم خَدِيجَة وَكَانَ امْرأ تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمي فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة يَا ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك فَقَالَ لَهُ ورقة يَا ابْن أخي مَاذَا ترى فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر مَا رأى فَقَالَ لَهُ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي نزل الله على مُوسَى يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا لَيْتَني أكون حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلمأَو مخرجي هم قَالَ نعم لم يَأْتِ رجل قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي وفتر الْوَحْي قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثه بَينا أَنا أَمْشِي إِذْ سَمِعت صَوتا من السَّمَاء فَرفعت بَصرِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالس على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَرُعِبْت مِنْهُ فَرَجَعت فَقلت زَمِّلُونِي فَأنْزل الله تَعَالَى يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر إِلَى قَوْله وَالرجز فاهجر فحمي الْوَحْي وتتابع تَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره) هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لم تدْرك هَذِه الْقَضِيَّة فَتكون سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ.


     وَقَالَ  ابْن الصّلاح وَغَيره مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره من أَحْدَاث الصَّحَابَة مِمَّا لم يحضروه وَلم يدركوه فَهُوَ فِي حكم الْمَوْصُول الْمسند لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة وجهالة الصَّحَابِيّ غير قادحة.


     وَقَالَ  الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق الإسفرايني لَا يحْتَج بِهِ إِلَّا أَن يَقُول أَنه لَا يرْوى إِلَّا عَن صَحَابِيّ.
قَالَ النَّوَوِيّ وَالصَّوَاب الأول وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور.
.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ الظَّاهِر أَنَّهَا سَمِعت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقولها قَالَ فأخذني فغطني فَيكون قَوْلهَا أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة مَا تلفظ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَقَوْلِه تَعَالَى {قل للَّذين كفرُوا ستغلبون} بِالتَّاءِ وَالْيَاء قلت لم لَا يجوز أَن يكون هَذَا بطرِيق الْحِكَايَة عَن غَيره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يكون سماعهَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وعَلى كل تَقْدِير فَالْحَدِيث فِي حكم الْمُتَّصِل الْمسند.
(بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الله بن بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمصْرِيّ نسبه البُخَارِيّ إِلَى جده يدلسه ولد سنة أَربع وَقيل خمس وَخمسين وَمِائَة وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من كبار حفاظ المصريين وَأثبت النَّاس فِي اللَّيْث بن سعد روى البُخَارِيّ عَنهُ فِي مَوَاضِع وروى عَن مُحَمَّد بن عبد الله هُوَ الذهلي عَنهُ فِي مَوَاضِع قَالَه أَبُو نصر الكلاباذي.


     وَقَالَ  الْمَقْدِسِي تَارَة يَقُول حَدثنَا مُحَمَّد وَلَا يزِيد عَلَيْهِ وَتارَة مُحَمَّد بن عبد الله وَإِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن ذُؤَيْب الذهلي وَتارَة ينْسبهُ إِلَى جده فَيَقُول مُحَمَّد بن عبد الله وَتارَة مُحَمَّد بن خَالِد بن فَارس وَلم يقل فِي مَوضِع حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى وروى مُسلم حَدثنَا عَن أبي زرْعَة عَن يحيى وروى ابْن ماجة عَن رجل عَنهُ قَالَ أَبُو حَاتِم كَانَ يفهم هَذَا الشَّأْن وَلَا يحْتَج بِهِ يكْتب حَدِيثه.


     وَقَالَ  النَّسَائِيّ لَيْسَ بِثِقَة وَوَثَّقَهُ غَيرهمَا.


     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ عِنْدِي مَا بِهِ بَأْس وَأخرج لَهُ مُسلم عَن اللَّيْث وَعَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن وَلم يخرج لَهُ عَن مَالك شَيْئا وَلَعَلَّه وَالله أعلم لقَوْل الْبَاجِيّ وَقد تكلم أهل الحَدِيث فِي سَمَاعه الْمُوَطَّأ عَن مَالك مَعَ أَن جمَاعَة قَالُوا هُوَ أحد من روى الْمُوَطَّأ عَن مَالك.
الثَّانِي اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحَارِث الفهمي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ عَالم أهل مصر من تَابِعِيّ التَّابِعين مولى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر الفهمي وَقيل مولى خَالِد بن ثَابت وَفهم من قيس غيلَان ولد بقلقشندة على نَحْو أَربع فراسخ من الْقَاهِرَة سنة ثَلَاث أَو أَربع وَتِسْعين وَمَات فِي شعْبَان سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وقبره فِي قرافة مصر يزار وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا مجمعا على جلالته وثقته وَكَرمه وَكَانَ على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة قَالَه القَاضِي ابْن خلكان وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه اللَّيْث بن سعد سواهُ نعم فِي الروَاة ثَلَاثَة غَيره أحدهم مصري وكنيته أَبُو الْحَرْث أَيْضا وَهُوَ ابْن أخي سعيد بن الحكم.
وَالثَّانِي يرْوى عَن ابْن وهب ذكرهمَا ابْن يُونُس فِي تَارِيخ مصر.
وَالثَّالِث تنيسي حدث عَن بكر بن سهل الثَّالِث أَبُو خَالِد عقيل بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف ابْن خَالِد بن عقيل بِفَتْح الْعين الأيلى بِالْمُثَنَّاةِ تَحت الْقرشِي الْأمَوِي مولى عُثْمَان بن عَفَّان الْحَافِظ مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقيل سنة أَربع بِمصْر فَجْأَة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه عقيل بِضَم الْعين غَيره الرَّابِع هُوَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد الله بن شهَاب بن عبد الله بن الْحَرْثابْن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي الزُّهْرِيّ الْمدنِي سكن الشَّام وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير سمع أنسا وَرَبِيعَة بن عباد وخلقا من الصَّحَابَة وَرَأى ابْن عمر وروى عَنهُ وَيُقَال سمع مِنْهُ حديثين وَعنهُ جماعات من كبار التَّابِعين مِنْهُم عَطاء وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمن صغارهم وَمن الأتباع أَيْضا مَاتَ بِالشَّام وَأوصى بِأَن يدْفن على الطَّرِيق بقرية يُقَال لَهَا شغب وبدا فِي رَمَضَان سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَسبعين سنة قلت شغب بِفَتْح الشين وَسُكُون الْغَيْن المعجمتين وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وبدا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَقد مر ذكرهمَا (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن هَذَا الْإِسْنَاد على شَرط السِّتَّة إِلَّا يحيى فعلى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَمِنْهَا أَن رِجَاله مَا بَين مصري ومدني وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة (بَيَان تعدد الحَدِيث وَمن أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير وَالتَّعْبِير عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن مَرْوَان عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة عَن أبي صَالح سلمويه عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس وَفِي الْإِيمَان عَن أبي رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عبد الْملك عَن أَبِيه عَن جده عَن عقيل وَعَن أبي الطَّاهِر عَن أبي وهب عَن يُونُس كلهم عَن الزُّهْرِيّ وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أول مَا بدىء بِهِ قد ذكر بَعضهم أول الشَّيْء فِي بَاب أول وَبَعْضهمْ فِي بَاب وأل وَذكره الصغاني فِي هَذَا الْبَاب.


     وَقَالَ  الأول نقيض الآخر وَأَصله أوأل على وزن أفعل مَهْمُوز الْوسط قلبت الْهمزَة واوا وأدغمت الْوَاو فِي الْوَاو وَيدل على هَذَا قَوْلهم هَذَا أول مِنْك وَالْجمع الْأَوَائِل والأوالىء على الْقلب.


     وَقَالَ  قوم أَصله وول على وزن فوعل فقلبت الْوَاو الأولى همزَة وَإِنَّمَا لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجْتِمَاع واوين بَينهمَا ألف الْجمع وَهُوَ إِذا جعلته صفة لم تصرفه تَقول لَقيته عَاما أول وَإِذا لم تَجْعَلهُ صفة صرفته تَقول لَقيته عَاما أَولا قَالَ ابْن السّكيت وَلَا تقل عَام الأول.


     وَقَالَ  أَبُو زيد يُقَال لَقيته عَام الأول وَيَوْم الأول بجر آخِره وَهُوَ كَقَوْلِك أتيت مَسْجِد الْجَامِع.


     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي هَذَا من بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَعته قَوْله بدىء بِهِ من بدأت بالشَّيْء بَدَأَ ابتدأت بِهِ وبدأت الشَّيْء فعلته ابْتِدَاء وَبَدَأَ الله الْخلق وأبدأهم بِمَعْنى قَوْله من الْوَحْي قد مر تَفْسِير الْوَحْي مُسْتَوْفِي قَوْله الرُّؤْيَا على وزن فعلى كحبلى يُقَال رأى رُؤْيا بِلَا تَنْوِين وَجَمعهَا روى بِالتَّنْوِينِ على وزن دعى قَوْله فلق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَاللَّام وَهُوَ ضِيَاء الصُّبْح وَكَذَلِكَ فرق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا فِي الشَّيْء الْبَين الْوَاضِح وَيُقَال الْفرق أبين من فلق الصُّبْح قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فالق الإصباح} ضوء الشَّمْس وضوء الْقَمَر بِاللَّيْلِ حَكَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب التَّعْبِير وَيُقَال الفلق مصدر كالانفلاق وَفِي الْمطَالع قَالَ الْخَلِيل الفلق الصُّبْح قلت فعلى هَذَا تكون الْإِضَافَة فِيهِ للتخصيص وَالْبَيَان وَيُقَال الفلق الصُّبْح لكنه لما كَانَ مُسْتَعْملا فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي غَيره أضيف إِلَيْهِ إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص كَقَوْلِهِم عين الشَّيْء وَنَفسه.
وَفِي الْعباب يُقَال هُوَ أبين من فلق الصُّبْح وَمن فرق الصُّبْح وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح أَي مبينَة مثل مجىء الصُّبْح قَالَ الْكرْمَانِي وَالصَّحِيح أَنه بِمَعْنى المفلوق وَهُوَ اسْم للصبح فأضيف أَحدهمَا إِلَى الآخر لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَقد جَاءَ الفلق مُنْفَردا عَن الصُّبْح قَالَ تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} قلت تنصيصه على الصَّحِيح غير صَحِيح بل الصَّحِيح أَنه إِمَّا اسْم للصبح وجوزت الْإِضَافَة فِيهِ لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَإِمَّا مصدر بِمَعْنى الانفلاق وَهُوَ الانشقاق من فلقت الشَّيْء أفلقه بِالْكَسْرِ فلقا إِذا شققته وَأما الفلق فِي الْآيَة فقد اخْتلف الْأَقْوَال فِيهِ.
قَوْله الْخَلَاء بِالْمدِّ وَهُوَ الْخلْوَة يُقَال خلا الشَّيْء يَخْلُو خلوا وخلوت بِهِ خلْوَة وخلاء وَالْمُنَاسِب هَهُنَا أَن يُفَسر الْخَلَاء بِمَعْنى الاختلاء أَو بالخلاء الَّذِي هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا شَيْء بِهِ على مَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق من الْمعَانِي الدقيقة.
قَوْله بِغَار حراء الْغَار بالغين الْمُعْجَمَة فسره جَمِيع شرَّاح البُخَارِيّ بِأَنَّهُ النقب فِي الْجَبَل وَهُوَ قريب من معنى الْكَهْف قلت الْغَار هُوَ الْكَهْف وَفِي الْعباب الْغَار كالكهف فِي الْجَبَل وَيجمع على غيران ويصغر على غوير فتصغيره يدل على أَنه واوي فَلذَلِك ذكره فِي الْعباب فِي فصل غور وحراء بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء بِالْمدِّ وَهُوَ مَصْرُوف على الصَّحِيح وَمِنْهُم من منع صرفه وَيذكر على الصَّحِيح أَيْضا وَمِنْهُم من أنثه وَمِنْهُم من قصره أَيْضا فَهَذِهِ سِتّ لُغَات قَالَ القَاضِيعِيَاض يمد وَيقصر وَيذكر وَيُؤَنث وَيصرف وَلَا يصرف والتذكير أَكثر فَمن ذكره صرفه وَمن أنثه لم يصرفهُ يَعْنِي على إِرَادَة الْبقْعَة أَو الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْجَبَل وَضَبطه الْأصيلِيّ بِفَتْح الْحَاء وَالْقصر وَهُوَ غَرِيب.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ الْعَوام يخطؤن فِي حراء فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع يفتحون الْحَاء وَهِي مَكْسُورَة ويكسرون الرَّاء وَهِي مَفْتُوحَة ويقصرون الْألف وَهِي ممدودة.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ الْعَامَّة لحنت فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فتح الْحَاء وَقصر الْألف وَترك صرفه وَهُوَ مَصْرُوف فِي الِاخْتِيَار لِأَنَّهُ اسْم جبل.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي إِذا جَمعنَا بَين كلاميهما يلْزم اللّحن فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَهُوَ من الغرائب إِذْ بِعَدَد كل حرف لحن.
وَلقَائِل أَن يَقُول كسر الرَّاء لَيْسَ بلحن لِأَنَّهُ بطرِيق الإمالة وَهُوَ جبل بَينه وَبَين مَكَّة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال عَن يسارك إِذا سرت إِلَى منى لَهُ قلَّة مشرفة إِلَى الْكَعْبَة منحنية وَذكر الْكَلْبِيّ أَن حراء وثبير سميا باسمي ابْني عَم عَاد الأولى.
قلت ثبير بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ جبل يرى من منى والمزدلفة قَوْله فَيَتَحَنَّث بِالْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ النُّون ثمَّ الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَقد فسره فِي الحَدِيث بِأَنَّهُ التَّعَبُّد.


     وَقَالَ  الصغاني التحنث إِلْقَاء الْحِنْث يُقَال تَحنث أَي تنحى عَن الْحِنْث وتأثم أَي تنحى عَن الْإِثْم وتحرج أَي تنحى عَن الْحَرج وتحنث اعتزل الْأَصْنَام مثل تحنف.
وَفِي الْمطَالع يَتَحَنَّث مَعْنَاهُ يطْرَح الْإِثْم عَن نَفسه بِفعل مَا يُخرجهُ عَنهُ من الْبر وَمِنْه قَول حَكِيم أَشْيَاء كنت أتحنث وَفِي رِوَايَة كنت أتبرر بهَا أَي أطلب الْبر بهَا وأطرح الْإِثْم وَقَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَلَا أتحنث إِلَى نذري أَي أكتسب الْحِنْث وَهُوَ الذَّنب وَهَذَا عكس مَا تقدم.
.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ وَنَظِيره فِي الْكَلَام التحوب والتأثم أَي ألْقى الْحُوب وَالْإِثْم عَن نَفسه قَالُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامهم تفعل فِي هَذَا الْمَعْنى غير هَذِه.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي هَذِه شَهَادَة نفي كَيفَ وَقد ثَبت فِي الْكتب الصرفية أَن بَاب تفعل يَجِيء للتجنب كثيرا نَحْو تحرج وتخون أَي اجْتنب الْحَرج والخيانة وَغير ذَلِك.
قلت جَاءَت مِنْهُ أَلْفَاظ نَحْو تَحنث وتأثم وتحرج وتحوب وتهجد وتنجس وتقذر وتحنف.


     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ فلَان يتهجد إِذا كَانَ يخرج من الهجود وتنجس إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ عَن النَّجَاسَة.


     وَقَالَ  أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمُنْتَهى تَحنث تعبد مثل تحنف وَفُلَان يَتَحَنَّث من كَذَا بِمَعْنى يتأثم فِيهِ وَهُوَ أحد مَا جَاءَ تفعل إِذا تجنب وَألقى عَن نَفسه.
.


     وَقَالَ  السُّهيْلي التحنث التبرر تفعل من الْبر وَتفعل يَقْتَضِي الدُّخُول فِي الشَّيْء وَهُوَ الْأَكْثَر فِيهَا مثل تفقه وَتعبد وتنسك وَقد جَاءَت أَلْفَاظ يسيرَة تُعْطِي الْخُرُوج عَن الشَّيْء وإطراحه كالتأثم والتحرج والتحنث بالثاء الْمُثَلَّثَة لِأَنَّهُ من الْحِنْث والحنث الْحمل الثقيل وَكَذَلِكَ التقذر إِنَّمَا هُوَ تبَاعد عَن القذر وَأما التحنف بِالْفَاءِ فَهُوَ من بَاب التَّعَبُّد.


     وَقَالَ  الْمَازرِيّ يَتَحَنَّث يفعل فعلا يخرج بِهِ من الْحِنْث والحنث الذَّنب.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ هَذَا من المشكلات وَلَا يَهْتَدِي لَهُ سوى الحذاق وَسُئِلَ ابْن الْأَعرَابِي عَن قَوْله يَتَحَنَّث فَقَالَ لَا أعرفهُ وَسَأَلت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فَقَالَ لَا أعرف يَتَحَنَّث إِنَّمَا هُوَ يتحنف من الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قلت قد وَقع فِي سيرة ابْن هِشَام يتحنف بِالْفَاءِ قَوْله قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله بِكَسْر الزَّاي أَي قبل أَن يرجع وَقد رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك يُقَال نزع إِلَى أَهله إِذا حن إِلَيْهِم فَرجع إِلَيْهِم يُقَال هَل نزعك غَيره أَي هَل جَاءَ بك وجذبك إِلَى السّفر غَيره أَي غير الْحَج وناقة نَازع إِذا حنت إِلَى أوطانها ومرعاها وَهُوَ من نزع ينْزع بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل.


     وَقَالَ  صَاحب الْأَفْعَال وَالْأَصْل فِي فعل يفعل إِذا كَانَ صَحِيحا وَكَانَت عينه أَو لامه حرف حلق أَن يكون مضارعه مَفْتُوحًا إِلَّا أفعالا يسيرَة جَاءَت بِالْفَتْح وَالضَّم مثل جنح يجنح ودبغ يدبغ وَإِلَّا مَا جَاءَ من قَوْلهم نزع ينْزع بِالْفَتْح وَالْكَسْر وهنأ يهنىء.


     وَقَالَ  غَيره هنأني الطَّعَام يهنأني ويهنأني بِالْفَتْح وَالْكَسْر قلت قَاعِدَة عِنْد الصرفيين أَن كل مَادَّة تكون من فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا يلْزم أَن يكون فِيهَا حرف من حُرُوف الْحلق وكل مَادَّة من الْمَاضِي والمضارع فيهمَا حرف من حُرُوف الْحلق لَا يلْزم أَن يكون من بَاب فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا فَافْهَم.
والأهل فِي اللُّغَة الْعِيَال وَفِي الْعباب آل الرجل أَهله وَعِيَاله وَآله أَيْضا أَتْبَاعه.


     وَقَالَ  أنس رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من آل مُحَمَّد قَالَ كل تَقِيّ وَالْفرق بَين الْآل والأهل أَن الْآل يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف بِخِلَاف الْأَهْل فَإِنَّهُ أَعم وَأما قَوْله تَعَالَى {كدأب آل فِرْعَوْن} فلتصوره بِصُورَة الْأَشْرَاف.


     وَقَالَ  ابْن عَرَفَة أَرَادَ من آل فِرْعَوْن من آل إِلَيْهِ بدين أَو مَذْهَب أَو نسب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} قَوْله ويتزود من التزود وَهُوَ اتِّخَاذ الزَّاد والزاد هُوَ الطَّعَام الَّذِي يستصحبه الْمُسَافِر يُقَال زودته فتزود قَوْله فغطني بالغين الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة أَيضغطني وعصرني يُقَال غطني وغشيني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني كُله بِمَعْنى قَالَ الْخطابِيّ وَمِنْه الغط فِي المَاء وغطيط النَّائِم ترديد النَّفس إِذا لم يجد مساغا عِنْد انضمام الشفتين والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد أَو الثَّوْب على الْفَم وَالْأنف والغط الخنق وتغييب الرَّأْس فِي المَاء قَالَ الْخطابِيّ والغط فِي الحَدِيث الخنق قَوْله الْجهد بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَمَعْنَاهُ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة وَفِي الْمُحكم الْجهد والجهد الطَّاقَة وَقيل الْجهد الْمَشَقَّة والجهد الطَّاقَة وَفِي الموعب الْجهد مَا جهد الْإِنْسَان من مرض أَو من مشاق والجهد بلوغك غَايَة الْأَمر الَّذِي لَا تألو عَن الْجهد فِيهِ وجهدته بلغت مشقته وأجهدته على أَن يفعل كَذَا.


     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد جهدته حَملته على أَن يبلغ مجهوده.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي جهد فِي الْعَمَل وأجهد.


     وَقَالَ  أَبُو عَمْرو أجهد فِي حَاجَتي وَجهد.


     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي جهدت لَك نَفسِي وأجهدت نَفسِي قَوْله ثمَّ أَرْسلنِي أَي أطلقني من الْإِرْسَال قَوْله علق بتحريك اللَّام وَهُوَ الدَّم الغليظ والقطعة مِنْهُ علقَة قَوْله يرجف فُؤَاده أَي يخْفق ويضطرب والرجفان شدَّة الْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب وَفِي الْمُحكم رجف الشَّيْء يرجف رجفا ورجوفا ورجفانا ورجيفا وأرجف خَفق واضطرب اضطرابا شَدِيدا والفؤاد هُوَ الْقلب وَقيل أَنه عين الْقلب وَقيل بَاطِن الْقلب وَقيل غشاء الْقلب وَسمي الْقلب قلبا لتقلبه.


     وَقَالَ  اللَّيْث الْقلب مُضْغَة من الْفُؤَاد معلقَة بالنياط وَسمي قلبا لتقلبه قَوْله زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات بالتكرار وَهُوَ من التزميل وَهُوَ التلفيف والتزمل الاشتمال والتلفف وَمِنْه التدثر وَيُقَال لكل مَا يلقى على الثَّوْب الَّذِي يَلِي الْجَسَد دثار وأصل المزمل والمدثر المتزمل والمتدثر أدغمت التَّاء فِيمَا بعْدهَا قَوْله الروع بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الْفَزع وَفِي الْمُحكم الروع والرواع والتروع الْفَزع.


     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ هُوَ بِالضَّمِّ مَوضِع الْفَزع من الْقلب قَوْله كلا مَعْنَاهُ النَّفْي والردع عَن ذَلِك الْكَلَام وَالْمرَاد هَهُنَا التَّنْزِيه عَنهُ وَهُوَ أحد مَعَانِيهَا وَقد يكون بِمَعْنى حَقًا أَو بِمَعْنى إِلَّا الَّتِي للتّنْبِيه يستفتح بهَا الْكَلَام وَقد جَاءَت فِي الْقُرْآن على أَقسَام جمعهَا ابْن الْأَنْبَارِي فِي بَاب من كتاب الْوَقْف والابتداء لَهُ وَهِي مركبة عِنْد ثَعْلَب من كَاف التَّشْبِيه وَلَا النافية قَالَ وَإِنَّمَا شددت لامها لتقوية الْمَعْنى ولدفع توهم بَقَاء معنى الْكَلِمَتَيْنِ وَعند غَيره هِيَ بسيطة وَعند سِيبَوَيْهٍ والخليل والمبرد والزجاج وَأكْثر الْبَصرِيين حرف مَعْنَاهُ الردع والزجر لَا معنى لَهَا عِنْدهم إِلَّا ذَلِك حَتَّى يجيزون أبدا الْوَقْف عَلَيْهَا والابتداء بِمَا بعْدهَا وَحَتَّى قَالَ جمَاعَة مِنْهُم مَتى سَمِعت كلا فِي سُورَة فاحكم بِأَنَّهَا مَكِّيَّة لِأَن فِيهَا معنى التهديد والوعيد وَأكْثر مَا نزل ذَلِك بِمَكَّة لِأَن أَكثر العتو كَانَ بهَا قَالُوا وَقد تكون حرف جَوَاب بِمَنْزِلَة أَي وَنعم وحملوا عَلَيْهِ {كلا وَالْقَمَر} فَقَالُوا مَعْنَاهُ أَي وَالْقَمَر قَوْله مَا يخزيك الله بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالخاء الْمُعْجَمَة من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان وأصل الخزي على مَا ذكره ابْن سَيّده الْوُقُوع فِي بلية وشهوة بذلة وأخزى الله فلَانا أبعده قَالَه فِي الْجَامِع وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ يحزنك بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالنون من الْحزن وَيجوز على هَذَا فتح الْيَاء وَضمّهَا يُقَال حزنه وأحزنه لُغَتَانِ فصيحتان قرىء بهما فِي السَّبع.


     وَقَالَ  اليزيدي أحزنه لُغَة تَمِيم وحزنه لُغَة قُرَيْش قَالَ تَعَالَى {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} من حزن.


     وَقَالَ  {ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ} من أَحْزَن على قِرَاءَة من قَرَأَ بِضَم الْيَاء والحزن خلاف السرُور يُقَال حزن بِالْكَسْرِ يحزن حزنا إِذا اغتم وحزنه غَيره وأحزنه مثل شكله وأشكله وَحكى عَن أبي عَمْرو أَنه قَالَ إِذا جَاءَ الْحزن فِي مَوضِع نصب فتحت الْحَاء وَإِذا جَاءَ فِي مَوضِع رفع وجر ضممت وقرىء {وابيضت عَيناهُ من الْحزن}.


     وَقَالَ  {تفيض من الدمع حزنا} قَالَ الْخطابِيّ وَأكْثر النَّاس لَا يفرقون بَين الْهم والحزن وهما على اخْتِلَافهمَا يتقاربان فِي الْمَعْنى إِلَّا أَن الْحزن إِنَّمَا يكون على أَمر قد وَقع والهم إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يتَوَقَّع وَلَا يكون بعد قَوْله لتصل الرَّحِم قَالَ الْقَزاز وصل رَحمَه صلَة وَأَصله وصلَة فحذفت الْوَاو كَمَا قَالُوا زنة من وزن وأصل صل هُوَ أَمر من وصل أوصل حذفت الْوَاو تبعا لفعله فاستغنى عَن الْهمزَة فحذفت فَصَارَ صل على وزن عل وَمعنى لتصل الرَّحِم تحسن إِلَى قراباتك على حسب حَال الْوَاصِل والموصول إِلَيْهِ فَتَارَة تكون بِالْمَالِ وَتارَة تكون بِالْخدمَةِ وَتارَة بالزيارة وَالسَّلَام وَغير ذَلِك وَالرحم الْقَرَابَة وَكَذَلِكَ الرَّحِم بِكَسْر الرَّاء قَوْله وَتحمل الْكل بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام وَأَصله الثّقل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} وَأَصله من الكلال وَهُوَ الإعياء أَي ترفع الثّقل أَرَادَ تعين الضَّعِيف الْمُنْقَطع وَيدخل فِي حمل الْكل الْإِنْفَاقعلى الضَّعِيف واليتيم والعيال وَغير ذَلِك لِأَن الْكل من لَا يسْتَقلّ بأَمْره.


     وَقَالَ  الدَّاودِيّ الْكل الْمُنْقَطع قَوْله وتكسب الْمَعْدُوم بِفَتْح التَّاء هُوَ الْمَشْهُور الصَّحِيح فِي الرِّوَايَة وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وروى بضَمهَا وَفِي معنى المضموم قَولَانِ أصَحهمَا مَعْنَاهُ تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي تعطيه لَهُ تَبَرعا ثَانِيهمَا تُعْطِي النَّاس مَا لَا يجدونه عِنْد غَيْرك من معدومات الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق يُقَال كسبت مَالا وأكسبت غَيْرِي مَالا وَفِي معنى الْمُتَّفق حِينَئِذٍ قَولَانِ أصَحهمَا أَن مَعْنَاهُ كمعنى المضموم يُقَال كسبت الرجل مَالا وأكسبته مَالا وَالْأول أفْصح وَأشهر وَمنع الْقَزاز الثَّانِي.


     وَقَالَ  إِنَّه حرف نَادِر وَأنْشد على الثَّانِي (وأكسبني مَالا وأكسبته حمدا ... ) وَقَول الآخر (يعاتبني فِي الدّين قومِي وَإِنَّمَا ... ديوني فِي أَشْيَاء تكسبهم حمدا) روى بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ تكسب المَال وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله ثمَّ تجود بِهِ وتنفقه فِي وُجُوه المكارم وَكَانَت الْعَرَب تتمادح بذلك وَعرفت قُرَيْش بِالتِّجَارَة وَضعف هَذَا بِأَنَّهُ لَا معنى لوصف التِّجَارَة بِالْمَالِ فِي هَذَا الموطن إِلَّا أَن يُرِيد أَنه يبذله بعد تَحْصِيله وأصل الْكسْب طلب الرزق يُقَال كسب يكْسب كسبا وتكسب واكتسب.


     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْن سَيّده تكسب أصَاب وتكسب تصرف واجتهد.


     وَقَالَ  صَاحب الْمُجْمل يُقَال كسبت الرجل مَالا فكسبه وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعلته فَفعل وَفِي الْعباب الْكسْب طلب الرزق وَأَصله الْجمع وَالْكَسْب بِالْكَسْرِ لُغَة والفصيح فتح الْكَاف تَقول كسبت مِنْهُ شَيْئا وَفُلَان طيب الْكسْب والمكسب والمكسب والمكسبة مِثَال الْمَغْفِرَة والكسبة مثل الجلسة وكسبت أَهلِي خيرا وكسبت الرجل مَالا فكسبه.


     وَقَالَ  ثَعْلَب كل النَّاس يَقُولُونَ كسبك فلَان خيرا إِلَّا ابْن الْأَعرَابِي فَإِنَّهُ يَقُول أكسبك فلَان خيرا قَالَ والأفصح فِي الحَدِيث تكسب بِفَتْح التَّاء والمعدوم عبارَة عَن الرجل الْمُحْتَاج الْعَاجِز عَن الْكسْب وَسَماهُ مَعْدُوما لكَونه كالميت حَيْثُ لم يتَصَرَّف فِي الْمَعيشَة وَذكر الْخطابِيّ أَن صَوَابه المعدم بِحَذْف الْوَاو أَي تُعْطِي العائل وترفده لِأَن الْمَعْدُوم لَا يدْخل تَحت الْأَفْعَال.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي التَّيْمِيّ لم يصب الْخطابِيّ إِذْ حكم على اللَّفْظَة الصَّحِيحَة بالْخَطَأ فَإِن الصَّوَاب مَا اشْتهر بَين أَصْحَاب الحَدِيث وَرَوَاهُ الروَاة.


     وَقَالَ  بَعضهم لَا يمْتَنع أَن يُطلق على المعدم الْمَعْدُوم لكَونه كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّت الَّذِي لَا تصرف لَهُ.
قلت الصَّوَاب مَا قَالَه الْخطابِيّ وَكَذَا قَالَ الصغاني فِي الْعباب الصَّوَاب وتكسب المعدم أَي تُعْطِي العائل وترفده نعم الْمَعْدُوم لَهُ وَجه على معنى غير الْمَعْنى الَّذِي فسروه وَهُوَ أَن يُقَال وتكسب الشَّيْء الَّذِي لَا يُوجد تكسبه لنَفسك أَو تملكه لغيرك وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الْمطَالع قَوْله وتقري الضَّيْف بِفَتْح التَّاء تَقول قريت الضَّيْف أقريه قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر وقراء بِفَتْح الْقَاف وَالْمدّ وَيُقَال للطعام الَّذِي تضيفه بِهِ قرى بِالْكَسْرِ وَالْقصر وفاعله قار كقضى فَهُوَ قَاض.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده قرى الضَّيْف قرى وقراء أَضَافَهُ واستقراني واقتراني وأقراني طلب مني الْقرى وَأَنه لقري للضيف وَالْأُنْثَى قَرْيَة عَن اللحياني وَكَذَلِكَ أَنه لمقري للضيف ومقراء وَالْأُنْثَى مقرأة ومقراء الْأَخِيرَة عَن اللحياني وَفِي أمالي الهجري مَا اقتريت اللَّيْلَة يَعْنِي لم آكل من الْقرى شَيْئا أَي لم آكل طَعَاما قَوْله وَتعين على نَوَائِب الْحق النوائب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة والنازلة خيرا أَو شرا وَإِنَّمَا قَالَ نَوَائِب الْحق لِأَنَّهَا تكون فِي الْحق وَالْبَاطِل قَالَ لبيد رَضِي الله عَنهُ (نَوَائِب من خير وَشر كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْر مَمْدُود وَلَا الشَّرّ لازب) تَقول نَاب الْأَمر نوبَة نزل وَهِي النوائب والنوب قَوْله قد تنصر أَي صَار نَصْرَانِيّا وَترك عبَادَة الْأَوْثَان وَفَارق طَرِيق الْجَاهِلِيَّة والجاهلية الْمدَّة الَّتِي كَانَت قبل نبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانُوا عَلَيْهِ من فَاحش الجهالات وَقيل هُوَ زمَان الفترة مُطلقًا قَوْله وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية أَقُول لم أر شارحا من شرَّاح البُخَارِيّ حقق هَذَا الْموضع بِمَا يشفي الصُّدُور فَنَقُول بعون الله وتوفيقه قَوْله الْكتاب مصدر تَقول كتبت كتبا وكتابا وَكِتَابَة وَالْمعْنَى وَكَانَ يكْتب الْكِتَابَة العبرانية وَيجوز أَن يكون الْكتاب اسْما وَهُوَ الْكتاب الْمَعْهُود وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب} والعبراني بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْبَاء نِسْبَة إِلَى العبر وزيدت الْألف وَالنُّون فِي النِّسْبَة على غير الْقيَاس.


     وَقَالَ  ابْن الْكَلْبِيّ مَا أَخذ على غربي الْفُرَات إِلَى بَريَّة الْعَرَب يُسمى العبر وَإِلَيْهِ ينْسب العبريون من الْيَهُود لأَنهم لم يَكُونُوا عبروا الْفُرَات.


     وَقَالَ  مُحَمَّد بن جرير إِنَّمَا نطق إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من النمرود وَقد كَانَ النمرودقَالَ للَّذين أرسلهم خَلفه إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ فَلَمَّا أدركوه استنطقوه فحول الله لِسَانه عبرانيا وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر فسميت العبرانية لذَلِك وَفِي الْعباب والعبرية والعبرانية لُغَة الْيَهُود وَالْمَفْهُوم من قَوْله فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية أَن الْإِنْجِيل لَيْسَ بعبراني لِأَن الْبَاء فِي قَوْله بالعبرانية تتَعَلَّق بقوله فَيكْتب وَالْمعْنَى فَيكْتب باللغة العبرانية من الْإِنْجِيل وَهَذَا من قُوَّة تمكنه فِي دين النَّصَارَى وَمَعْرِفَة كتابتهم كَانَ يكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية إِن شَاءَ وبالعربية إِن شَاءَ.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ الْكَلَام العبراني هُوَ الَّذِي أنزل بِهِ جَمِيع الْكتب كالتوراة وَالْإِنْجِيل وَنَحْوهمَا.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فهم مِنْهُ أَن الْإِنْجِيل عبراني قلت لَيْسَ كَذَلِك بل التَّوْرَاة عبرانية وَالْإِنْجِيل سرياني وَكَانَ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يتَكَلَّم باللغة السريانية وَكَذَلِكَ أَوْلَاده من الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم غير أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حولت لغته إِلَى العبرانية حِين عبر النَّهر أَي الْفُرَات كَمَا ذكرنَا وَغير ابْنه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ كَانَ يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة فَقيل لِأَن أول من وضع الْكتاب الْعَرَبِيّ والسرياني والكتب كلهَا آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ يعلم سَائِر اللُّغَات وكتبها فِي الطين وطبخه فَلَمَّا أصَاب الأَرْض الْغَرق أصَاب كل قوم كِتَابهمْ فَكَانَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أصَاب كتاب الْعَرَب وَقيل تعلم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لُغَة الْعَرَب من جرهم حِين تزوج امْرَأَة مِنْهُم وَلِهَذَا يعدونه من الْعَرَب المستعربة لَا العاربة وَمن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام من كَانَ يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة هُوَ صَالح وَقيل شُعَيْب أَيْضا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقيل كَانَ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة فَلَمَّا نزل إِلَى الأَرْض حولت لغته إِلَى السريانية وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لما تَابَ الله عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ الْعَرَبيَّة وَعَن سُفْيَان أَنه مَا نزل وَحي من السَّمَاء إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام تترجمه لقومها وَعَن كَعْب أول من نطق بِالْعَرَبِيَّةِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الَّذِي أَلْقَاهَا على لِسَان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فألقاها نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على لِسَان ابْنه سَام وَهُوَ أَبُو الْعَرَب وَالله أعلم فَإِن قلت مَا أصل السريانية قلت قَالَ ابْن سَلام سميت بذلك لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِين علم آدم الْأَسْمَاء علمه سرا من الْمَلَائِكَة وأنطقه بهَا حِينَئِذٍ قَوْله هَذَا الناموس بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة وَهُوَ صَاحب السِّرّ كَمَا ذكره البُخَارِيّ فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ صَاحب الْمُجْمل وَأَبُو عبيد فِي غَرِيبه ناموس الرجل صَاحب سره.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده الناموس السِّرّ.


     وَقَالَ  صَاحب الغريبين هُوَ صَاحب سر الْملك وَقيل أَن الناموس والجاسوس بِمَعْنى وَاحِد حَكَاهُ الْقَزاز فِي جَامعه وَصَاحب الواعي.


     وَقَالَ  الْحسن فِي شرح السِّيرَة أصل الناموس صَاحب سر الرجل فِي خَيره وشره.


     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي فِي زاهره الجاسوس الباحث عَن أُمُور النَّاس وَهُوَ بِمَعْنى التَّجَسُّس سَوَاء.


     وَقَالَ  بعض أهل اللُّغَة التَّجَسُّس بِالْجِيم الْبَحْث عَن عورات النَّاس وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة الِاسْتِمَاع لحَدِيث الْقَوْم وَقيل هما سَوَاء.


     وَقَالَ  ابْن ظفر فِي شرح المقامات صَاحب سر الْخَيْر ناموس وَصَاحب سر الشَّرّ جاسوس وَقد سوى بَينهمَا رؤبة ابْن العجاج.


     وَقَالَ  بعض الشُّرَّاح وَهُوَ الصَّحِيح وَلَيْسَ بِصَحِيح بل الصَّحِيح الْفرق بَينهمَا على مَا نقل النَّوَوِيّ فِي شَرحه عَن أهل اللُّغَة الْفرق بَينهمَا بِأَن الناموس فِي اللُّغَة صَاحب سر الْخَيْر والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ.


     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ الناموس صَاحب سر الْخَيْر وَهُوَ هُنَا جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سمى بِهِ لخصوصه بِالْوَحْي والغيب والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ.


     وَقَالَ  الصغاني فِي الْعباب ناموس الرجل صَاحب سره الَّذِي يطلعه على بَاطِن أمره ويخصه بِهِ ويستره عَن غَيره وَأهل الْكتاب يسمون جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الناموس الْأَكْبَر والناموس أَيْضا الحاذق والناموس الَّذِي يلطف مدخله قَالَ الْأَصْمَعِي قَالَ رؤبة (لَا تمكن الخناعة الناموسا ... وتخصب اللعابة الجاسوسا) (بِعشر أَيْدِيهنَّ والضغبوسا ... خصب الغواة العومج المنسوسا) والناموس أَيْضا قترة الصَّائِد والناموسة عريسة الْأسد وَمِنْه قَول عَمْرو بن معدي كرب أَسد فِي ناموسته والناموس والنماس النمام والناموس الشّرك لِأَنَّهُ يوارى تَحت الأَرْض والناموس مَا التمس بِهِ الرجل من الاختيال تَقول نمست السِّرّ أنمسه بِالْكَسْرِ نمسا كتمته ونمست الرجل ونامسته أَي ساررته.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي لم يَأْتِ فِي الْكَلَام فاعول لَام الْكَلِمَة فِيهِ سين إِلَّا الناموس صَاحب سر الْخَيْر والجاسوس للشر والجاروس الْكثير الْأكل والناعوسالْحَيَّة والبابوس الصَّبِي الرَّضِيع والراموس الْقَبْر والقاموس وسط الْبَحْر والقابوس الْجَمِيل الْوَجْه والعاطوس دَابَّة يتشأم بهَا والناموس النمام ... والجاموس ضرب من الْبَقر وَقيل أعجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب وَقيل الحاسوس بِالْحَاء غير الْمُعْجَمَة قلت قَالَ الصغاني الحاسوس بِالْحَاء الْمُهْملَة الَّذِي يتحسس الْأَخْبَار مثل الجاسوس يَعْنِي بِالْجِيم وَقيل الحاسوس فِي الْخَيْر والجاسوس فِي الشَّرّ.
.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي الحاسوس المشؤم من الرِّجَال وَيُقَال سنة حاسوس وحسوس إِذا كَانَت شَدِيدَة قَليلَة الْخَيْر والقابوس قيل لفظ أعجمي عربوه وَأَصله كاووس فأعرب فَوَافَقَ الْعَرَبيَّة وَلِهَذَا لَا ينْصَرف للعجمة والتعريف وَأَبُو قَابُوس كنية النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْعَرَب والعاطوس بِالْعينِ الْمُهْملَة والبابوس بالبائين الموحدتين قَالَ ابْن عباد هُوَ الْوَلَد الصَّغِير بالرومية والناموس بالنُّون وَالْمِيم وَقد جَاءَ فاعول أَيْضا آخِره سين فاقوس بَلْدَة من بِلَاد مصر قَوْله جذعا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة يَعْنِي شَابًّا قَوِيا حَتَّى أبالغ فِي نصرتك وَيكون لي كِفَايَة تَامَّة لذَلِك والجذع فِي الأَصْل للدواب فاستعير للْإنْسَان قَالَ ابْن سَيّده قيل الْجذع الدَّاخِل فِي السّنة الثَّانِيَة وَمن الْإِبِل فَوق الْحق وَقيل الْجزع من الْإِبِل لأَرْبَع سِنِين وَمن الْخَيل لِسنتَيْنِ وَمن الْغنم لسنة وَالْجمع جذعان وجذاع بِالْكَسْرِ وَزَاد يُونُس جذاع بِالضَّمِّ وأجذاع قَالَ الْأَزْهَرِي والدهر يُسمى جذعا لِأَنَّهُ شَاب لَا يهرم وَقيل مَعْنَاهُ يَا لَيْتَني أدْرك أَمرك فَأَكُون أول من يقوم بنصرك كالجذع الَّذِي هُوَ أول الْإِنْسَان قَالَ صَاحب الْمطَالع وَالْقَوْل الأول أبين قَوْله قطّ بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء مَضْمُومَة فِي أفْصح اللُّغَات وَهِي ظرف لاستغراق مَا مضى فَيخْتَص بِالنَّفْيِ واشتقاقه من قططته أَي قطعته فَمَعْنَى مَا فعلت قطّ مَا فعلته فِيمَا انْقَطع من عمري لِأَن الْمَاضِي مُنْقَطع عَن الْحَال والاستقبال وبنيت لتضمنها معنى مذ وَإِلَى لِأَن الْمَعْنى مذ أَن خلقت إِلَى الْآن وعَلى حَرَكَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان وبالضمة تَشْبِيها بالغايات وَقد يكسر على أصل التقاء الساكنين وَقد تتبع قافه طاءه فِي الضَّم وَقد تخفف طاؤه مَعَ ضمهَا أَو إسكانها قَوْله مؤزرا بِضَم الْمِيم وَفتح الْهمزَة بعْدهَا زَاي مُعْجمَة مُشَدّدَة ثمَّ رَاء مُهْملَة أَي قَوِيا بليغا من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة والعون وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فآزره} أَي قواه وَفِي الْمُحكم آزره ووازره أَعَانَهُ على الْأَمر الْأَخير على الْبَدَل وَهُوَ شَاذ.


     وَقَالَ  ابْن قُتَيْبَة مِمَّا تَقوله الْعَوام بِالْوَاو وَهُوَ بِالْهَمْز آزرته على الْأَمر أَي أعنته فَأَما وازرته فبمعنى صرت لَهُ وزيرا قَوْله ثمَّ لم ينشب أَي لم يلبث وَهُوَ بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون النُّون وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَكَأن الْمَعْنى فَجَاءَهُ الْمَوْت قبل أَن ينشب فِي فعل شَيْء وَهَذِه اللَّفْظَة عِنْد الْعَرَب عبارَة عَن السرعة والعجلة وَلم أر شارحا ذكر بَاب هَذِه الْمَادَّة غير أَن شارحا مِنْهُم قَالَ وأصل النشوب التَّعَلُّق أَي لم يتَعَلَّق بِشَيْء من الْأُمُور حَتَّى مَاتَ وبابه من نشب الشَّيْء فِي الشَّيْء بِالْكَسْرِ نشوبا إِذا علق فِيهِ وَفِي حَدِيث الْأَحْنَف بن قيس أَنه قَالَ خرجنَا حجاجا فمررنا بِالْمَدِينَةِ أَيَّام قتل عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَقلت لصاحبي قد أفل الْحَج وَإِنِّي لَا أرى النَّاس إِلَّا قد نشبوا فِي قتل عُثْمَان وَلَا أَرَاهُم إِلَّا قاتليه أَي وَقَعُوا فِيهِ وقوعا لَا منزع لَهُم عَنهُ قَوْله وفتر الْوَحْي مَعْنَاهُ احْتبسَ قَالَه الْكرْمَانِي قلت مَعْنَاهُ احْتبسَ بعد مُتَابَعَته وتواليه فِي النُّزُول.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده فتر الشَّيْء يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد حِدة ولان بعد شدَّة وفتر هُوَ والفتر الضعْف.
(بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات) قَوْله من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَفِي صَحِيح مُسلم الصادقة وَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب التَّعْبِير أَيْضا وَوَقع هُنَا أَيْضا الصادقة فِي رِوَايَة معمر وَيُونُس وَكَذَا سَاقه الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه ومعناهما وَاحِد وَهِي الَّتِي لم يُسَلط عَلَيْهِ فِيهَا ضغث وَلَا تلبس شَيْطَان.


     وَقَالَ  الْمُهلب الرُّؤْيَا الصَّالِحَة هِيَ تباشير النُّبُوَّة لِأَنَّهُ لم يَقع فِيهَا ضغث فيتساوى مَعَ النَّاس فِي ذَلِك بل خص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصدقها كلهَا.


     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَحي قَوْله وَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء.


     وَقَالَ  بَعضهم وَكَانَ يجاور بِغَار حراء.
ثمَّ فرق بَين الْمُجَاورَة وَالِاعْتِكَاف بِأَن الْمُجَاورَة قد تكون خَارج الْمَسْجِد بِخِلَاف الِاعْتِكَاف وَلَفظ الْجوَار جَاءَ فِي حَدِيث جَابر الْآتِي فِي كتاب التَّفْسِير فِي صَحِيح مُسلم فِيهِ جَاوَرت بحراء شهرا فَلَمَّا قضيت جواري نزلت فَاسْتَبْطَنْت الْوَادي الحَدِيث وحراء بِكَسْر الْحَاء وبالمد فِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالْفَتْح وَالْقصر وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله فَيَتَحَنَّث قَالَ أَبُو أَحْمد العسكري.
رَوَاهُ بَعضهم يتحنف بِالْفَاءِ وَكَذَا وَقع فِي سيرة ابْن هِشَام بِالْفَاءِ قَوْله قبل أَن ينْزع وَفِي رِوَايَة مُسلم قبل أَن يرجع ومعناهماوَاحِد قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير حَتَّى فجئه الْحق وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم أَي أَتَاهُ بَغْتَة يُقَال فجىء يفجأ بِكَسْر الْجِيم فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الغابر وفجأ يفجأ بِالْفَتْح فيهمَا قَوْله مَا أَنا بقارىء وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة مَا أحسن أَن أَقرَأ وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَق مَاذَا أَقرَأ وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه أَنه قَالَ كَيفَ أَقرَأ قَوْله فغطني وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ فغتني بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد وَالثَّوْب على الْفَم وَالْأنف والغط الخنق وتغييب الرَّأْس فِي المَاء وَعبارَة الدَّاودِيّ معنى غطني صنع بِي شَيْئا حَتَّى ألقاني إِلَى الأَرْض كمن تَأْخُذهُ الغشية.


     وَقَالَ  الخطامي وَفِي غير هَذِه الرِّوَايَات فسأبني من سأبت الرجل سأبا إِذا خنقته ومادته سين مُهْملَة وهمزة وباء مُوَحدَة.


     وَقَالَ  الصغاني رَحمَه الله وَمِنْه حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر اعْتِكَافه بحراء فَقَالَ فَإِذا أَنا بِجِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على الشَّمْس وَله جنَاح بالمشرق وَجَنَاح بالمغرب فهلت مِنْهُ وَذكر كلَاما ثمَّ قَالَ أَخَذَنِي فسلقني بحلاوة القفاء ثمَّ شقّ بَطْني فاستخرج الْقلب وَذكر كلَاما ثمَّ قَالَ لي اقْرَأ فَلم أدر مَا أَقرَأ فَأخذ بحلقي فسأبني حَتَّى أجهشت بالبكاء فَقَالَ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترجف بوادره قَوْله فهلت أَي خفت من هاله إِذا خَوفه ويروى فسأتني بِالسِّين الْمُهْملَة والهمزة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق قَالَ الصغاني قَالَ أَبُو عمر وسأته يسأته سأتا إِذا خنقه حَتَّى يَمُوت مثل سأبه.


     وَقَالَ  أَبُو زيد مثله إِلَّا أَنه لم يقل حَتَّى يَمُوت ويروى فدعتني من الدعت بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق قَالَ ابْن دُرَيْد الدعت الدّفع العنيف عَرَبِيّ صَحِيح يُقَال دَعَتْهُ يدعته إِذا دَفعه بِالدَّال وبالذال الْمُعْجَمَة زَعَمُوا قلت وَمِنْه حَدِيث الآخر أَن الشَّيْطَان عرض لي وَأَنا أُصَلِّي فدعته حَتَّى وجدت برد لِسَانه ثمَّ ذكرت قَول أخي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام رب هَب لي ملكا الحَدِيث قلت بِمَعْنَاهُ ذأته بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة قَالَ أَبُو زيد ذأته إِذا خنقه أَشد الخنق حَتَّى أدلع لِسَانه قَوْله يرجف فُؤَاده وَفِي رِوَايَة مُسلم بوادره وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق ترجف عِنْد الْفَزع قَوْله وَالله مَا يخزيك من الخزيان كَمَا ذَكرْنَاهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة يُونُس وَعقيل عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ يحزنك من الْحزن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر أَيْضا هَهُنَا قَوْله وتكسب بِفَتْح التَّاء هُوَ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِالضَّمِّ قَوْله الْمَعْدُوم بِالْوَاو وَهِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ الصَّوَاب المعدم وَقد ذَكرْنَاهُ وَذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي كتاب التَّفْسِير وَتصدق الحَدِيث وَذكره مُسلم هَهُنَا وَهُوَ من أشرف خصاله وَذكر فِي السِّيرَة زِيَادَة أُخْرَى إِنَّك لتؤدي الْأَمَانَة ذكرهَا من حَدِيث عَمْرو بن شُرَحْبِيل قَوْله فَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية وَفِي رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَيكْتب من الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ وَلمُسلم وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ والجميع صَحِيح لِأَن ورقة كَانَ يعلم اللِّسَان العبراني وَالْكِتَابَة العبرانية فَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني كَمَا كَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ لتمكنه من الْكِتَابَيْنِ واللسانين.


     وَقَالَ  الدَّاودِيّ يكْتب من الْإِنْجِيل الَّذِي هُوَ بالعبرانية بِهَذَا الْكتاب الْعَرَبِيّ فنسبه إِلَى العبرانية إِذْ بهَا كَانَ يتَكَلَّم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قلت لَا نسلم أَن الْإِنْجِيل كَانَ عبرانيا وَلَا يفهم من الحَدِيث ذَلِك وَالَّذِي يفهم من الحَدِيث أَنه كَانَ يعلم الْكِتَابَة العبرانية وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْإِنْجِيل عبرانيا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سريانيا وَكَانَ ورقة ينْقل مِنْهُ باللغة العبرانية وَهَذَا يدل على علمه بالألسن الثَّلَاثَة وتمكنه فِيهَا حَيْثُ ينْقل السريانية إِلَى العبرانية قَوْله يَا ابْن عَم كَذَا وَقع هَهُنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ ابْن عَمها وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم يَا عَم.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا وهم لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ صَحِيحا لإِرَادَة التوقير لَكِن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد ومخرجها مُتحد فَلَا يحمل على أَنَّهَا قَالَت ذَلِك مرَّتَيْنِ فَتعين الْحمل على الْحَقِيقَة قلت هَذَا لَيْسَ بوهم بل هُوَ صَحِيح لِأَنَّهَا سمته عَمها مجَازًا وَهَذَا عَادَة الْعَرَب يُخَاطب الصَّغِير الْكَبِير بيا عَم احتراما لَهُ ورفعا لمرتبته وَلَا يحصل هَذَا الْغَرَض بقولِهَا يَا ابْن عَم فعلى هَذَا تكون تَكَلَّمت باللفظين وَكَون الْقِصَّة متحدة لَا تنَافِي التَّكَلُّم باللفظين قَوْله الَّذِي نزل الله وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أنزل الله وَفِي التَّفْسِير أنزل على مَا لم يسم فَاعله وَالْفرق بَين أنزل وَنزل أَن الأول يسْتَعْمل فِي إِنْزَال الشَّيْء دفْعَة وَاحِدَة وَالثَّانِي يسْتَعْمل فِي تَنْزِيل الشَّيْءدفْعَة بعد دفْعَة وقتا بعد وَقت وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْقُرْآن {نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} وَفِي حق التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} فَإِن قلت قَالَ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} قلت مَعْنَاهُ أَنزَلْنَاهُ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ إِلَى بَيت الْعِزَّة فِي السَّمَاء الدُّنْيَا دفْعَة وَاحِدَة ثمَّ نزل على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَيت الْعِزَّة فِي عشْرين سنة بِحَسب الوقائع والحوادث قَوْله على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَاء فِي غير الصَّحِيحَيْنِ نزل الله على عِيسَى وَكِلَاهُمَا صَحِيح أما عِيسَى فلقرب زَمَنه وَأما مُوسَى فَلِأَن كِتَابه مُشْتَمل على الْأَحْكَام بِخِلَاف كتاب عِيسَى فَإِنَّهُ كَانَ أَمْثَالًا ومواعظ وَلم يكن فِيهِ حكم.


     وَقَالَ  بَعضهم لِأَن مُوسَى بعث بالنقمة على فِرْعَوْن وَمن مَعَه بِخِلَاف عِيسَى وَكَذَلِكَ وَقعت النقمَة على يَد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بفرعون هَذِه الْأمة وَهُوَ أَبُو جهل بن هِشَام وَمن مَعَه قلت هَذَا بعيد لِأَن ورقة مَا كَانَ يعلم بِوُقُوع النقمَة على أبي جهل فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا كَانَ فِي علمه بِوُقُوع النقمَة على فِرْعَوْن على يَد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يذكر مُوسَى وَيتْرك عِيسَى.
.


     وَقَالَ  آخَرُونَ ذكر مُوسَى تَحْقِيقا للرسالة لِأَن نُزُوله على مُوسَى مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِخِلَاف عِيسَى فَإِن بعض الْيَهُود يُنكرُونَ نبوته.


     وَقَالَ  السُّهيْلي أَن ورقة كَانَ تنصر وَالنَّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى أَنه نَبِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا يَقُولُونَ أَن أقنوما من الأقانيم الثَّلَاثَة اللاهوتية حل بناسوت الْمَسِيح على اخْتِلَاف بَينهم فِي ذَلِك الْحُلُول وَهُوَ أقنوم الْكَلِمَة والكلمة عِنْدهم عبارَة عَن الْعلم فَلذَلِك كَانَ الْمَسِيح فِي زعمهم يعلم الْغَيْب ويخبر بِمَا فِي الْغَد فِي زعمهم الْكَاذِب فَلَمَّا كَانَ هَذَا مَذْهَب النَّصَارَى عدل عَن ذكر عِيسَى إِلَى ذكر مُوسَى لعلمه ولاعتقاده أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينزل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالَ لَكِن ورقة قد ثَبت إيمَانه بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التمحل فَإِنَّهُ روى عَنهُ مرّة ناموس مُوسَى وَمرَّة ناموس عِيسَى فقد روى أَبُو نعيم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة بِإِسْنَاد حسن إِلَى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه فِي هَذِه الْقِصَّة أَن خَدِيجَة أَولا أَتَت ابْن عَمها ورقة فَأَخْبَرته فَقَالَ لَئِن كنت صدقت إِنَّه ليَأْتِيه ناموس عِيسَى الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل وروى الزبير بن بكار أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن معَاذ عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذِه الْقِصَّة أَن ورقة قَالَ ناموس عِيسَى وَعبد الله بن معَاذ ضَعِيف فَعِنْدَ إِخْبَار خَدِيجَة لَهُ بالقصة قَالَ لَهَا ناموس عِيسَى بِحَسب مَا هُوَ فِيهِ من النَّصْرَانِيَّة وَعند إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ قَالَ لَهُ ناموس مُوسَى وَالْكل صَحِيح فَافْهَم قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا هَكَذَا رِوَايَة الْجُمْهُور وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ جذع بِالرَّفْع وَكَذَا وَقع لِابْنِ ماهان بِالرَّفْع فِي صَحِيح مُسلم وَالْأَكْثَرُونَ فِيهِ أَيْضا على النصب قَوْله إِذْ يخْرجك وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي التَّعْبِير حِين يخْرجك قَوْله الأعودي وَذكر البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير إِلَّا أوذي من الْأَذَى وَهُوَ رِوَايَة يُونُس قَوْله وَإِن يدركني يَوْمك وَزَاد فِي رِوَايَة يُونُس حَيا وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق إِن أدْركْت ذَلِك الْيَوْم يَعْنِي يَوْم الْإِخْرَاج وَفِي سيرة ابْن هِشَام وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك الْيَوْم لأنصرن الله نصرا يُعلمهُ ثمَّ أدنى رَأسه مِنْهُ يقبل يَافُوخه وَقيل مَا فِي البُخَارِيّ هُوَ الْقيَاس لِأَن ورقة سَابق بالوجود وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي يُدْرِكهُ من يَأْتِي بعده كَمَا جَاءَ أَشْقَى النَّاس من أَدْرَكته السَّاعَة وَهُوَ حَيّ ثمَّ قيل ولرواية ابْن إِسْحَاق وَجه لِأَن الْمَعْنى إِن أر ذَلِك الْيَوْم فَسمى رُؤْيَته إدراكا وَفِي التَّنْزِيل {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} أَي لَا ترَاهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ قلت هَذَا تَأْوِيل بعيد فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أَن يدركني وَبَين أَن أدْركْت فِي الْمَعْنى لِأَن أَن تقرب معنى الْمَاضِي من الْمُسْتَقْبل وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى قَوْله وفتر الْوَحْي وَزَاد البُخَارِيّ بعد هَذَا فِي التَّعْبِير وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤْس الْجبَال فَكلما أوفي بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي مِنْهُ نَفسه يتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول الله حَقًا فيسكن لذَلِك جأشه وتقر عينه حَتَّى يرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك فَإِذا أوفي بِذرْوَةِ جبل يتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك وَهَذَا من بلاغات معمر وَلم يسْندهُ وَلَا ذكر رَاوِيه وَلَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَلَا يعرف هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَنه قد يحمل على أَنه كَانَ أول الْأَمر قبل رُؤْيَة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا جَاءَ مُبينًا عَن ابْن إِسْحَاق عَن بَعضهم أَو أَنه فعل ذَلِك لما أحْرجهُ تَكْذِيب قومه كَمَا قَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك} أَو خَافَ أَن الفترة لأمر أَو سَبَب فخشي أَن يكون عُقُوبَة من ربه فَفعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلم يرد بعد شرع بِالنَّهْي عَنذَلِك فيعترض بِهِ وَنَحْو هَذَا فرار يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام حِين تَكْذِيب قومه وَالله أعلم (بَيَان الصّرْف) قَوْله يحيى فعل مضارع فِي الأَصْل فَوضع علما قَوْله بكير تَصْغِير بكر بِفَتْح الْبَاء وَهُوَ من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الْفَتى من النَّاس والبكرة بِمَنْزِلَة الفتات وَاللَّيْث اسْم من أَسمَاء الْأسد وَالْجمع الليوث وَفُلَان أليث من فلَان أَي أَشد وَأَشْجَع وَعقيل تَصْغِير عقل الْمَعْرُوف أَو عقل بِمَعْنى الدِّيَة وشهاب بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة شعلة نَار ساطعة وَالْجمع شهب وشهبان بِالضَّمِّ عَن الْأَخْفَش مِثَال حِسَاب وحسبان وشهبان بِالْكَسْرِ عَن غَيره وَأَن فلَانا لشهاب حَرْب إِذا كَانَ مَاضِيا فِيهَا شجاعا وَجمعه شهبان والشهاب بِالْفَتْح اللَّبن الممزوج بِالْمَاءِ وَعُرْوَة فِي الأَصْل عُرْوَة الْكوز والقميص والعروة أَيْضا من الشّجر الَّذِي لَا يزَال بَاقِيا فِي الأَرْض لَا يذهب وَجمعه عرى والعروة الْأسد أَيْضا وَبِه سمي الرجل عُرْوَة وَالزُّبَيْر تَصْغِير زبر وَهُوَ الْعقل والزبر الزّجر وَالْمَنْع أَيْضا والزبر الْكِتَابَة وَعَائِشَة من الْعَيْش وَهُوَ ظَاهر قَوْله بدىء بِهِ على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله الرُّؤْيَا مصدر كالرجعي مصدر رَجَعَ وَيخْتَص برؤيا الْمَنَام كَمَا اخْتصَّ الرَّأْي بِالْقَلْبِ والرؤية بِالْعينِ قَوْله ثمَّ حبب على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا والخلاء مصدر بِمَعْنى الْخلْوَة قَوْله فَيَتَحَنَّث من بَاب التفعل وَهُوَ للتكلف هَهُنَا كتشجع إِذا اسْتعْمل الشجَاعَة وكلف نَفسه إِيَّاهَا لتحصل وَكَذَلِكَ قَوْله وَهُوَ التَّعَبُّد من هَذَا الْبَاب وَهُوَ اسْتِعْمَال الْعِبَادَة لتكليف نَفسه إِيَّاه وَكَذَلِكَ قَوْله ويتزود من هَذَا الْبَاب وَكَذَلِكَ قَوْله تنصر من هَذَا الْبَاب قَوْله أَو مخرجي أَصله مخرجون جمع اسْم الْفَاعِل فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نونه للإضافة فَانْقَلَبت واوه يَاء وأدغمت فِي يَاء الْمُتَكَلّم (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله أول مَا بدىء كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَكلمَة من فِي قَوْله من الْوَحْي لبَيَان الْجِنْس قَالَه الْقَزاز كَأَنَّهَا قَالَت من جنس الْوَحْي وَلَيْسَت الرُّؤْيَا من الْوَحْي حَتَّى تكون للتَّبْعِيض وَهَذَا مَرْدُود بل يجوز أَن يكون للتَّبْعِيض لِأَن الرُّؤْيَا من الْوَحْي كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَنَّهَا جُزْء من النُّبُوَّة قَوْله الصَّالِحَة صفة للرؤيا إِمَّا صفة مُوضحَة للرؤيا لِأَن غير الصَّالِحَة تسمى بالحلم كَمَا ورد الرُّؤْيَا من الله والحلم من الشَّيْطَان وَإِمَّا مخصصة أَي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة لَا الرُّؤْيَا السَّيئَة أَو لَا الكاذبة الْمُسَمَّاة بأضغاث الأحلام وَالصَّلَاح إِمَّا بِاعْتِبَار صورتهَا وَإِمَّا بِاعْتِبَار تعبيرها قَالَ القَاضِي يحْتَمل أَن يكون معنى الرُّؤْيَا الصَّالِحَة والحسنة حسن ظَاهرهَا وَيحْتَمل أَن المُرَاد صِحَّتهَا ورؤيا السوء تحْتَمل الْوَجْهَيْنِ أَيْضا سوء الظَّاهِر وَسُوء التَّأْوِيل قَوْله فِي النّوم لزِيَادَة الْإِيضَاح وَالْبَيَان وَإِن كَانَت الرُّؤْيَا مَخْصُوصَة بِالنَّوْمِ كَمَا ذكرنَا عَن قريب أَو ذكر لدفع وهم من يتَوَهَّم أَن الرُّؤْيَا تطلق على رُؤْيَة الْعين قَوْله وَكَانَ لَا يرى رُؤْيا بِلَا تَنْوِين لِأَنَّهُ كحبلى قَوْله مثل مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف وَالتَّقْدِير إِلَّا جَاءَت مجيئا مثل فلق الصُّبْح أَي شَبيهَة لضياء الصُّبْح.


     وَقَالَ  أَكثر الشُّرَّاح أَنه مَنْصُوب على الْحَال وَمَا قُلْنَا أولى لِأَن الْحَال مُقَيّدَة وَمَا ذكرنَا مُطلق فَهُوَ أولى على مَا يخفى على النَّابِغَة من التراكيب قَوْله الْخَلَاء مَرْفُوع بقوله حبب لِأَنَّهُ فَاعل نَاب عَن الْمَفْعُول والنكتة فِيهِ التَّنْبِيه على أَن ذَلِك من وَحي الإلهام وَلَيْسَ من باعث الْبشر قَوْله حراء بِالتَّنْوِينِ والجر بِالْإِضَافَة كَمَا ذكرنَا قَوْله فَيَتَحَنَّث عطف على قَوْله يَخْلُو وَلَا يَخْلُو عَن معنى السَّبَبِيَّة لِأَن اختلاءه هُوَ السَّبَب للتحنث قَوْله فِيهِ أَي فِي الْغَار مَحَله النصب على الْحَال قَوْله وَهُوَ التَّعَبُّد الضَّمِير يرجع إِلَى التحنث الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله فَيَتَحَنَّث كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} أَي الْعدْل أقرب للتقوى وَهَذِه جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله فَيَتَحَنَّث فِيهِ وَبَين قَوْله اللَّيَالِي لِأَن اللَّيَالِي مَنْصُوب على الظّرْف وَالْعَامِل فِيهِ يَتَحَنَّث لَا قَوْله التَّعَبُّد وَإِلَّا يفْسد الْمَعْنى فَإِن التحنث لَا يشْتَرط فِيهِ اللَّيَالِي بل هُوَ مُطلق التَّعَبُّد وَأَشَارَ الطَّيِّبِيّ بِأَن هَذِه الْجُمْلَة مدرجة من قَول الزُّهْرِيّ لِأَن مثل ذَلِك من دأبه وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قَوْله ذَوَات الْعدَد مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة اللَّيَالِي وعلامة النصب كسر التَّاء وَأَرَادَ بهَا اللَّيَالِي مَعَ أيامهن على سَبِيل التغليب لِأَنَّهَا أنسب للخلوة قَالَ الطَّيِّبِيّ وَذَوَات الْعدَد عبارَة عَن الْقلَّة نَحْو (دَرَاهِم مَعْدُودَة).


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْكَثْرَة إِذْ الْكثير يحْتَاج إِلَى الْعدَد لَا الْقَلِيل وَهُوَ الْمُنَاسب للمقام قلت أصل مُدَّة الْخلْوَة مَعْلُوم وَكَانَ شهرا وَهُوَ شهر رَمَضَان كَمَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق فِي السِّيرَة وَإِنَّمَا أبهمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْعدَد هَهُنَا لاختلافه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمدَّة الَّتِي يتخللها مَجِيئه إِلَى أَهله قَوْله ويتزود بِالرَّفْع عطف على قَوْله يَتَحَنَّثوَلَيْسَ هُوَ بعطف على أَن ينْزع لفساد الْمَعْنى قَوْله لذَلِك أَي للخلو أَو للتعبد قَوْله لمثلهَا أَي لمثل اللَّيَالِي قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق كلمة حَتَّى هَهُنَا للغاية وَهَهُنَا مَحْذُوف وَالتَّقْدِير حَتَّى جَاءَهُ الْأَمر الْحق وَهُوَ الْوَحْي الْكَرِيم قَوْله فَجَاءَهُ الْملك الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد أَي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذِه الْفَاء هَهُنَا الْفَاء التفسيرية نَحْو قَوْله تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} إِذْ الْقَتْل نفس التَّوْبَة على أحد التفاسير وَتسَمى بِالْفَاءِ التفصيلية أَيْضا لِأَن مَجِيء الْملك تَفْصِيل للمجمل الَّذِي هُوَ مَجِيء الْحق وَلَا شكّ أَن الْمفصل نفس الْمُجْمل وَلَا يُقَال أَنه تَفْسِير الشَّيْء بِنَفسِهِ لِأَن التَّفْسِير وَإِن كَانَ عين الْمُفَسّر بِهِ من جِهَة الْإِجْمَال فَهُوَ غَيره من جِهَة التَّفْصِيل وَلَا يجوز أَن تكون الْفَاء هُنَا الْفَاء التعقيبية لِأَن مَجِيء الْملك لَيْسَ بعد مَجِيء الْوَحْي حَتَّى يعقب بِهِ بل مجىء الْملك هُوَ نفس الْوَحْي هَكَذَا قَالَت الشُّرَّاح وَفِيه بحث لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون المُرَاد من قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق الإلهام أَو سَماع هَاتِف وَيكون مجىء الْملك بعد ذَلِك بِالْوَحْي فَحِينَئِذٍ يَصح أَن تكون الْفَاء للتعقيب قَوْله فَقَالَ اقْرَأ الْفَاء هُنَا للتعقيب قَوْله مَا أَنا بقارىء قَالَت الشُّرَّاح كلمة مَا نَافِيَة وَاسْمهَا هُوَ قَوْله أَنا وخبرها هُوَ قَوْله بقارىء ثمَّ الْبَاء فِيهِ زَائِدَة لتأكيد النَّفْي أَي مَا أحسن الْقِرَاءَة وغلطوا من قَالَ أَنَّهَا استفهامية لدُخُول الْبَاء فِي الْخَبَر وَهِي لَا تدخل على مَا الاستفهامية وَمنعُوا استنادهم بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَة مَا أَقرَأ بقَوْلهمْ يجوز أَن يكون مَا هَهُنَا أَيْضا نَافِيَة قلت تغليطهم ومنعهم ممنوعان أما قَوْلهم أَن الْبَاء لَا تدخل على مَا الاستفهامية فَهُوَ مَمْنُوع لِأَن الْأَخْفَش جوز ذَلِك أما قَوْلهم يجوز أَن يكون مَا فِي رِوَايَة مَا أَقرَأ نَافِيَة فاحتمال بعيد بل الظَّاهِر أَنَّهَا استفهامية تدل على ذَلِك رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه عَن عُرْوَة أَنه قَالَ كَيفَ أَقرَأ وَالْعجب من شَارِح أَنه ذكر هَذِه الرِّوَايَة فِي شَرحه وَهِي تصرح بِأَن مَا استفهامية ثمَّ غلط من قَالَ أَنَّهَا استفهامية قَوْله الْجهد بِالرَّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فعلى كَونه فَاعِلا لبلغ يَعْنِي بلغ الْجهد مبلغه فَحذف مبلغه وَأما النصب فعلى كَونه مَفْعُولا وَالْفَاعِل مَحْذُوف يجوز أَن يكون التَّقْدِير بلغ مني الْجهد الْملك أَو بلغ الغط مني الْجهد أَي غَايَة وسعى.


     وَقَالَ  التوربشتي لَا أرى الَّذِي يروي بِنصب الدَّال إِلَّا قد وهم فِيهِ أَو جوزه بطرِيق الِاحْتِمَال فَإِنَّهُ إِذا نصب الدَّال عَاد الْمَعْنى إِلَى أَنه غطه حَتَّى استفرغ قوته فِي ضغطه وَجهد جهده بِحَيْثُ لم يبْق فِيهِ مزِيد.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي وَهَذَا قَول غير سديد فَإِن البنية البشرية لَا تستدعي استنفاد الْقُوَّة الملكية لَا سِيمَا فِي مبدأ الْأَمر وَقد دلّت الْقِصَّة على أَنه اشمأز من ذَلِك وتداخله الرعب.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ لَا شكّ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَالَة الغط لم يكن على صورته الْحَقِيقِيَّة الَّتِي تجلى بهَا عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى وعندما رَآهُ مستويا على الْكُرْسِيّ فَيكون استفراغ جهده بِحَسب صورته الَّتِي تجلى لَهُ وغطه وَإِذا صحت الرِّوَايَة اضمحل الاستبعاد قَوْله فَرجع بهَا أَي بِالْآيَاتِ وَهِي قَوْله {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى آخِرهنَّ.


     وَقَالَ  بَعضهم أَي بِالْآيَاتِ أَو بالقصة فَقَوله أَو بالقصة لَا وَجه لَهُ أصلا على مَا لَا يخفى قَوْله يرجف فُؤَاده جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا كَانَ مثبتا وَوَقع حَالا لَا يحْتَاج إِلَى الْوَاو قَوْله وأخبرها الْخَبَر جملَة حَالية أَيْضا قَوْله لقد خشيت اللَّام فِيهِ جَوَاب الْقسم الْمَحْذُوف أَي وَالله لقد خشيت وَهُوَ مقول قَالَ قَوْله فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة أَي انْطَلقَا إِلَى ورقة لِأَن الْفِعْل اللَّازِم إِذا عدى بِالْبَاء يلْزم مِنْهُ المصاحبة فَيلْزم ذهابهما بِخِلَاف مَا عدى بِالْهَمْزَةِ نَحْو أذهبته فَإِنَّهُ لَا يلْزم ذَلِك قَوْله ابْن عَم خَدِيجَة قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ بِنصب ابْن وَيكْتب بِالْألف لِأَنَّهُ بدل من ورقة فَإِنَّهُ ابْن عَم خَدِيجَة لِأَنَّهَا بنت خويلد بن أَسد وَهُوَ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد وَلَا يجوز جر ابْن وَلَا كِتَابَته بِغَيْر الْألف لِأَنَّهُ يصير صفة لعبد الْعُزَّى فَيكون عبد الْعُزَّى ابْن عَم خَدِيجَة وَهُوَ بَاطِل.
.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي كِتَابَة الْألف وَعدمهَا لَا تتَعَلَّق بِكَوْنِهِ مُتَعَلقا بِوَرَقَة أَو بِعَبْد الْعُزَّى بل عِلّة إِثْبَات الْألف عدم وُقُوعه بَين العلمين لِأَن الْعم لَيْسَ علما ثمَّ الحكم بِكَوْنِهِ بَدَلا غير لَازم لجَوَاز أَن يكون صفة أَو بَيَانا لَهُ قلت مَا ادّعى النَّوَوِيّ لُزُوم الْبَدَل حَتَّى يخدش فِي كَلَامه فَإِنَّهُ وَجه ذكره وَمثل ذَلِك عبد الله بن مَالك ابْن بُحَيْنَة وَمُحَمّد بن عَليّ ابْن الْحَنَفِيَّة والمقداد بن عَمْرو ابْن الْأسود وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم ابْن علية وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ابْن رَاهَوَيْه وَأَبُو عبد الله بن يزِيد ابْن مَاجَه فبحينة أم عبد الله وَالْحَنَفِيَّة أم مُحَمَّد وَالْأسود لَيْسَ بجد الْمِقْدَاد وَإِنَّمَا هُوَ قد تبناه وَعليَّة أم إِسْمَاعِيل وراهويه لقب إِبْرَاهِيم وماجه لقب يزِيد وكل ذَلِك يكْتب بِالْألف ويعرب بإعراب الأول وَمثل ذَلِك عبد الله بن أبي ابْن سلول بتنوين أبي وَيكْتب ابْن سلول بِالْألف ويعرب إِعْرَاب عبد الله فِي الْأَصَح قَوْله مَا شَاءَالله كلمة مَا مَوْصُولَة وَشاء صلتها والعائد مَحْذُوف وَأَن مَصْدَرِيَّة مفعول شَاءَ وَالتَّقْدِير مَا شَاءَ الله كِتَابَته قَوْله قد عمى حَال قَوْله اسْمَع من ابْن أَخِيك إِنَّمَا أطلقت الْأُخوة لِأَن الْأَب الثَّالِث لورقة هُوَ الْأَخ للْأَب الرَّابِع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ قَالَ ابْن أخي جدك على سَبِيل الْإِضْمَار وَفِي ذكر لفظ الْأَخ استعطاف أَو جعلته عَمَّا لرَسُول الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا احتراما لَهُ على سَبِيل التَّجَوُّز قَوْله مَاذَا ترى فِي إعرابه أوجه الأول أَن يكون مَا إستفهاما وَذَا إِشَارَة نَحْو مَاذَا التداني ... مَاذَا الْوُقُوف الثَّانِي أَن يكون مَا استفهاما وَذَا مَوْصُولَة كَمَا فِي قَول لبيد رَضِي الله عَنهُ (أَلا تَسْأَلَانِ الْمَرْء مَاذَا يحاول ... ) فَمَا مُبْتَدأ بِدَلِيل إِبْدَاله الْمَرْفُوع مِنْهَا وَذَا مَوْصُول بِدَلِيل افتقاره للجملة بعده وَهُوَ أرجح الْوَجْهَيْنِ فِي {ويسئلونك مَاذَا يُنْفقُونَ} الثَّالِث أَن يكون مَاذَا كُله استفهاما على التَّرْكِيب كَقَوْلِك لماذا جِئْت الرَّابِع أَن يكون مَاذَا كُله اسْم جنس بِمَعْنى شَيْء أَو مَوْصُولا الْخَامِس أَن يكون مَا زَائِدَة وَذَا للْإِشَارَة السَّادِس أَن يكون مَا استفهاما وَذَا زَائِدَة إجَازَة جمَاعَة مِنْهُم ابْن مَالك فِي نَحْو مَاذَا صنعت قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا أَي فِي أَيَّام النُّبُوَّة أَو فِي الدعْوَة.


     وَقَالَ  أَبُو الْبَقَاء العكبري الْمُنَادِي هَهُنَا مَحْذُوف تَقْدِيره يَا مُحَمَّد لَيْتَني كنت حَيا نَحْو {يَا لَيْتَني كنت مَعَهم} تَقْدِيره يَا قوم لَيْتَني وَالْأَصْل فِيهِ أَن يَا إِذا وَليهَا مَا لَا يصلح للنداء كالفعل فِي نَحْو (أَلا يَا اسجدوا) والحرف فِي نَحْو يَا لَيْتَني وَالْجُمْلَة الإسمية نَحْو يَا لعنة الله والأقوام كلهم فَقيل هِيَ للنداء والمنادى مَحْذُوف وَقيل لمُجَرّد التَّنْبِيه لِئَلَّا يلْزم الإجحاف بِحَذْف الْجُمْلَة كلهَا.


     وَقَالَ  ابْن مَالك فِي الشواهد ظن أَكثر النَّاس أَن يَا الَّتِي تَلِيهَا لَيْت حرف نِدَاء والمنادى مَحْذُوف وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيف لِأَن قَائِل لَيْتَني قد يكون وَحده فَلَا يكون مَعَه مُنَادِي كَقَوْل مَرْيَم {يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا} وَكَأن الشَّيْء إِنَّمَا يجوز حذفه إِذا كَانَ الْموضع الَّذِي ادّعى فِيهِ حذفه مُسْتَعْملا فِيهِ ثُبُوته كحذف الْمُنَادِي قبل أَمر أَو دُعَاء فَإِنَّهُ يجوز حذفه لِكَثْرَة ثُبُوته ثمَّة فَمن ثُبُوته قبل الْأَمر {يَا يحيى خُذ الْكتاب} وَقبل الدُّعَاء {يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك} وَمن حذفه قبل الْأَمر (الا يَا اسجدوا) فِي قِرَاءَة الْكسَائي أَي يَا هَؤُلَاءِ اسجدوا قبل الدُّعَاء قَول الشَّاعِر (أَلا يَا اسلمي يَا دارمي على البلى ... وَلَا زَالَ منهلا بجرعائك الْقطر) أَي يَا دَار اسلمي فَحسن حذف الْمُنَادِي قبلهَا اعتياد ثُبُوته بِخِلَاف لَيْت فَإِن الْمُنَادِي لم تستعمله الْعَرَب قبلهَا ثَابتا فادعاء حذفه بَاطِل فَتعين كَون يَا هَذِه لمُجَرّد التَّنْبِيه مثل أَلا فِي نَحْو (أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... ) قلت دَعْوَاهُ بِبُطْلَان الْحَذف غير سديدة لِأَن دَلِيله لم يساعده أما قَوْله لِأَن قَائِل لَيْتَني قد يكون وَحده الخ فَظَاهر الْفساد لِأَنَّهُ يجوز أَن يقدر فِيهِ نَفسِي فيخاطب نَفسه على سَبِيل التَّجْرِيد فالتقدير فِي الْآيَة يَا نَفسِي لَيْتَني مت قبل هَذَا وَهَهُنَا أَيْضا يكون التَّقْدِير يَا نَفسِي لَيْتَني كنت فِيهَا جذعا وَأما قَوْله وَلِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يجوز حذفه فَظَاهر الْبعد لِأَنَّهُ لَا مُلَازمَة بَين جَوَاز الْحَذف وَبَين ثُبُوت اسْتِعْمَاله فِيهِ فَافْهَم قَوْله جذعا بِالنّصب وَالرَّفْع وَجه النصب أَن يكون خبر كَانَ الْمُقدر تَقْدِيره لَيْتَني أكون جذعا وَإِلَيْهِ مَال الْكسَائي.


     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض هُوَ مَنْصُوب على الْحَال وَهُوَ مَنْقُول عَن النُّحَاة البصرية وَخبر لَيْت حِينَئِذٍ قَوْله فِيهَا وَالتَّقْدِير لَيْتَني كَائِن فِيهَا حَال شبيبة وَصِحَّة وَقُوَّة لنصرتك.


     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ لَيْت أعملت عمل تمنيت فنصب الجزئين كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رواجعا ... ) وَجه الرّفْع ظَاهر وَهُوَ كَونه خبر لَيْت قَوْله إِذْ يخْرجك قَوْمك قَالَ ابْن مَالك اسْتعْمل فِيهِ إِذْ فِي الْمُسْتَقْبل كإذا وَهُوَ اسْتِعْمَال صَحِيح وغفل عَنهُ أَكثر النَّحْوِيين وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر} وَقَوله تَعَالَى {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب} وَقَوله {فَسَوف يعلمُونَ إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم} قَالَ وَقد اسْتعْمل كل مِنْهُمَا فِي مَوضِع الآخر وَمن اسْتِعْمَال إِذا مَوضِع إِذْ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} لِأَن الانفضاض وَاقع فِيمَا مضى.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا الَّذِي ذكره ابْن مَالك قد أقره عَلَيْهِ غير وَاحِد وَتعقبه شَيخنَا بِأَن النُّحَاة لم يغفلوا عَنهُ بل منعُوا وُرُوده وَأولُوا مَا ظَاهره ذَلِك وَقَالُوا فِي مثل هَذَا اسْتعْمل الصِّيغَة الدَّالَّة على الْمُضِيّ لتحَقّق وُقُوعه فأنزلوه مَنْزِلَته وَيُقَوِّي ذَلِك هُنَا أَن فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير حِين يخْرجك قَوْمك وَعند التَّحْقِيق مَا ادَّعَاهُ ابْن مَالك فِيهِ ارْتِكَاب مجَاز وَمَا ذكره غَيره فِيهِ ارْتِكَاب مجَاز ومجازهم أولى لما يبتنى عَلَيْهِ من أَن إِيقَاع الْمُسْتَقْبل فِي صُورَة الْمُضِيّ تَحْقِيقا لوُقُوعه أَو استحضارا للصورة الْآتِيَة فِي هَذِه دون تِلْكَ قلت بل غفلوا عَنهُ لِأَن التَّنْبِيه على مثلهَذَا لَيْسَ من وظيفتهم وَإِنَّمَا هُوَ من وَظِيفَة أهل الْمعَانِي وَقَوله بل منعُوا وُرُوده كَيفَ يَصح وَقد ورد فِي الْقُرْآن فِي غير مَا مَوضِع وَقَوله وَأولُوا مَا ظَاهره يُنَافِي قَوْله منعُوا وُرُوده وَكَيف نسب التَّأْوِيل إِلَيْهِم وَهُوَ لَيْسَ إِلَيْهِم وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى أهل الْمعَانِي قَوْله ومجازهم أولى الخ بعيد عَن الْأَوْلَوِيَّة لِأَن التَّعْلِيل الَّذِي علله لَهُم هُوَ عين مَا عله ابْن مَالك فِي قَوْله اسْتعْمل إِذْ فِي الْمُسْتَقْبل كإذا وَبِالْعَكْسِ فَمن أَيْن الْأَوْلَوِيَّة قَوْله أَو مخرجي هم جملَة اسمية لِأَن هم مُبْتَدأ ومخرجي مقدما خَبره وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَن مخرجي نكرَة فَإِن إِضَافَته لفظية إِذْ هُوَ اسْم فَاعل بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال وَقد قُلْنَا أَن أَصله مخرجون جمع مخرج من الْإِخْرَاج فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ مخرجي بتَشْديد الْيَاء وَيجوز أَن يكون مخرجي مُبْتَدأ وهم فَاعِلا سد مسد الْخَبَر على لُغَة أكلوني البراغيث وَلَو روى مخرجي بِسُكُون الْيَاء أَو فتحهَا مُخَفّفَة على أَنه مُفْرد يَصح جعله مُبْتَدأ وَمَا بعده فَاعِلا سد مسد الْخَبَر كَمَا تَقول أَو مخرجي بَنو فلَان لاعتماده على حرف الِاسْتِفْهَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احي والداك والمنفصل من الضمائر يجْرِي مجْرى الظَّاهِر وَمِنْه قَول الشَّاعِر (أمنجز أَنْتُم وَعدا وثقت بِهِ ... أم اقتفيتم جَمِيعًا نهج عرقوب) وَقَالَ ابْن مَالك الأَصْل فِي أَمْثَال هَذَا تَقْدِيم حرف الْعَطف على الْهمزَة كَمَا تقدم على غَيرهَا من أدوات الِاسْتِفْهَام نَحْو {وَكَيف تكفرون} و {فَأنى تؤفكون} و {فَأَيْنَ تذهبون} وَالْأَصْل أَن يجاء بِالْهَمْزَةِ بعد العاطف كَهَذا الْمِثَال وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال وأمخرجي فالواو للْعَطْف على مَا قبلهَا من الْجمل والهمزة للاستفهام لِأَن أَدَاة الِاسْتِفْهَام جُزْء من جملَة الِاسْتِفْهَام وَهِي معطوفة على مَا قبلهَا من الْجمل والعاطف لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ جُزْء مَا عطف عَلَيْهِ وَلَكِن خصت الْهمزَة بتقديمها على العاطف تَنْبِيها على أَنه أصل أدوات الِاسْتِفْهَام لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام وَقد خُولِفَ هَذَا الأَصْل فِي غير الْهمزَة فأرادوا التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَكَانَت الْهمزَة بذلك أولى لأصالتها وَقد غفل الزَّمَخْشَرِيّ عَن هَذَا الْمَعْنى فَادّعى أَن بَين الْهمزَة وحرف الْعَطف جملَة محذوفة مَعْطُوفًا عَلَيْهَا بالعاطف مَا بعده.
قلت لم يغْفل الزَّمَخْشَرِيّ عَن ذَلِك وَإِنَّمَا ادّعى هَذِه الدَّعْوَى لدقة نظر فِيهِ وَذَلِكَ لِأَن قَوْله أَو مخرجي هم جَوَاب ورد على قَوْله إِذْ يخْرجك على سَبِيل الاستبعاد والتعجب فَكيف يجوز أَن يقدر فِيهِ تَقْدِيم حرف الْعَطف على الْهمزَة وَلِأَن هَذِه إنشائية وَتلك خبرية فلأجل ذَلِك قدمت الْهمزَة على أَن أَصْلهَا أمخرجي هم بِدُونِ حرف الْعَطف وَلَكِن لما أُرِيد مزِيد استبعاد وتعجب جِيءَ بِحرف الْعَطف على مُقَدّر تَقْدِيره أمعادي هم ومخرجي هم وَأما إِنْكَار الْحَذف فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع فمستبعد لِأَن مثل هَذِه الحذوف من حلية البلاغة لَا سِيمَا حَيْثُ الْإِمَارَة قَائِمَة عَلَيْهَا وَالدَّلِيل عَلَيْهَا هُنَا وجود العاطف وَلَا يجوز الْعَطف على الْمَذْكُور فَيجب أَن يقدر بعد الْهمزَة مَا يُوَافق الْمَعْطُوف تقريرا للاستبعاد قَوْله وَأَن يدركني كلمة إِن للشّرط ويدركني مجزوم بهَا ويومك مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل يدركني والمضاف فِيهِ مَحْذُوف أَي يَوْم إخراجك أَو يَوْم انتشار نبوتك قَوْله أنصرك مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط ونصرا مَنْصُوب على المصدرية ومؤزرا صفته قَوْله ورقة بِالرَّفْع فَاعل لقَوْله لم ينشب وَكلمَة أَن فِي قَوْله أَن توفّي مَفْتُوحَة مُخَفّفَة وَهِي بدل اشْتِمَال من ورقة أَي لم تلبث وَفَاته (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله الصَّالِحَة صفة مُوضحَة عِنْد النُّحَاة وَصفَة فارقة عِنْد أهل الْمعَانِي وَقَوله فِي النّوم من قبيل أمس الدابر كَانَ يَوْمًا عَظِيما لِأَنَّهُ لَيْسَ للكشف وَلَا للتخصيص وَلَا للمدح وَلَا للذم فَتعين أَن يكون للتَّأْكِيد قَوْله مَا أَنا بقارىء قيل أَن مثل هَذَا يُفِيد الِاخْتِصَاص قلت قَالَ الطَّيِّبِيّ مثل هَذَا التَّرْكِيب لَا يلْزم أَن يُفِيد الِاخْتِصَاص بل قد يكون للتقوية والتوكيد أَي لست بقارىء الْبَتَّةَ لَا محَالة وَهُوَ الظَّاهِر هَهُنَا وَالْمُنَاسِب للمقام قَوْله {اقْرَأ باسم رَبك} قدم الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْبَاء وَإِن كَانَ تَأْخِيره للاختصاص كَمَا فِي قَوْله عز وَجل {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} لكَون الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ أهم وَتَقْدِيم الْفِعْل أوقع لذَلِك وَقَوله اقْرَأ أَمر بإيجاد الْقِرَاءَة مُطلقًا لَا تخْتَص بمقروء دون مقروء وَقَوله باسم رَبك حَال أَي اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك أَي قل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ اقْرَأ.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ وَهَذَا يدل على أَن الْبَسْمَلَة مَأْمُور بِقِرَاءَتِهَا فِي ابْتِدَاء كل قِرَاءَة فَتكون قرَاءَتهَا مأمورة فِي ابْتِدَاء هَذِه السُّورَة أَيْضا قلت هَذَا التَّقْدِير خلاف الظَّاهِر فَإِن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يقل لَهُ إِلَّا أَن يَقُول {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم} قَالَ الواحديأخبرنَا الْحسن بن مُحَمَّد الْفَارِسِي قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفضل التَّاجِر قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن الْحَافِظ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن صَالح قَالَ حَدثنَا أَبُو صَالح قَالَ حَدثنِي اللَّيْث قَالَ حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر المَخْزُومِي أَنه سمع بعض عُلَمَائهمْ يَقُول كَانَ أول مَا نزل الله عز وَجل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي} إِلَى قَوْله {مَا لم يعلم} قَالَ هَذَا صدر مَا أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم حراء ثمَّ أنزل آخرهَا بعد ذَلِك وَمَا شَاءَ الله وَلَئِن سلمنَا أَن الْبَسْمَلَة مَأْمُور بهَا فِي الْقِرَاءَة فَلَا يلْزم من ذَلِك الْوُجُوب لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الْأَمر على وَجه النّدب والاستحباب لأجل التَّبَرُّك فِي ابْتِدَاء الْقِرَاءَة قَوْله {رَبك الَّذِي خلق} وصف مُنَاسِب مشْعر بعلية الحكم بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِطْلَاق فِي خلق أَولا على منوال يعْطى وَيمْنَع وَجعله تَوْطِئَة لقَوْله {خلق الْإِنْسَان} إِيذَانًا بِأَن الْإِنْسَان أشرف الْمَخْلُوقَات ثمَّ الامتنان عَلَيْهِ بقوله {علم الْإِنْسَان} يدل على أَن الْعلم أجل النعم قَوْله {علم بالقلم} إِشَارَة إِلَى الْعلم التعليمي و {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} إِشَارَة إِلَى الْعلم اللدني قَوْله لقد خشيت على نَفسِي أَشَارَ فِي تَأْكِيد كَلَامه بِاللَّامِ وَقد إِلَى تمكن الخشية فِي قلبه وخوفه على نَفسه حَتَّى روى صَاحب الغريبين فِي بَاب الْعين وَالدَّال وَالْمِيم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِخَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا أَظن أَنه عرض لي شبه جُنُون فَقَالَت كلا إِنَّك تكسب الْمَعْدُوم وَتحمل الْكل انْتهى فأجابت خَدِيجَة أَيْضا بِكَلَام فِيهِ قسم وتأكيد بِأَن وَاللَّام فِي الْخَبَر فِي صُورَة الْجُمْلَة الإسمية وَذَلِكَ إِزَالَة لحيرته ودهشته وَذَلِكَ من قبيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء} لِأَن قَوْله {وَمَا أبرئ} مَا أزكي نَفسِي أورث الْمُخَاطب حيرة فِي أَنه كَيفَ لَا ينزه نَفسه عَن السوء مَعَ كَونهَا مطمئنة زكية فأزال تِلْكَ الْحيرَة بقوله إِن النَّفس لأمارة بالسوء فِي جَمِيع الْأَشْخَاص أَي بالشهوة والرذيلة إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وأمثال ذَلِك فِي التَّنْزِيل كَثِيرَة وكل هَذَا من إِخْرَاج الْكَلَام على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر قَوْله يَا لَيْتَني كلمة لَيْت لِلتَّمَنِّي تتَعَلَّق بالمستحيل غَالِبا وبالممكن قَلِيلا وَتمنى ورقة أَن يكون عِنْد ظُهُور الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام شَابًّا ليَكُون أمكن إِلَى نَصره وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك على وَجه التحسر لِأَنَّهُ كَانَ يتَحَقَّق أَنه لَا يعود شَابًّا قَوْله أَو مخرجي هم قد ذكرنَا أَن الْهمزَة فِيهِ للاستفهام وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك على وَجه الْإِنْكَار والتفجع لذَلِك والتألم مِنْهُ لِأَنَّهُ استبعد إِخْرَاجه من غير سَبَب لِأَنَّهَا حرم الله تَعَالَى وبلد أَبِيه إِسْمَاعِيل وَلم يكن مِنْهُ فِيمَا مضى وَلَا فِيمَا يَأْتِي سَبَب يَقْتَضِي ذَلِك بل كَانَ مِنْهُ أَنْوَاع المحاسن والكرامات الْمُقْتَضِيَة لإكرامه وإنزاله مَا هُوَ لَائِق بمحله وَالْعَادَة أَن كل مَا أَتَى للنفوس بِغَيْر مَا تحب وتألف وَإِن كَانَ مِمَّن يحب ويعتقد يعافه ويطرده وَقد قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُم {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} (بَيَان الْبَيَان) قَوْله مثل فلق الصُّبْح فِيهِ تَشْبِيه وَقد علم أَن أَدَاة التَّشْبِيه الْكَاف وَكَأن وَمثل وَنَحْو وَمَا يشتق من مثل وَشبه وَنَحْوهمَا والمشبه هَهُنَا الرُّؤْيَا والمشبه بِهِ فلق الصُّبْح وَوجه الشّبَه هُوَ الظُّهُور الْبَين الْوَاضِح الَّذِي لَا يشك فِيهِ قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا فِيهِ اسْتِعَارَة الْحَيَوَان للْإنْسَان ومبناه على التَّشْبِيه حَيْثُ أطلق الْجذع الَّذِي هُوَ الْحَيَوَان المنتهي إِلَى الْقُوَّة وَأَرَادَ بِهِ الشَّبَاب الَّذِي فِيهِ قُوَّة الرجل وتمكنه من الْأُمُور (الأسئلة والأجوبة) وَهِي على وُجُوه.
الأول مَا قيل لم أبتدىء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرؤيا أَولا وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا ابتدىء بهَا لِئَلَّا يفجأه الْملك ويأتيه بِصَرِيح النُّبُوَّة وَلَا تحتملها القوى البشرية فبدىء بأوائل خِصَال النُّبُوَّة وتباشير الْكَرَامَة من صدق الرُّؤْيَا مَعَ سَماع الصَّوْت وَسَلام الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ ورؤية الضَّوْء ثمَّ أكمل الله لَهُ النُّبُوَّة بإرسال الْملك فِي الْيَقَظَة وكشف لَهُ عَن الْحَقِيقَة كَرَامَة لَهُ الثَّانِي مَا قيل مَا حَقِيقَة الرُّؤْيَا الصادقة أُجِيب بِأَن الله تَعَالَى يخلق فِي قلب النَّائِم أَو فِي حواسه الْأَشْيَاء كَمَا يخلقها فِي الْيَقظَان وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل مَا يَشَاء لَا يمنعهُ نوم وَلَا غَيره عَنهُ فَرُبمَا يَقع ذَلِك فِي الْيَقَظَة كَمَا رَآهُ فِي الْمَنَام وَرُبمَا جعل مَا رَآهُ علما على أُمُور أخر يخلقها الله فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَتَقَع تِلْكَ كَمَا جعل الله تَعَالَى الْغَيْم عَلامَة للمطر الثَّالِث مَا قيل لم حبب إِلَيْهِ الْخلْوَة أُجِيب بِأَن مَعهَا فرَاغ الْقلب وَهِي مُعينَة على التفكر والبشر لَا ينْتَقل عَن طبعه إِلَّا بالرياضة البليغة فحبب إِلَيْهِ الْخلْوَة لينقطع عَن مُخَالطَة الْبشر فينسى المألوفات من عَادَته فيجد الْوَحْي مِنْهُ مرَادا سهلا لَا حزنا ولمثل هَذَا الْمَعْنى كَانَت مُطَالبَة الْملك لَهُ بِالْقِرَاءَةِ والضغطة وَيُقَال كَانَ ذَلِك اعْتِبَار أَو فكرةكاعتبار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لمناجاة ربه والضراعة إِلَيْهِ ليريه السَّبِيل إِلَى عِبَادَته على صِحَة إِرَادَته.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ حبب الْعُزْلَة إِلَيْهِ لِأَن فِيهَا سُكُون الْقلب وَهِي مُعينَة على التفكر وَبهَا يَنْقَطِع عَن مألوفات الْبشر ويخشع قلبه وَهِي من جملَة الْمُقدمَات الَّتِي أرهصت لنبوته وَجعلت مبادي لظهورها.
الرَّابِع مَا قيل أَن ... عِبَادَته عَلَيْهِ وَسلم قبل الْبَعْث هَل كَانَت شَرِيعَة أحد أم لَا فِيهِ قَولَانِ لأهل الْعلم وعزى الثَّانِي إِلَى الْجُمْهُور إِنَّمَا كَانَ يتعبد بِمَا يلقى إِلَيْهِ من نور الْمعرفَة وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب والبيضاوي أَنه كلف التَّعَبُّد بشرع وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِالثَّانِي هَل يَنْتَفِي ذَلِك عَنهُ عقلا أم نقلا فَقيل بِالْأولِ لِأَن فِي ذَلِك تنفيرا عَنهُ وَمن كَانَ تَابعا فبعيد مِنْهُ أَن يكون متبوعا وَهَذَا خطأ مِنْهُ كَمَا قَالَ الْمَازرِيّ فالعقل لَا يحِيل ذَلِك.


     وَقَالَ  حذاق أهل السّنة بِالثَّانِي لِأَنَّهُ لَو فعل لنقل لِأَنَّهُ مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله ولافتخر بِهِ أهل تِلْكَ الشَّرِيعَة وَالْقَائِل بِالْأولِ اخْتلف فِيهِ على ثَمَانِيَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه كَانَ يتعبد بشريعة إِبْرَاهِيم الثَّانِي بشريعة مُوسَى الثَّالِث بشريعة عِيسَى الرَّابِع بشريعة نوح حَكَاهُ الْآمِدِيّ الْخَامِس بشريعة آدم حُكيَ عَن ابْن برهَان السَّادِس أَنه كَانَ يتعبد بشريعة من قبله من غير تعْيين السَّابِع أَن جَمِيع الشَّرَائِع شرع لَهُ حَكَاهُ بعض شرَّاح الْمَحْصُول من الْمَالِكِيَّة الثَّامِن الْوَقْف فِي ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب أبي الْمَعَالِي الإِمَام وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ فَإِن قلت قد قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} قلت المُرَاد فِي تَوْحِيد الله وَصِفَاته أَو المُرَاد اتِّبَاعه فِي الْمَنَاسِك كَمَا علم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْخَامِس مَا قيل مَا كَانَ صفة تعبده أُجِيب بِأَن ذَلِك كَانَ بالتفكر وَالِاعْتِبَار كاعتبار أَبِيه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام السَّادِس مَا قيل هَل كلف النَّبِي بعد النُّبُوَّة بشرع أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أُجِيب بِأَن الْأُصُولِيِّينَ اخْتلفُوا فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ على الْمَنْع وَاخْتَارَهُ الإِمَام والآمدي وَغَيرهمَا وَقيل بل كَانَ مَأْمُورا بِأخذ الْأَحْكَام من كتبهمْ ويعبر عَنهُ بِأَن شرع من قبلنَا شرع لنا وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا الأول وَاخْتَارَهُ الْجُمْهُور السَّابِع مَا قيل مَتى كَانَ نزُول الْملك عَلَيْهِ أُجِيب بِأَن ابْن سعد روى بِإِسْنَادِهِ أَن نزُول الْملك عَلَيْهِ بحراء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لسبع عشرَة خلت من رَمَضَان وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ ابْن أَرْبَعِينَ سنة الثَّامِن مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي غطه ثَلَاث مَرَّات قلت ليظْهر فِي ذَلِك الشدَّة وَالِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور وَأَن يَأْخُذ الْكتاب بِقُوَّة وَيتْرك الأناة فَإِنَّهُ أَمر لَيْسَ بالهوينا وكرره ثَلَاثًا مُبَالغَة فِي التثبت التَّاسِع مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِيهِ على رِوَايَة ابْن إِسْحَاق أَن الغط كَانَ فِي النّوم أُجِيب بِأَنَّهُ يكون فِي تِلْكَ الغطات الثَّلَاث من التَّأْوِيل بِثَلَاث شَدَائِد يبتلى بهَا أَولا ثمَّ يَأْتِي الْفَرح وَالسُّرُور الأولى مَا لقِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَأَصْحَابه من شدَّة الْجُوع فِي الشّعب حَتَّى تعاقدت قُرَيْش أَن لَا يبيعوا مِنْهُم وَلَا يصلوا إِلَيْهِم وَالثَّانيَِة مَا لقوا من الْخَوْف والإيعاد بِالْقَتْلِ وَالثَّالِثَة مَا لقِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الإجلاء عَن الوطن وَالْهجْرَة من حرم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْعَاشِر مَا قيل مَا الخشية الَّتِي خشيها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لقد خشيت على نَفسِي أُجِيب بِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهَا على اثنى عشر قولا الأول أَنه خَافَ من الْجُنُون وَأَن يكون مَا رَآهُ من أَمر الكهانة وَجَاء ذَلِك فِي عدَّة طرق وأبطله أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَأَنه لجدير بالأبطال الثَّانِي خَافَ أَن يكون هاجسا وَهُوَ الخاطر بالبال وَهُوَ أَن يحدث نَفسه ويجد فِي صَدره مثل الوسواس وأبطلوا هَذَا أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يسْتَقرّ وَهَذَا اسْتَقر وحصلت بَينهمَا الْمُرَاجَعَة الثَّالِث خَافَ من الْمَوْت من شدَّة الرعب الرَّابِع خَافَ أَن لَا يقوى على مقاومة هَذَا الْأَمر وَلَا يُطيق حمل أعباء الْوَحْي الْخَامِس الْعَجز عَن النّظر إِلَى الْملك وَخَافَ أَن تزهق نَفسه وينخلع قلبه لشدَّة مَا لقِيه عِنْد لِقَائِه السَّادِس خَافَ من عدم الصَّبْر على أَذَى قومه السَّابِع خَافَ من قومه أَن يقتلوه حَكَاهُ السُّهيْلي وَلَا غرو أَنه بشر يخْشَى من الْقَتْل والأذى ثمَّ يهون عَلَيْهِ الصَّبْر فِي ذَات الله تَعَالَى كل خشيَة ويجلب إِلَى قلبه كل شجاعة وَقُوَّة الثَّامِن خَافَ مُفَارقَة الوطن بِسَبَب ذَلِك التَّاسِع مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنَّهَا كَانَت مِنْهُ قبل أَن يحصل لَهُ الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن الَّذِي جَاءَهُ ملك من عِنْد الله تَعَالَى وَكَانَ أشق شَيْء عَلَيْهِ أَن يُقَال عَنهُ شَيْء الْعَاشِر خَافَ من وُقُوع النَّاس فِيهِ الْحَادِي عشر مَا قَالَه ابْن أبي جَمْرَة أَن خَشيته كَانَت من الوعك الَّذِي أَصَابَهُ من قبل الْملك الثَّانِي عشر هُوَ إِخْبَار عَن الخشية الَّتِي حصلت لَهُ على غير مواطئة بَغْتَة كَمَا يحصل للبشر إِذا دهمه أَمر لم يعهده.


     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض هَذَا أول بادىء التباشير فِي النّوم واليقظة وَسمع الصَّوْت قبل لِقَاء الْملكوَتحقّق رِسَالَة ربه فقد خَافَ أَن يكون من الشَّيْطَان فَأَما بعد أَن جَاءَهُ الْملك بالرسالة فَلَا يجوز الشَّك عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يخْشَى تسلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ.


     وَقَالَ  النَّوَوِيّ هَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ خلاف تَصْرِيح الحَدِيث فَإِن هَذَا كَانَ بعد غط الْملك وإتيانه بإقرأ باسم رَبك قَالَ قلت إِلَّا أَن يكون معنى خشيت على نَفسِي أَن يخبرها بِمَا حصل لَهُ أَولا من الْخَوْف لَا أَنه خَائِف فِي حَال الْإِخْبَار فَلَا يكون ضَعِيفا الْحَادِي عشر من الأسئلة مَا قيل من أَيْن علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الجائي إِلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا الشَّيْطَان وَبِمَ عرف أَنه حق لَا بَاطِل أُجِيب بِأَنَّهُ كَمَا نصب الله لنا الدَّلِيل على أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق لَا كَاذِب وَهُوَ المعجزة كَذَلِك نصب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيلا على أَن الجائي إِلَيْهِ ملك لَا شَيْطَان وَأَنه من عِنْد الله لَا من غَيره الثَّانِي عشر مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي فتور الْوَحْي مُدَّة أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِك ليذْهب مَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجده من الروع وليحصل لَهُ التشوق إِلَى الْعود الثَّالِث عشر مَا قيل مَا كَانَ مُدَّة الفترة أُجِيب بِأَنَّهُ وَقع فِي تَارِيخ أَحْمد بن حَنْبَل عَن الشّعبِيّ أَن مُدَّة فَتْرَة الْوَحْي كَانَت ثَلَاث سِنِين وَبِه جزم ابْن إِسْحَاق وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَن مُدَّة الرُّؤْيَا كَانَت سِتَّة أشهر وعَلى هَذَا فابتداء النُّبُوَّة بالرؤيا وَقع فِي شهر مولده وَهُوَ ربيع الأول وَابْتِدَاء وَحي الْيَقَظَة وَقع فِي رَمَضَان وَلَيْسَ فَتْرَة الْوَحْي الْمقدرَة بِثَلَاث سِنِين وَهُوَ مَا بَين نزُول اقْرَأ أَو يَا أَيهَا المدثر عدم مَجِيء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ بل تَأَخّر نزُول الْقُرْآن عَلَيْهِ فَقَط الرَّابِع عشر مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّعَبُّد بحراء من بَين سَائِر الْجبَال أُجِيب بِأَن حراء هُوَ الَّذِي نَادَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قَالَ لَهُ ثبير اهبط عني فَإِنِّي أَخَاف أَن تقتل على ظَهْري فاعذرني يَا رَسُول الله فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَخْصِيصه بِهِ.


     وَقَالَ  أَبُو عبد الله بن أبي جَمْرَة لِأَنَّهُ يرى بَيت ربه مِنْهُ وَهُوَ عبَادَة وَكَانَ منزويا مجموعا لتحنثه.
الْخَامِس عشر مَا قيل أَن قَوْله ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي يُعَارضهُ مَا رُوِيَ فِي سيرة ابْن إِسْحَاق أَن ورقة كَانَ يمر ببلال وَهُوَ يعذب لما أسلم وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه تَأَخّر إِلَى زمن الدعْوَة وَإِلَى أَن دخل بعض النَّاس فِي الْإِسْلَام أُجِيب بِأَنا لَا نسلم الْمُعَارضَة فَإِن شَرط التَّعَارُض الْمُسَاوَاة وَمَا رُوِيَ فِي السِّيرَة لَا يُقَاوم الَّذِي فِي الصَّحِيح وَلَئِن سلمنَا فَلَعَلَّ الرَّاوِي لما فِي الصَّحِيح لم يحفظ لورقة بعد ذَلِك شَيْئا من الْأُمُور فَلذَلِك جعل هَذِه الْقِصَّة انْتِهَاء أمره بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا علمه مِنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي نفس الْأَمر السَّادِس عشر مَا وَجه تَخْصِيص ورقة بن نَوْفَل ناموس النَّبِي بالناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دون سَائِر الْأَنْبِيَاء مَعَ أَن لكل نَبِي ناموسا أُجِيب بِأَن الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى لَيْسَ كناموس الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهُ أنزل عَلَيْهِ كتاب بِخِلَاف سَائِر الْأَنْبِيَاء فَمنهمْ من نزل عَلَيْهِ صحف وَمِنْهُم من نبىء بأخبار جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْهُم من نبىء بأخبار ملك الرصاف (استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه الأول فِيهِ تَصْرِيح من عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِأَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جملَة أَقسَام الْوَحْي وَهُوَ مَحل وفَاق الثَّانِي فِيهِ مَشْرُوعِيَّة اتِّخَاذ الزَّاد وَلَا يُنَافِي التَّوَكُّل فقد اتَّخذهُ سيد المتوكلين الثَّالِث فِيهِ الحض على التَّعْلِيم ثَلَاثًا بِمَا فِيهِ مشقة كَمَا فتل الشَّارِع أذن ابْن عَبَّاس فِي إدارته على يَمِينه فِي الصَّلَاة وانتزع شُرَيْح القَاضِي من هَذَا الحَدِيث أَن لَا يضْرب الصَّبِي إِلَّا ثَلَاثًا على الْقُرْآن كَمَا غط جِبْرِيل مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاثًا الرَّابِع فِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ أَن سُورَة {اقْرَأ باسم رَبك} أول مَا نزل وَقَول من قَالَ أَن أول مَا نزل {يَا أَيهَا المدثر} عملا بالرواية الْآتِيَة فِي الْبَاب فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا المدثر} مَحْمُول على أَنه أول مَا نزل بعد فَتْرَة الْوَحْي وَأبْعد من قَالَ أَن أول مَا نزل الْفَاتِحَة بل هُوَ شَاذ وَجمع بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين بِأَن قَالَ يُمكن أَن يُقَال أول مَا نزل من التَّنْزِيل فِي تَنْبِيه الله على صفة خلقه (اقْرَأ) وَأول مَا نزل من الْأَمر بالإنذار {يَا أَيهَا المدثر} وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ عَن كريب قَالَ وجدنَا فِي كتاب ابْن عَبَّاس أول مَا نزل من الْقُرْآن بِمَكَّة اقْرَأ وَاللَّيْل وَنون وَيَا أَيهَا المزمل وَيَا أَيهَا المدثر وتبت وَإِذا الشَّمْس والأعلى وَالضُّحَى وألم نشرح لَك وَالْعصر وَالْعَادِيات والكوثر وَالتَّكَاثُر وَالدّين ثمَّ الفلق ثمَّ النَّاس ثمَّ ذكر سورا كَثِيرَة وَنزل بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ سُورَة وسائرها بِمَكَّة وَكَذَلِكَ يرْوى عَن ابْن الزبير.
.


     وَقَالَ  السخاوي ذهبت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن أول مَا نزل {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى قَوْله {مَا لم يعلم} ثمَّ ن والقلم إِلَى قَوْله ويبصرون وَيَا أَيهَا المدثر وَالضُّحَى ثمَّ نزل بَاقِي سُورَة اقْرَأ بعد يَا أَيهَا المدثر وَيَا أَيهَا المزمل الْخَامِس قَالَ السُّهيْلي فِي قَوْله (اقْرَأباسم رَبك} دَلِيل من الْفِقْه على وجوب استفتاح الْقِرَاءَة بِبسْم الله غير أَنه أَمر مُبْهَم لم يتَبَيَّن لَهُ بِأَيّ اسْم من أَسْمَائِهِ يستفتح حَتَّى جَاءَ الْبَيَان بعد فِي قَوْله {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} ثمَّ فِي قَوْله {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ثمَّ بعد ذَلِك كَانَ ينزل جِبْرِيل بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَ كل سُورَة وَقد ثبتَتْ فِي سَواد الْمُصحف بِإِجْمَاع من الصَّحَابَة على ذَلِك وَحين نزلت بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سبحت الْجبَال فَقَالَت قُرَيْش سحر مُحَمَّد الْجبَال ذكره النقاش قلت دَعْوَى الْوُجُوب تحْتَاج إِلَى دَلِيل وَكَذَلِكَ دَعْوَى نزُول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَ كل سُورَة وثبوتها فِي سَواد الْمُصحف لَا يدل على وجوب قرَاءَتهَا وَمَا ذكره النقاش فِي تَفْسِيره فقد تكلمُوا فِيهِ السَّادِس فِيهِ أَن الفازع لَا يَنْبَغِي أَن يسْأَل عَن شَيْء حَتَّى يَزُول عَنهُ فزعه حَتَّى قَالَ مَالك أَن المذعور لَا يلْزمه بيع وَلَا إِقْرَار وَلَا غَيره السَّابِع فِيهِ أَن مَكَارِم الْأَخْلَاق وخصال الْخَيْر سَبَب للسلامة من مصَارِع الشَّرّ والمكاره فَمن كثر خَيره حسنت عاقبته ورجى لَهُ سَلامَة الدّين وَالدُّنْيَا الثَّامِن فِيهِ جَوَاز مدح الْإِنْسَان فِي وَجهه لمصْلحَة وَلَا يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (احثوا فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب) لِأَن هَذَا فِيمَا يمدح بباطل أَو يُؤَدِّي إِلَى بَاطِل التَّاسِع فِيهِ أَنه يَنْبَغِي تأنيس من حصلت لَهُ مَخَافَة وتبشيره وَذكر أَسبَاب السَّلامَة لَهُ الْعَاشِر فِيهِ أبلغ دَلِيل على كَمَال خَدِيجَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وجزالة رأيها وَقُوَّة نَفسهَا وَعظم فقهها وَقد جمعت جَمِيع أَنْوَاع أصُول المكارم وأمهاتها فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِحْسَان إِمَّا إِلَى الْأَقَارِب وَإِمَّا إِلَى الْأَجَانِب وَإِمَّا بِالْبدنِ وَإِمَّا بِالْمَالِ وَإِمَّا على من يسْتَقلّ بأَمْره وَإِمَّا على غَيره الْحَادِي عشر فِيهِ جَوَاز ذكر العاهة الَّتِي بالشخص وَلَا يكون ذَلِك غيبَة قلت يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا على التَّفْصِيل فَإِن كَانَ لبَيَان الْوَاقِع أَو للتعريف أَو نَحْو ذَلِك فَلَا بَأْس وَلَا يكون غيبَة وَإِن كَانَ لأجل استنقاصه أَو لأجل تعييره فَإِن ذَلِك لَا يجوز الثَّانِي عشر فِيهِ أَن من نزل بِهِ أَمر يسْتَحبّ لَهُ أَن يطلع عَلَيْهِ من يَثِق بنصحه وَصِحَّة رَأْيه الثَّالِث عشر فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُجيب يُقيم الدَّلِيل على مَا يُجيب بِهِ إِذا اقْتَضَاهُ الْمقَام (فَوَائِد الأولى) خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي بن كلاب أم الْمُؤمنِينَ تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَهِي أم أَوْلَاده كلهم خلا إِبْرَاهِيم فَمن مَارِيَة وَلم يتَزَوَّج غَيرهَا قبلهَا وَلَا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَت قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين على الْأَصَح وَقيل بِخمْس وَقيل بِأَرْبَع فأقامت مَعَه أَرْبعا وَعشْرين سنة وَسِتَّة أشهر ثمَّ توفيت وَكَانَت وفاتها بعد وَفَاة أبي طَالب بِثَلَاثَة أَيَّام وَاسم أمهَا فَاطِمَة بنت زَائِدَة بن الْأَصَم من بني عَامر بن لؤَي وَهِي أول من آمن من النِّسَاء بِاتِّفَاق بل أول من آمن مُطلقًا على قَول وَوَقع فِي كتاب الزبير بن بكار عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد قَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّا فضل الله بِهِ ابْني عَليّ أَن زَوجته خَدِيجَة كَانَت عونا لَهُ على تَبْلِيغ أَمر الله عز وَجل وَأَن زَوْجَتي كَانَت عونا لي على الْمعْصِيَة الثَّانِيَة ورقة بِفَتْح الرَّاء بن نَوْفَل بِفَتْح النُّون وَالْفَاء بن أَسد بن عبد الْعُزَّى.
.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فَإِن قلت مَا قَوْلك فِي ورقة أيحكم بإيمانه قلت لَا شكّ أَنه كَانَ مُؤمنا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأما الْإِيمَان بنبينا عَلَيْهِ السَّلَام فَلم يعلم أَن دين عِيسَى قد نسخ عِنْد وَفَاته أم لَا وَلَئِن ثَبت أَنه كَانَ مَنْسُوخا فِي ذَلِك الْوَقْت فَالْأَصَحّ أَن الْإِيمَان التَّصْدِيق وَهُوَ قد صدقه من غير أَن يذكر مَا يُنَافِيهِ قلت قَالَ ابْن مَنْدَه اخْتلف فِي إِسْلَام ورقة وَظَاهر هَذَا الحَدِيث وَهُوَ قَوْله فِيهِ يَا لَيْتَني كنت فِيهَا جذعا وَمَا ذكر بعده من قَوْله يدل على إِسْلَامه وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخبرهُ قَالَ لَهُ ورقة بن نَوْفَل وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّك لنَبِيّ هَذِه الْأمة وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تسبوا ورقة فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ جنَّة أَو جنتان ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ورقة فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة أَنه كَانَ صدقك وَلكنه مَاتَ قبل أَن تظهر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْته فِي الْمَنَام وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وَلَو كَانَ من أهل النَّار لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاس غير ذَلِك ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن لَيْسَ عِنْد أهل الحَدِيث بِالْقَوِيّ.


     وَقَالَ  السُّهيْلي فِي إِسْنَاده ضعف لِأَنَّهُ يَدُور على عُثْمَان هَذَا وَلَكِن يقويه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت الْفَتى يَعْنِي ورقة وَعَلِيهِ ثِيَاب حَرِير لِأَنَّهُ أول من آمن بِي وصدقني ذكره ابْن إِسْحَق عَن أبي ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل.


     وَقَالَ  المرزباني كَانَ ورقة من عُلَمَاء قُرَيْش وشعرائهم وَكَانَ يدعىالقس.


     وَقَالَ  النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْته وَعَلِيهِ حلَّة خضراء يرفل فِي الْجنَّة وَكَانَ يذكر الله فِي شعره فِي الْجَاهِلِيَّة ويسبحه فَمن ذَلِك قَوْله (لقد نصحت لأقوام وَقلت لَهُم ... أَنا النذير فَلَا يغرركم أحد) (لَا تعبدن إِلَهًا غير خالقكم ... فَإِن دعوكم فَقولُوا بَيْننَا جدد) (سُبْحَانَ ذِي الْعَرْش سبحانا لعود لَهُ ... وَقَبله سبح الجودي والجمد) (مسخر كل مَا تَحت السَّمَاء لَهُ ... لَا يَنْبَغِي أَن يُنَادي ملكه أحد) (لَا شَيْء مِمَّا ترى تبقى بشاشته ... يبْقى الْإِلَه ويفنى المَال وَالْولد) (لم تغن عَن هُرْمُز يَوْمًا خزائنه ... والخلد قد حاولت عَاد فَمَا خلدوا) (وَلَا سُلَيْمَان إِذْ تجْرِي الرِّيَاح لَهُ ... وَالْإِنْس وَالْجِنّ فِيمَا بَينهَا برد) (أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت لعزتها ... من كل أَوب إِلَيْهَا وَافد يفد) (حَوْض هُنَالك مورود بِلَا كدر ... لَا بُد من ورده يَوْمًا كَمَا وردوا) نسبه أَبُو الْفرج إِلَى ورقة وَفِيه أَبْيَات تنْسب إِلَى أُميَّة بن أبي الصَّلْت وَمن شعره قَوْله (فَإِن يَك حَقًا يَا خَدِيجَة فاعلمي ... حَدِيثك إيانا فَأَحْمَد مُرْسل) (وَجِبْرِيل يَأْتِيهِ وميكال مَعَهُمَا ... من الله وَحي يشْرَح الصَّدْر منزل) (الثَّالِثَة) أَنه قد عرفت أَن خَدِيجَة هِيَ الَّتِي انْطَلَقت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ورقة وَقد جَاءَ فِي السِّيرَة من حَدِيث عَمْرو بن شُرَحْبِيل أَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ دخل على خَدِيجَة وَلَيْسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدهَا ثمَّ ذكرت خَدِيجَة لَهُ مَا رَآهُ فَقَالَت يَا عَتيق اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّد إِلَى ورقة فَلَمَّا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ أَبُو بكر بِيَدِهِ فَقَالَ انْطلق بِنَا إِلَى ورقة فَقَالَ وَمن أخْبرك فَقَالَ خَدِيجَة فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فقصا عَلَيْهِ فَقَالَ إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء خَلْفي يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد فأنطلق هَارِبا فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ لَا تفعل إِذْ أَتَاك فَاثْبتْ حَتَّى تسمع مَا يَقُول ثمَّ ائْتِنِي فَأَخْبرنِي فَلَمَّا خلا ناداه يَا مُحَمَّد قل {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} حَتَّى بلغ {وَلَا الضَّالّين} قل لَا إِلَه إِلَّا الله فَأتى ورقة فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ لَهُ ورقة أبشر ثمَّ أبشر فَأَنا أشهد بأنك الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى ابْن مَرْيَم وَإنَّك على مثل ناموس مُوسَى وَإنَّك نَبِي مُرْسل وَإنَّك ستؤمر بِالْجِهَادِ بعد يَوْمك هَذَا وَلَئِن أدركني ذَاك لأجاهدن مَعَك فَلَمَّا توفّي ورقة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد رَأَيْت القس فِي الْجنَّة وَعَلِيهِ ثِيَاب الْحَرِير لِأَنَّهُ آمن بِي وصدقني يَعْنِي ورقة وَفِي سير سُلَيْمَان بن طرحان التَّيْمِيّ أَنَّهَا ركبت إِلَى بحيرا بِالشَّام فَسَأَلته عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهَا قدوس يَا سيدة قُرَيْش أَنى لَك بِهَذَا الِاسْم فَقَالَت بعلي وَابْن عمي أَخْبرنِي أَنه يَأْتِيهِ فَقَالَ مَا علم بِهِ إِلَّا نَبِي فَإِنَّهُ السفير بَين الله وَبَين أنبيائه وَأَن الشَّيْطَان لَا يجترىء أَن يتَمَثَّل بِهِ وَلَا أَن يتسمى باسمه.
وَفِي الْأَوَائِل لأبي هِلَال من حَدِيث سُوَيْد بن سعيد حَدثنَا الْوَلِيد بن مُحَمَّد عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا خرجت إِلَى الراهب ورقة وعداس فَقَالَ ورقة أخْشَى أَن يكون أحد شبه بِجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَرَجَعت وَقد نزل {ن والقلم وَمَا يسطرون} فَلَمَّا قَرَأَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا على ورقة قَالَ أشهد أَن هَذَا كَلَام الله تَعَالَى.
فَإِن قلت مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَخْبَار قلت بِأَن تكون خَدِيجَة قد ذهبت بِهِ مرّة وأرسلته مَعَ الصّديق أُخْرَى وسافرت إِلَى بحيرا أَو غَيره مرّة أُخْرَى وَهَذَا من شدَّة اعتنائها بِسَيِّد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثه بَينا أَنا أَمْشِي إِذْ سَمِعت صَوتا من السَّمَاء فَرفعت بَصرِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالس على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَرُعِبْت مِنْهُ فَرَجَعت فَقلت زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر} فحمى الْوَحْي وتتابع)ابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَقد مر.
وَأَبُو سَلمَة بِفتْحَتَيْنِ اسْمه عبد الله أَو إِسْمَعِيل أَو اسْمه كنيته ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي التَّابِعِيّ الإِمَام الْجَلِيل الْمُتَّفق على إِمَامَته وجلالته وثقته وَهُوَ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة على أحد الْأَقْوَال سمع جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعنهُ خلائق من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ فَمن بعدهمْ وَتزَوج أَبوهُ تماضر بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْمُعْجَمَة بنت الْأصْبع بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين غير مُعْجمَة وَهِي الْكَلْبِيَّة من أهل دومة الجندل وَلم تَلد لعبد الرَّحْمَن غير أبي سَلمَة توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَتِسْعين وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة فِي خلَافَة الْوَلِيد وَجَابِر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرَام بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاء ابْن عَمْرو بن سَواد بتَخْفِيف الْوَاو ابْن سَلمَة بِكَسْر اللَّام ابْن سعد بن عَليّ بن أَسد بن ساردة ابْن تُرِيدُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن جشم بِضَم الْجِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ بِفَتْح السِّين وَاللَّام وَحكي فِي لُغَة كسرهَا الْمدنِي أَبُو عبد الله أَو عبد الرَّحْمَن أَو أَبُو مُحَمَّد أحد السِّتَّة المكثرين رُوِيَ لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وَخَمْسمِائة حَدِيث وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا أخرجَا لَهُ مِائَتي حَدِيث وَعشرَة أَحَادِيث اتفقَا مِنْهَا على ثَمَانِيَة وَخمسين وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِسِتَّة وَعشْرين وَمُسلم بِمِائَة وَسِتَّة وَعشْرين وَأمه نسيبة بنت عقبَة بن عدي مَاتَ بعد أَن عمي سنة ثَمَان أَو ثَلَاث أَو أَربع أَو تسع وَسبعين وَقيل سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَكَانَ عمره أَرْبعا وَتِسْعين سنة وَصلى عَلَيْهِ أبان بن عُثْمَان وَالِي الْمَدِينَة وَهُوَ آخر الصَّحَابَة موتا بِالْمَدِينَةِ وَجَابِر بن عبد الله فِي الصَّحَابَة ثَلَاثَة.
جَابر بن عبد الله هَذَا.
وَجَابِر بن عبد الله بن ربَاب بن النُّعْمَان بن سِنَان.
وَجَابِر بن عبد الله الرَّاسِبِي نزيل الْبَصْرَة وَأما جَابر فِي الصَّحَابَة فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ نَفرا وَجَابِر بن عبد الله فِي غير الصَّحَابَة خَمْسَة الأول سلمي يروي عَن أَبِيه عَن كَعْب الْأَحْبَار.
الثَّانِي محاربي عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ.
الثَّالِث غطفاني يروي عَن عبد الله بن الْحسن الْعلوِي.
الرَّابِع مصري عَنهُ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
الْخَامِس يروي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَانَ كذابا وَجَابِر يشْتَبه بجاثر بالثاء الْمُثَلَّثَة مَوضِع الْبَاء الْمُوَحدَة وبخاتر بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ رَاء فَالْأول أَبُو الْقَبِيلَة الَّتِي بعث الله مِنْهَا صَالحا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ ثَمُود بن جاثر بن أرم بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَخُوهُ جديس بن جاثر.
وَالثَّانِي معن لَهُ أَخْبَار وحكايات مَشْهُورَة (حكم الحَدِيث) قَالَ الْكرْمَانِي مثل هَذَا أَي مَا لم يذكر من أول الْإِسْنَاد وَاحِدًا أَو أَكثر يُسمى تَعْلِيقا وَلَا يذكرهُ البُخَارِيّ إِلَّا إِذا كَانَ مُسْندًا عِنْده إِمَّا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم كَأَنَّهُ قَالَ حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل أَنه قَالَ قَالَ ابْن شهَاب أَو بِإِسْنَاد آخر وَقد ترك الْإِسْنَاد هَهُنَا لغَرَض من الْأَغْرَاض الْمُتَعَلّقَة بِالتَّعْلِيقِ لكَون الحَدِيث مَعْرُوفا من جِهَة الثِّقَات أَو لكَونه مَذْكُورا فِي مَوضِع آخر أَو نَحوه قَالَ بَعضهم وَأَخْطَأ من زعم أَن هَذَا مُعَلّق قلت يعرض بذلك للكرماني وَلَا معنى للتعريض لِأَن الحَدِيث صورته فِي الظَّاهِر من التَّعْلِيق وَإِن كَانَ مُسْندًا عِنْده فِي مَوضِع آخر فَإِنَّهُ أخرجه أَيْضا فِي الْأَدَب وَفِي التَّفْسِير أتم من هَذَا وأوله عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ سَأَلت أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أول مَا نزل من الْقُرْآن قَالَ {يَا أَيهَا المدثر} قلت يَقُولُونَ {اقْرَأ باسم رَبك} الَّذِي خلق فَقَالَ أَبُو سَلمَة سَأَلت جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا عَن ذَلِك قلت لَهُ مثل الَّذِي قلت فَقَالَ جَابر لَا أحَدثك إِلَّا مَا حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ جَاوَرت بحراء شهرا فَلَمَّا قضيت جواري ثمَّ ذكر نَحوه.


     وَقَالَ  فِي التَّفْسِير.
حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب (ح) وحَدثني عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي فَذكره وَأخرجه مُسلم بألفاظه (وَمن لطائف إِسْنَاده) أَن كلهم مدنيون.
وَفِيه تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
فَإِن قلت لم قَالَ قَالَ ابْن شهَاب وَلم يقل وروى أَو وَعَن ابْن شهَاب وَنَحْو ذَلِك.
قلت قَالُوا إِذا كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا لَا يُقَال فِيهِ قَالَ لِأَنَّهُ من صِيغ الْجَزْم بل يُقَال حكى أَو قيل أَو يُقَال بِصِيغَة التمريض وَقد اعتنى البُخَارِيّ بِهَذَا الْفرق فِي صَحِيحه كَمَا سترى وَذَلِكَ من غَايَة إتقانه فَإِن قيل مَا كَانَ مُرَاده من إِخْرَاجه بِهَذِهِ الصُّورَة مَعَ أَنه أخرجه مُسْندًا فِي صَحِيحه فِي مَوضِع آخر.
قلت لَعَلَّه وَضعه على هَذِه الصُّورَة قبل أَن وقف عَلَيْهِ مُسْندًا فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ مُسْندًا ذكره وَترك الأول على حَاله لعدم خلوه عَن فَائِدَة(بَيَان اللُّغَات) قَوْله عَن فَتْرَة الْوَحْي وَهُوَ احتباسه وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله على كرْسِي هُوَ بِضَم الْكَاف وَكسرهَا وَالضَّم أفْصح وَجمعه كراسي بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها قَالَ ابْن السّكيت كل مَا كَانَ من هَذَا النَّحْو مفرده مشدد كعارية وسرية جَازَ فِي جمعه التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف.


     وَقَالَ  الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره أصل الْكُرْسِيّ الْعلم وَمِنْه قيل لصحيفة يكون فِيهَا علم كراسة.


     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ الْكُرْسِيّ مَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يفضل عَن مقْعد الْقَاعِد وَفِي الْعباب الْكُرْسِيّ من قَوْلهم كرس الرجل بِالْكَسْرِ إِذا ازْدحم علمه على قلبه فَإِن قلت مَا هَذِه الْيَاء فِيهِ قلت لَيست يَاء النِّسْبَة وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة فَإِذا أُرِيد النِّسْبَة إِلَيْهِ تحذف الْيَاء مِنْهُ وَيُؤْتى بياء النِّسْبَة فَيُقَال كرْسِي أَيْضا فَافْهَم قَوْله فَرُعِبْت مِنْهُ بِضَم الرَّاء وَكسر الْعين على مَا لم يسم فَاعله وَرِوَايَة الْأصيلِيّ بِفَتْح الرَّاء وبضم الْعين وهما صَحِيحَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره قَالَ يَعْقُوب رعب ورعب وَاقْتصر النَّوَوِيّ فِي شَرحه الَّذِي لم يكمله على الأول.


     وَقَالَ  بَعضهم الرِّوَايَة بِضَم الْعين واللغة بِفَتْحِهَا حَكَاهُ السفاقسي والرعب الْخَوْف يُقَال رعبته فَهُوَ مرعوب إِذا أفزعته وَلَا يُقَال أرعبته تَقول رعب الرجل على وزن فعل كضرب بِمَعْنى خَوفه هَذَا إِذا عديته فَإِن ضممت الْعين قلت رعبت مِنْهُ وَإِن بنيته على مَا لم يسم فَاعله ضممت الرَّاء فَقلت رعبت مِنْهُ وَفِي البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَمُسلم هُنَا فجئثت مِنْهُ بِضَم الْجِيم وَكسر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة من جئث الرجل أَي أفزع فَهُوَ مجؤث أَي مذعور ومادته جِيم ثمَّ همزَة ثمَّ ثاء مُثَلّثَة قَالَ القَاضِي كَذَا هُوَ للكافة فِي الصَّحِيحَيْنِ وروى فجثثت بِضَم الْجِيم وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَهُوَ بِمَعْنى الأول ومادته جِيم ثمَّ ثاآن مثلثتان وَفِي بعض الرِّوَايَات حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض أَي سَقَطت أخرجهَا مُسلم وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَفِي بَعْضهَا فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة وَهِي كَثْرَة الِاضْطِرَاب قَوْله زَمِّلُونِي فِي أَكثر الْأُصُول زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي مرَّتَيْنِ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة مرّة وَاحِدَة وللبخاري فِي التَّفْسِير وَلمُسلم أَيْضا دَثرُونِي وَهُوَ هُوَ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله {يَا أَيهَا المدثر} أَصله المتدثر وَكَذَلِكَ المزمل أَصله المتزمل والمدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بِمَعْنى وَسَماهُ الله تَعَالَى بذلك إيناسا لَهُ وتلطفا.
ثمَّ الْجُمْهُور على أَن مَعْنَاهُ المتدثر بثيابه وَحكى الْمَاوَرْدِيّ عَن عِكْرِمَة أَن مَعْنَاهُ المتدثر بِالنُّبُوَّةِ وأعبائها قَوْله {قُم فَأَنْذر} أَي حذر الْعَذَاب من لم يُؤمن بِاللَّه وَفِيه دلَالَة على أَنه أَمر بالإنذار عقيب نزُول الْوَحْي للإتيان بِالْفَاءِ التعقيبية فَإِن قلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل بشيرا وَنَذِيرا فَكيف أَمر بالإنذار دون الْبشَارَة قلت الْبشَارَة إِنَّمَا تكون لمن دخل فِي الْإِسْلَام وَلم يكن إِذْ ذَاك من دخل فِيهِ قَوْله {وَرَبك فَكبر} أَي عظمه ونزهه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَقيل أَرَادَ بِهِ تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح للصَّلَاة وَفِيه نظر قَوْله {وثيابك فطهر} أَي من النَّجَاسَات على مَذْهَب الْفُقَهَاء وَقيل أَي فقصر وَقيل المُرَاد بالثياب النَّفس أَي طهرهَا من كل نقص أَي اجْتنب النقائص قَوْله {وَالرجز} بِكَسْر الرَّاء فِي قِرَاءَة الْأَكْثَر وَقَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم بضَمهَا وَهِي الْأَوْثَان فِي قَول الْأَكْثَرين.
وَفِي مُسلم التَّصْرِيح بِهِ وَفِي التَّفْسِير عَن أبي سَلمَة التَّصْرِيح بِهِ وَقيل الشّرك وَقيل الذَّنب وَقيل الظُّلم.
وأصل الرجز فِي اللُّغَة الْعَذَاب وَيُسمى عبَادَة الْأَوْثَان وَغَيرهَا من أَنْوَاع الْكفْر رجزا لِأَنَّهُ سَبَب الْعَذَاب قَوْله فحمي بِفَتْح الْحَاء وَكسر الْمِيم مَعْنَاهُ كثر نُزُوله من قَوْلهم حميت النَّار وَالشَّمْس أَي كثرت حَرَارَتهَا وَمِنْه قَوْلهم حمي الْوَطِيس والوطيس التَّنور استعير للحرب قَوْله وتتابع تفَاعل من التَّتَابُع قَالَت الشُّرَّاح كلهم ومعناهما وَاحِد فأكد أَحدهمَا بِالْآخرِ.
قلت لَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فَإِن معنى حمي النَّهَار اشْتَدَّ حره وَمعنى تتَابع تَوَاتر وَأَرَادَ بحمي الْوَحْي اشتداده وهجومه وَبِقَوْلِهِ تتَابع تواتره وَعدم انْقِطَاعه وَإِنَّمَا لم يكتف بحمي وَحده لِأَنَّهُ لَا يسْتَلْزم الِاسْتِمْرَار والدوام والتواتر فَلذَلِك زَاد قَوْله وتتابع فَافْهَم فَإِنَّهُ من الْأَسْرَار الربانية والأفكار الرحمانية وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا رِوَايَة الْكشميهني وتواتر مَوضِع وتتابع والتواتر مَجِيء الشَّيْء يَتْلُو بعضه بَعْضًا من غير خلل وَلَقَد أبعد من قَالَ وتتابع توكيد معنوي لِأَن التَّأْكِيد الْمَعْنَوِيّ لَهُ أَلْفَاظ مَخْصُوصَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
فَإِن قَالَ مَا أردْت بِهِ التَّأْكِيد الاصطلاحي يُقَال لَهُ هَذَا إِنَّمَا يكون بَين لفظين مَعْنَاهُمَا وَاحِد وَقد بَينا الْمُغَايرَة بَين حمي وتتابع وَالرُّجُوع إِلَى الْحق من جملَة الدّين (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله قَالَ ابْن شهَاب فعل وفاعل قَوْله وَأَخْبرنِي مَعْطُوف على مَحْذُوف هُوَ مقول القَوْل تَقْدِيره قَالَ ابْن شهَاب أَخْبرنِي عُرْوَة بِكَذَا وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بِكَذَا فلأجل قَصده بَيَان الْإِخْبَار عَن عُرْوَة بن الزبيروَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَتَى بواو الْعَطف وَإِلَّا فمقول القَوْل لَا يكون بِالْوَاو وَنَحْوه فَافْهَم قَوْله أَن جَابر بن عبد الله بِفَتْح أَن لِأَنَّهَا فِي مَحل النصب على المفعولية قَوْله وَهُوَ يحدث جملَة اسمية وَقعت حَالا أَي قَالَ فِي حَالَة التحديث عَن احتباس الْوَحْي عَن النُّزُول أَو قَالَ جَابر فِي حَالَة التحديث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله بَينا أَصله بَين بِلَا ألف فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا فَيصير بَيْنَمَا ومعناهما وَاحِد وَهُوَ من الظروف الزمانية اللَّازِمَة للإضافة إِلَى الْجُمْلَة الإسمية وَالْعَامِل فِيهِ الْجَواب إِذا كَانَ مُجَردا من كلمة المفاجأة وَإِلَّا فَمَعْنَى المفاجأة المتضمنة هِيَ إِيَّاهَا وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى وَقيل اقْتضى جَوَابا لِأَنَّهَا ظرف يتَضَمَّن المجازاة والأفصح فِي جَوَابه إِذْ وَإِذا خلافًا للأصمعي وَالْمعْنَى أَن فِي أثْنَاء أَوْقَات الْمَشْي فاجأني السماع قَوْله إِذْ سَمِعت جَوَاب بَينا على مَا ذكرنَا قَوْله فَإِذا الْملك كلمة إِذا هَهُنَا للمفاجأة وَهِي تخْتَص بالجمل الإسمية وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب وَلَا يَقع فِي الِابْتِدَاء وَمَعْنَاهَا الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال نَحْو خرجت فَإِذا الْأسد بِالْبَابِ وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك وظرف مَكَان عِنْد الْمبرد وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور وظرف زمَان عِنْد الزّجاج وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
فَإِن قلت مَا الْفَاء فِي فَإِذا قلت زَائِدَة لَازِمَة عِنْد الْفَارِسِي والمازني وَجَمَاعَة وعاطفة عِنْد أبي الْفَتْح وللسببية الْمَحْضَة عِنْد أبي إِسْحَاق قَوْله جَالس بِالرَّفْع كَذَا فِي البُخَارِيّ وَفِي مُسلم جَالِسا بِالنّصب قَالَ النَّوَوِيّ كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَجَاء فِي رِوَايَة فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء وَاقِف بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَفِي طَرِيق آخر على عرش بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَلمُسلم فَإِذا هُوَ على الْعَرْش فِي الْهَوَاء وَفِي رِوَايَة على كرْسِي وَهُوَ تَفْسِير الْعَرْش الْمَذْكُور.
قَالَ أهل اللُّغَة الْعَرْش السرير فَإِن قلت وَجه الرّفْع ظَاهر لِأَنَّهُ خبر عَن الْملك الَّذِي هُوَ مُبْتَدأ وَقَوله الَّذِي جَاءَنِي بحراء صفته فَمَا وَجه النصب قلت على الْجُمْلَة الحالية من الْملك فَإِن قلت إِذا نصب جَالِسا على الْحَال فَمَاذَا يكون خبر الْمُبْتَدَأ وَقد قلت أَن إِذا المفاجأة تخْتَص بالاسمية قلت حِينَئِذٍ يكون الْخَبَر محذوفا مُقَدرا وَيكون التَّقْدِير فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء شاهدته حَال كَونه جَالِسا على كرْسِي أَو نَحْو ذَلِك قَوْله بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ظرف وَلكنه فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهُ صفة لكرسي وَالْفَاء فِي فَرُعِبْت تصلح للسَّبَبِيَّة وَكَذَا فِي فَرَجَعت لِأَن رُؤْيَة الْملك على هَذِه الْحَالة سَبَب لرعبه ورعبه سَبَب لرجوعه وَالْفَاء فِي فَقلت وَفِي فَأنْزل الله على أَصْلهَا للتعقيب قَوْله وَرَبك مَنْصُوب بقوله {فَكبر وثيابك} بقوله {فطهر وَالرجز} بقوله {فاهجر} فَإِن قلت مَا الْفَا آتٍ فِي الْآيَة قلت الْفَاء فِي {فَأَنْذر} تعقيبية وَبَقِيَّة الفاآت كالفاء فِي قَوْله تَعَالَى {بل الله فاعبد} فَقيل جَوَاب لَا مَا مقدرَة وَقيل زَائِدَة وَإِلَيْهِ مَال الْفَارِسِي وَعند الْأَكْثَرين عاطفة وَالْأَصْل تنبه فاعبد الله ثمَّ حذف تنبه وَقدم الْمَنْصُوب على الْفَاء إصلاحا للفظ لِئَلَّا تقع الْفَاء صَدرا قَوْله فحمي الْفَاء فِيهِ عاطفة وَالتَّقْدِير فَبعد إِنْزَال الله هَذِه الْآيَة حمي الْوَحْي (استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا الدّلَالَة على وجود الْمَلَائِكَة ردا على زنادقة الفلاسفة وَمِنْهَا إِظْهَار قدرَة الله تَعَالَى إِذْ جعل الْهَوَاء للْمَلَائكَة يتصرفون فِيهِ كَيفَ شاؤا كَمَا جعل الأَرْض لبني آدم يتصرفون فِيهَا كَيفَ شاؤا فَهُوَ ممسكهما بقدرته وَمِنْهَا أَنه عبر بقوله فحمي تتميما للتمثيل الَّذِي مثلت بِهِ عَائِشَة أَولا وَهُوَ كَونهَا جعلت الرُّؤْيَا كَمثل فلق الصُّبْح فَإِن الضَّوْء لَا يشْتَد إِلَّا مَعَ قُوَّة الْحر وَالْحق ذَلِك بتتابع لِئَلَّا يَقع التَّمْثِيل بالشمس من كل الْجِهَات لِأَن الشَّمْس يلْحقهَا الأفول والكسوف وَنَحْوهمَا وشمس الشَّرِيعَة بَاقِيَة على حَالهَا لَا يلْحقهَا نقص (وَتَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره) تَابعه فعل ومفعول وَعبد الله فَاعله وَالضَّمِير يرجع إِلَى يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور فِي أول الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا وَقَوله وَأَبُو صَالح عطف على عبد الله بن يُوسُف وَهُوَ أَيْضا تَابع يحيى بن بكير وَالْحَاصِل أَن عبد الله بن يُوسُف وَأَبا صَالحا تَابعا يحيى بن بكير فِي الرِّوَايَة عَن اللَّيْث بن سعد فَرَوَاهُ عَن اللَّيْث ثَلَاثَة يحيى بن بكير وَعبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح.
أما مُتَابعَة عبد الله بن يُوسُف ليحيى بن بكير فِي رِوَايَته عَن اللَّيْث بن سعد فأخرجها البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَالْأَدب وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن حميد عَن عبد الرازق بِهِ.


     وَقَالَ  حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن عمر بن عبد الْوَاحِد عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب بِهِ وَأما رِوَايَة أبي صَالح عَن اللَّيْث بِهَذَا الحَدِيثفأخرجها يَعْقُوب بن سُفْيَان فِي تَارِيخه عَنهُ مَقْرُونا بِيَحْيَى بن بكير قَوْله وَتَابعه هِلَال بن رداد أَي تَابع عقيل بن خَالِد هِلَال بن رداد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ فَإِن قلت كَيفَ أُعِيد الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي وَتَابعه إِلَى عقيل وَرُبمَا يتَوَهَّم أَنه عَائِد إِلَى أبي صَالح أَو إِلَى عبد الله بن يُوسُف لِكَوْنِهِمَا قريبين مِنْهُ قلت قَوْله عِنْد الزُّهْرِيّ هُوَ الَّذِي عين عود الضَّمِير إِلَى عقيل وَدفع التَّوَهُّم الْمَذْكُور لِأَن الَّذِي روى عَن الزُّهْرِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور هُوَ عقيل وَالْحَاصِل أَن هِلَال بن رداد روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن الزُّهْرِيّ كَمَا رَوَاهُ عقيل بن خَالِد عَنهُ وَحَدِيثه فِي الزهريات للذهلي وَهَذَا أول مَوضِع جَاءَ فِيهِ ذكر الْمُتَابَعَة وَالْفرق بَين المتابعتين أَن الْمُتَابَعَة الأولى أقوى لِأَنَّهَا مُتَابعَة تَامَّة والمتابعة الثَّانِيَة أدنى من الأولى لِأَنَّهَا مُتَابعَة نَاقِصَة فَإِذا كَانَ أحد الراويين رَفِيقًا للْآخر من أول الْإِسْنَاد إِلَى آخِره تسمى بالمتابعة التَّامَّة وَإِذا كَانَ رَفِيقًا لَهُ لَا من الأول يُسمى بالمتابعة النَّاقِصَة.
ثمَّ النوعان رُبمَا يُسمى المتابع عَلَيْهِ فيهمَا وَرُبمَا لَا يُسمى فَفِي الْمُتَابَعَة الأولى لم يسم المتابع عَلَيْهِ وَهُوَ اللَّيْث وَفِي الثَّانِيَة يُسمى المتابع عَلَيْهِ وَهُوَ الزُّهْرِيّ فقد وَقع فِي هَذَا الحَدِيث الْمُتَابَعَة التَّامَّة والمتابعة النَّاقِصَة وَلم يسم المتابع عَلَيْهِ فِي الأولى وَسَماهُ فِي الثَّانِيَة على مَا لَا يخفى.


     وَقَالَ  النَّوَوِيّ وَمِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ المعتني بِصَحِيح البُخَارِيّ (فَائِدَة) ننبه عَلَيْهَا وَهِي أَنه تَارَة يَقُول تَابعه مَالك عَن أَيُّوب وَتارَة يَقُول تَابعه مَالك وَلَا يزِيد فَإِذا قَالَ مَالك عَن أَيُّوب فَهَذَا ظَاهر وَأما إِذا اقْتصر على تَابعه مَالك فَلَا يعرف لمن الْمُتَابَعَة إِلَّا من يعرف طَبَقَات الروَاة ومراتبهم.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فعلى هَذَا لَا يعلم أَن عبد الله يروي عَن اللَّيْث أَو عَن غَيره.
قلت الطَّرِيقَة فِي هَذَا أَن تنظر طبقَة المتابع بِكَسْر الْبَاء فتجعله مُتَابعًا لمن هُوَ فِي طبقته بِحَيْثُ يكون صَالحا لذَلِك أَلا ترى كَيفَ لم يسم البُخَارِيّ المتابع عَلَيْهِ فِي الْمُتَابَعَة الأولى وَسَماهُ فِي الثَّانِيَة فَافْهَم قَوْله.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره مُرَاده أَن أَصْحَاب الزُّهْرِيّ اخْتلفُوا فِي هَذِه اللَّفْظَة فروى عقيل عَن الزُّهْرِيّ فِي الحَدِيث يرجف فُؤَاده كَمَا مضى وَتَابعه على هَذِه اللَّفْظَة هِلَال بن رداد وَخَالفهُ يُونُس وَمعمر فروى عَن الزُّهْرِيّ يرجف فُؤَاده (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي شيخ البُخَارِيّ وَقد ذكر الثَّانِي أَبُو صَالح قَالَ أَكثر الشُّرَّاح هُوَ عبد الْغفار بن دَاوُد بن مهْرَان بن زِيَاد بن دَاوُد بن ربيعَة بن سُلَيْمَان بن عُمَيْر الْبكْرِيّ الْحَرَّانِي ولد بأفريقية سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَخرج بِهِ أَبوهُ وَهُوَ طِفْل إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَت أمه من أَهلهَا فَنَشَأَ بهَا وتفقه وَسمع الحَدِيث من حَمَّاد بن سَلمَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر مَعَ أَبِيه وَسمع من اللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَغَيرهمَا وَسمع بِالشَّام إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وبالجزيرة مُوسَى بن أعين واستوطن مصر وَحدث بهَا وَكَانَ يكره أَن يُقَال لَهُ الْحَرَّانِي وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْحَرَّانِي لِأَن أَخَوَيْهِ عبد الله وَعبد الرَّحْمَن ولدا بهَا وَلم يَزَالَا بهَا وحزان مَدِينَة بالجزيرة من ديار بكر وَالْيَوْم خراب سميت بحران بن آزر أخي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام روى عَنهُ يحيى بن معِين وَالْبُخَارِيّ وروى أَبُو دَاوُد عَن رجل عَنهُ وَخرج لَهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَمَات بِمصْر سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا وهم وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث الْمصْرِيّ وَلم يتَبَيَّن لي وَجهه فِي التَّرْجِيح لِأَن البُخَارِيّ روى عَن كليهمَا الثَّالِث هِلَال بن رداد برَاء ثمَّ دالين مهملتين الأولى مِنْهُمَا مُشَدّدَة وَهُوَ طائي حمصي أخرج البُخَارِيّ هُنَا مُتَابعَة لعقيل وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي البُخَارِيّ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع وَلم يخرج لَهُ بَاقِي الْكتب السِّتَّة روى عَن الزُّهْرِيّ وَعنهُ ابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد قَالَ الذهلي كَانَ كَاتبا لهشام وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَلَا ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه وَإِنَّمَا ذكر ابْن أبي حَاتِم ثمَّ وَلَده مُحَمَّدًا إِذْ لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكتب السِّتَّة قَالَ ابْن أبي حَاتِم هِلَال بن رداد مَجْهُول وَلم يذكرهُ الكلاباذي فِي رجال الصَّحِيح رَأْسا الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَقد مر ذكره الْخَامِس يُونُس بن يزِيد بن مشكان بن أبي النجاد بِكَسْر النُّون الْأَيْلِي بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْقرشِي مولى مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان سمع خلقا من التَّابِعين مِنْهُم الْقَاسِم وَعِكْرِمَة وَسَالم وَنَافِع وَالزهْرِيّ وَغَيرهم وَعنهُ الْأَعْلَام جرير بن حَازِم وَهُوَ تَابِعِيّ فَهَذَا من رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَخلق مَاتَ سنة تسع وَخمسين وَمِائَة بِمصْر روى لَهُ الْجَمَاعَة وَفِي يُونُس سِتَّة أوجه ضم النُّون وَكسرهَا وَفتحهَا مَعَ الْهمزَة وَتركهَا وَالضَّم بِلَا همزَة أفْصح السَّادِس أَبُو عُرْوَة معمر بن أبي عَمْرو بن رَاشد الْأَزْدِيّ الْحَرَّانِي مَوْلَاهُم عَالم الْيمن شهد جَنَازَةالْحسن الْبَصْرِيّ وَسمع خلقا من التَّابِعين مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب وَقَتَادَة وَعنهُ جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَأَيوب وَيحيى بن أبي كثير وَهَذَا من رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر قَالَ عبد الرَّزَّاق سَمِعت مِنْهُ عشرَة آلَاف حَدِيث مَاتَ بِالْيمن سنة أَربع أَو ثَلَاث أَو اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة عَن ثَمَان وَخمسين سنة وَله أَوْهَام كَثِيرَة احتملت لَهُ قَالَ أَبُو حَاتِم صَالح الحَدِيث وَمَا حدث بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أغاليط وَضَعفه يحيى بن معِين فِي رِوَايَة عَن ثَابت وَمعمر بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ معمر بن رَاشد غير هَذَا بل لَيْسَ فيهمَا من اسْمه معمر غَيره نعم فِي صَحِيح البُخَارِيّ معمر بن يحيى بن سَام الضَّبِّيّ وَقيل إِنَّه بتَشْديد الْمِيم روى لَهُ البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْغسْل وَفِي الصَّحَابَة معمر ثَلَاثَة عشر وَفِي الروَاة معمر فِي الْكتب الْأَرْبَعَة سِتَّة وفيهَا معمر بِالتَّشْدِيدِ بخلف خَمْسَة وَفِي غَيرهَا خلق معمر بن بكار شيخ لمطين فِي حَدِيثه وهم وَمعمر بن أبي سرح مَجْهُول وَمعمر بن الْحسن الْهُذلِيّ مَجْهُول وَحَدِيثه مُنكر وَمعمر بن زَائِدَة لَا يُتَابع على حَدِيثه وَمعمر بن زيد مَجْهُول وَمعمر بن أبي سرح مَجْهُول وَمعمر بن عبد الله عَن شُعْبَة لَا يُتَابع على حَدِيثه وَالله أعلم (فَائِدَة) أَبُو صَالح فِي الروَاة فِي مَجْمُوع الْكتب السِّتَّة أَرْبَعَة عشر.
أَبُو صَالح عبد الْغفار.
أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح وَقد ذكرناهما.
أَبُو صَالح الْأَشْعَرِيّ الشَّامي.
أَبُو صَالح الْأَشْعَرِيّ أَيْضا.
وَيُقَال الْأنْصَارِيّ.
أَبُو صَالح الْحَارِثِيّ.
أَبُو صَالح الْحَنَفِيّ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن قيس وَيُقَال أَنه ماهان أَبُو صَالح الحوري لَا يعرف اسْمه أَبُو صَالح السمان اسْمه ذكْوَان.
أَبُو صَالح الْغِفَارِيّ سعيد بن عبد الرَّحْمَن.
أَبُو صَالح الْمَكِّيّ مُحَمَّد بن زنبور روى عَن عِيسَى بن يُونُس.
أَبُو صَالح مولى طَلْحَة بن عبد الله الْقرشِي التَّيْمِيّ.
أَبُو صَالح مولى عُثْمَان بن عَفَّان أَبُو صَالح مولى ضباعة اسْمه مينا.
أَبُو صَالح مولى أم هانىء اسْمه باذان.
وَكلهمْ تابعيون خلا ابْن زنبور وَكَاتب اللَّيْث.
وَبَعْضهمْ عد الْأَخير صحابيا وَله حَدِيث رَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة على تَقْدِير صِحَّته من يكنى بِهَذِهِ الكنية غَيره وَأما فِي غير الْكتب السِّتَّة فَإِنَّهُم جمَاعَة فَوق الْعشْرَة بَينهم الرامَهُرْمُزِي فِي فاصله قَوْله بوادره بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة جمع بادرة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق تضطرب عِنْد فزع الْإِنْسَان.
.


     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة تكون من الْإِنْسَان وَغَيره.


     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي الفريصة اللحمة الَّتِي بَين الْجنب والكتف الَّتِي لَا تزَال ترْعد من الدَّابَّة وَجَمعهَا فرائص.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده فِي الْمُخَصّص البادرتان من الْإِنْسَان لحمتان فَوق الرغثاوين وأسفل التندوة وَقيل هما جانبا الكركرة وَقيل هما عرقان يكتنفانها قَالَ والبادرة من الْإِنْسَان وَغَيره.


     وَقَالَ  الهجري فِي أَمَالِيهِ لَيست للشاة بادرة ومكانها مردغة للشاة وهما الأرتبان تَحت صليفي الْعُنُق لَا عظم فيهمَا وَادّعى الدَّاودِيّ أَن البوادر والفؤاد وَاحِد.
قلت الرغثاوان بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا ثاء مُثَلّثَة قَالَ اللَّيْث الرغثاوان مضيفتان بَين التندوة والمنكب بجانبي الصَّدْر.


     وَقَالَ  شهر الرغثاء مَا بَين الْإِبِط إِلَى أَسْفَل الثدي مِمَّا يَلِي الْإِبِط وَكَذَلِكَ قَالَه ابْن الْأَعرَابِي قَوْله مردغة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة والغين الْمُعْجَمَة وَهِي وَاحِدَة المرادغ قَالَ أَبُو عمر وَهِي مَا بَين الْعُنُق إِلَى الترقوة قَوْله صليفي الْعُنُق بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالفاء قَالَ أَبُو زيد الصليفان رَأْسا الْفَقْرَة الَّتِي تلِي الرَّأْس من شقيهماإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري
[3] باب حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ.
قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ».
قَالَ «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ».
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ».
قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
[الحديث أطرافه في 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982] .
(حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا بواو العطف (يحيى) أبو زكريا (بن بكير) بضم الموحدة تصغير بكر القرشي المخزومي المصري المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به واسم أبيه عبد الله، (قال: حدّثنا الليث) بالمثلثة ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي عالم أهل مصر من تابعي التابعين، قال أبو نعيم: أدرك نيفًا وخمسين من التابعين القلقشندي المولود سنة ثلاث أو أربع وتسعين، المتوفى في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكان حنفي المذهب فيما قاله ابن خلكان، لكن المشهور أنه مجتهد.
وقد روينا عن الشافعي أنه قال: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه ضيعه قومه.
وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، (عن عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا ابن خالد بن عقيل بفتح العين، الأيليّ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، القرشيّ الأمويّ المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدنيّ تابعيّ صغير، ونسبه المؤلف كغيره إلى جدّه الأعلى لشهرته به، (عن عروة بن الزبير) بالتصغير (عن عائشة أم الؤمنين، رضي الله عنها (أنها قالت أول ما بدىء به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي) إليه (الرؤيا الصالحة في النوم)، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقولها قالها قال: فأخذني فغطني، فيكون قولها أول ما بدىء به حكاية ما تلفظ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فلا يكون من المراسيل.
وقوله: من الوحي أي من أقسام الوحي، فمن للتبعيض.
وقال أبو عبد الله القزاز: ليست الرؤيا من الوحي ومن لبيان الجنس.
وقال الأبّي نعم هي كالوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها.
وفي رواية مسلم كالمصنف في رواية معمر ويونس الصادقة وهي التي ليست فيها ضغث، وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين فهو ْصفة موضحة أو لأن غيرها يسمى حلمًا، أو تخصيص دون السيئة والكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وأهل المعاني يسمونها صفة فارقة.
وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي.
وحينئذ فيكون ابتداء النبوّة بالرؤيا حصل في شهر ربيع وهو شهر مولده.
واحترز بقوله من الوحي عما رآه من دلائل نبوّته من غير وحي كتسليم الحجر عليه كما في مسلم، وأوّله مطلقًا ما سمعه من بحيرا الراهب كما في الترمذي بسند صحيح.
(فكان) بالفاء للأصيلي ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وفي نسخة للأصيلي، وكان أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا يرى رؤيا) بلا تنوين (إلا جاءث مثل فلق الصبح) كرؤياه دخول المسجد الحرام، ومثل نصب بمصدر محذوف، أي إلاّ جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمعنى أنها شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فيكون النصب على الحال، وعبر بفلق الصبح لأن شمس النبوّة قد كانت مبادىء أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها وتم نورها، والفلق: الصبح.
لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص، والبيان إضافة العام إلى الخاص.
وعن أمالي الرافعي حكاية خلاف أنه أوحي إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء من القرآن في النوم أولاً.
وقال: الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة، ووقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه عليه الصلاة والسلام هو جبريل.
ولفظه أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام هو جبريل استعلن، وإنما ابتدىء عليه الصلاة والسلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحتمل القوى البشرية، فبدىء بأوائل خصال النبوة.
(ثم حبب إليه الخلاء) بالمدمصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل، وعبر بحبب المبني لما لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهًا على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصادق قلبًا خاليًا فتمكّنا.
وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًّا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها.
وخلوته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوّة مكتسبة.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (يخلو بغار حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض، قال: وهي لغية وهو مصروف إن أُريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر، وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامها في بيت فقال: حرا وقبا ذكّر وأنّثهما معًا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار نقب فيه.
(فيتحنث فيه) بالحاء المهملة وآخره مثلثة، والضمير المنفصل عائد إلى مصدر يتحنث، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوّب إذا اجتنب الإثم والحوب.
أو هي بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء، (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة.
ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب للمقام، وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي.
ورواية المصنف من طريق يونس عنه في التفسير تدل على الإدراج، والليالي نصب على الظرفية متعلق بقوله يتحنث، لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلب التعبد.
وذوات نصب بالكسرة صفة الليالي، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام.
وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير، ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف ومسلم جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحق أنه شهر رمضان.
قال في قوت الإحياء: ولم يصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر منه، نعم روى الأربعين سوار بن مصعب وهو متروك الحديث.
قاله الحاكم وغيره، وأما قوله تعالى: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] فحجة للشهر، والزيادة إتمامًا للثلاثين حيث استاك أو أكل فيها كسجود السهو فقوي تقييدها بالشهر وأنها سُنّة.
نعم الأربعون ثمرة نتاج النطفة علقة فمضغة فصورة والدر في صدفه.
فإن قلت: أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم؟ أجيب بأنه أوّل ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مرّ.
فدلّ على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة ثم للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق وظهوره مبارك عليه وعلى أمته تأسّيًا وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم.
فإن قلت: لمِ خصّ حراء بالتعبد فيه دون غيره؟ قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره، لأنه منزوٍ مجموع لتحنثه وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة.
وعند ابن إسحق أنه كان يعتكف شهر رمضان، ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر، (قبل أن ينزع) بفتح أوّله وكسر الزاي أي يحن ويشتاق ويرجع(إلى أهله) عياله.
(ويتزود لذلك) برفع الدال في اليونينية لأبوي ذر والوقت عطفًا على يتحنث، أي يتخذ الزاد للخلوة أو التعبد.
(ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها، (فيتزود لمثلها) أي لمثل الليالي وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزوّد بكونه من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السُّنّة لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه.
(حتى جاءه) الأمر (الحق) وهو الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد.
وفاء فجاءه تفسيرية كهي في قوله تعالى: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] تفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق.
(فقال) له (اقرأ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد.
(قال) عليه الصلاة والسلام ولأبوي ذر والوقت قلت (ما أنا بقارىء).
وفي رواية ما أحسن أن أقرأ.
فما نافية واسمها أنا وخبرها بقارىء وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية.
وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحق ماذا أقرأ؟ وبأن الأخفش جوّز دخول الباء على الخبر المثبت، قال ابن مالك في بحسبك زيد أن زيدًا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة، وحسبك خبر مقدّم لأنه نكرة، والباء زائدة فيه.
وفي مرسل عبيد بن عمير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارىء.
قال السهيلي، وقال بعض المفسرين أن قوله تعالى: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل عليه السلام حين قال له اقرأ.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (فأخذني) جبريل (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبري فغتني بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حب النفس.
(حتى بلغ مني الجهد) بفتح الجيم ونصب الدال أي بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي، فهو مفعول حذف فاعله.
وفي شرح المشكاة أن المعنى على النصب أن جبريل بلغ في الجهد غايته، وتعقبه التوربشتي بأنه يعود المعنى إلى جبريل غطه حتى استفرغ قوته وجهد جهده بحيث لم تبق فيه بقية، قال: وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك وداخله الرعب، وحينئذ فمن رواه بالنصب فقد وهم.
وأجاب الطيبي بأن جبريل في حال الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى له بها عند سدرة المنتهى، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له بها وغطه وحينئذ فيضمحل الاستبعاد انتهى.
ويروى الجهد بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه فهو فاعل بلغ.
(ثم أرسلني) أي أطلقني.
(فقال: اقرأ.
قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي فقلت: (ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب وبالضم والرفع كسابقه.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة) وهذا الغط ليفرّغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكنيته إلى ما يلقى إليه.
وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات.
وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولا يذكر الجهد هنا، نعم هو ثابت عنده في التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وعدّ بعضهم هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يناقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق).
قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله: باسم ربك حال.
أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدل على أن البسملةمأمور بها في ابتداء كل قراءة.
وقوله: ربك الذي خلق، وصف مناسب مُشعِر بعلية الحكم بالقراءة.
والإطلاق في قوله خلق أوّلاً على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله: ({ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ) الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور أنه أوّل ما نزل.
وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى { مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي المرشد أوّل ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل هذا الموضع { مَا لَمْ يَعْلَمْ} طوى النمط، ومن ثم قال القرّاء: إنه وقف تام.
وقال: من علق، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإنسان في معنى الجمع.
وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه.
(فرجع بها) أي بالآيات (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى أهله حال كونه (يرجف) بضم الجيم يخفق ويضطرب، (فؤاده) قلبه أو باطنه أو غشاؤه لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمأَلوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوّة لا تزيك طباع البشرية كلها (فدخل) عليه الصلاة والسلام (على خديجة بنت خويلد) أم المؤمنين (رضي الله عنها) التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له (فقال) عليه الصلاة والسلام: (زمّلوني زمّلوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف.
وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع، (فقال) عليه الصلاة والسلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر) جملة حالية (لقد) أي والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الرعب، أو المرض، كما جزم به في بهجة النفوس أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أوّلاً عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله وأكد باللاء وقد تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة.
(فقالت) له عليه الصلاة والسلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قالت بإسقاط الفاء (كلا) نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك أو لا خوف عليك، (والله ما يخزيك الله أبدًا) بضم المثناة التحتية وبالخاء المعجمة الساكنة والزاي المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة من الخزي، أي ما يفضحك الله.
ولأبي ذر عن الكشميهني ما يحزنك الله بفتح أوّله وبالحاء المهملة الساكنة والزاي المضمومة أو بضم أوّله مع كسر الزاي وبالنون من الحزن، يقال حزنه وأحزنه.
(إنك) بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال العلاّمة البدر الدماميني: وفصلت هذه الجملة عن الأولى لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو سؤال عن سبب خاص، فحسن التأكيد.
وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك لسبب عظيم، فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل: هل سبب ذلك هو الاتّصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف كما يشير إليه كلامك، قالت: إنك (لتصل الرحم) أي القرابة، (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو الذي لا يستقل بأمره، أو الثقل بكسر المثلثة وإسكان القاف، (وتكسب المعدوم) بفتح المثناة الفوقية، أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.
وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو كسبت المال، وإلى اثنين نحو كسبت غيري المال وهذا منه.
ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني وتكسب بضم أوّله من أكسب، أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تتبرع به له، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، أو تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم.
والرواية الأولى أصح كما قاله عياض، والرواية الثانية قال الخطابي: الصواب العدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.
وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب الأزهري عن ابن الأعرابي رجل عديم لا عقل له، ومعدوم لا مال له، قال في المصابيح: "كأنهم نزلوا وجود من لا مال لهمنزلة العدم".
(وتقري الضيف) بفتح أوّله بلا همز ثلاثيًا قال الآبي وسمع بضمها رباعيًّا، أي تهيىء له طعامه ونزله.
(وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه، وإنما قالت نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل.
قال لبيد: نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشرّ لازب ولذلك أضافتها إلى الحق، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد بأن.
واللام، لتنزيل حيرته ودهشته واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامع لأصول مكارم الأخلاق.
وفيه دليل على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير.
(فانطلقت) أي مضت (به خديجة) رضي الله عنها مصاحبة له لأنها تلزم الفعل اللازم المعدى بالباء بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة) بنصب ابن الأخير بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره لأنه يصير صفة لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف ولا تحذف لأنه لم يقع بين علمين وراء ورقة مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد لأنها بنت خويلد بن أسد.
(وكان) ورقة (امرأً قد) ترك عبادة الأوثان و (تنصَّر)، وللأربعة وكان امرأ تنصر، (في الجاهلية) بإسقاط قد، وذلك أنه خرج هو ويزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، (وكان) ورقة أيضًا (يكتب الكتاب العبراني) أي الكتابة العبرانية، وفي مسلم كالبخاري في الرؤيا الكتاب العربي، وصححه الزركشي باتفاقهما، (فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب) أي الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد والعبرانية بكسر العين فيها نسبة إلى العبر بكسر العين وإسكان الموحدة، زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس.
قيل سميت بذلك لأن الخليل عليه السلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وعن سفيان ما نزل من السماء وحي إلا بالعربية، وكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها، والباء في بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب، أي يكتب باللغة العبرانية من الإنجيل.
وذلك لتمكنه في دين النصارى ومعرفته بكتابهم.
(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي فقالت له خديجة) رضي الله تعالى عنها: (يا ابن عمّ اسمع) بهمرّة وصل (من ابن أخيك) تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو قالته على سبيل الاحترام، (فقال له) عليه السلام (ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبر ما) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني بخبر ما (رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس) بالنون والسين المهملة وهو صاحب السرّ كما عند المؤلف في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن دريد: هو صاحب سرّ الوحي والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونزل بحذف الهمزة يستعمل فيما نزل نجومًا، وللكشميهني أنزل الله ويستعمل فيما نزل جملة، وفي التفسير أنزل مبنيًّا للمفعول.
فإن قلت: لم قال موسى ولم يقل عيسى مع كونه أي ورقة نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام وكذلك كتاب نبينا عليه الصلاة والسلام بخلاف عيسى، فإن كتابه أمثال ومواعظ أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوّته، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ عيسى، (يا ليتني فيها) أي في مدة النبوة أو الدعوة، وجعل أبو البقاء المنادى محذوفًا أي يا محمد، وتعقب بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى كقول مريم " { يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 23] ، وأجيب بأنه قد يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا فيخاطبها، كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني متُّ، وتقديره هنا ليتني أكون في أيام الدعوة، (جذعًا) بفتح الجيموالمعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت قوله فيها أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوة لأنصرك، أو على أن ليت تنصب الجزأين، أو بفعل محذوف أي جعلت فيها جزعًا.
وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي جذع بالرفع خبر ليت، وحينئذ فالجار يتعلق بما فيه من معنى الفعل كأنه قال: يا ليتني شاب فيها، والرواية الأولى أكثر وأشهر، والجذع هو الصغير من البهائم، واستعير للإنسان، أي يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوّتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك.
(ليتني) وللأصيلى يا ليتني (أكون حيًّا إذ يخرجك قومك) من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] .
قال ابن ملك: وهو صحيح، وتعقبه البلقيني بأن النحاة منعوا وروده وأوّلوا ما ظاهره ذلك، فقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالّة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته.
ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وهو على سبيل المجاز كالأوّل، وعورض بأن المؤولين ليسوا النحويين بل البيانيون، وبأنه كيف يمنع وروده مع وجوده في أفصح الكلام؟ وأجيب بأنه لعله أراد بمنع الورود ورودًا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال.
فإن قلت: كيف تمنى ورقة مستحيلاً وهو عود الشباب؟ أجيب: بأنه يسوغ تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، أو بأن التمني ليس مقصودًا على بابه، بل المراد به التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوّة تصديقه فيما يجيء به، أو قاله على سبيل التحسّر لتحقّقه عدم عود الشباب.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أو) بفتح الواو (مخرجيَّ هم) بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت سابقة الواو كسرة وفتحت ياء مخرجيّ تخفيفًا، وهم مبتدأ خبره مخرجيّ مقدمًا، ولا يجوز العكس لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مخرجيّ غير محضة لأنها لفظية لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، والهمزة للاستفهام الإنكاري لأنه استبعد إخراجه عن الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك، فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم محل الروح من الجسد.
فإن قلت: الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو: { فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] و { فَأَيْنَ تَذْهَبُون} [التكوير: 26] وحينئذ ينبغي أن يقول هنا وأمخرجيّ، لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف؟ أجيب: بأن الهمزة خصّت بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام وهو له الصدر نحو: أو لم ينظروا، أفلم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور.
وقال جار الله وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي وإن العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف والتقدير أمعاديّ هم ومخرجيّ هم؟ وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر.
فإن قلت: كيف عطف قوله أو مخرجيّ هم وهو إنشاء على قول ورقة: إذ يخرجك قومك وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، وأيضًا فهو عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف؟ أجيب بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربية جوازه، وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح، وأما المانعون فعلى التقدير المذكور.
وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، بل هذا هو الظاهر، فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، الذي هو ظرف متعلق بها، والتمني إنشاء فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء.
وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم والكلام الفصيح.
قال تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] .
(قال)ورقة (نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به) من الوحي (إلا عُودي) لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركني) بالجزم بأن الشرطية (يومك) بالرفع فاعل يدركني، أي يوم انتشار نبوّتك، (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزًا، أي قويًّا بليغًا وهو صفة لنصرًا، ولما كان ورقة سابقًا واليوم متأخرًا أسند الإدراك لليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق، وهذا ظاهره أنه أقرّ بنبوّته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا.
وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحق، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل، الحديث.
وفي آخره فلما توفي قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه في الدلائل، وقال: إنه منقطع، ومال البلقيني إلى أنه يكون بذلك أوّل من أسلم من الرجال، وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده في الصحابة.
(ثم لم ينشب) بفتح المثناة التحتية والمعجمة أي لم يلبث (ورقة) بالرفع فاعل ينشب (أن توفي) بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهو بدل اشتمال من ورقة أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موت ورقة فقال الواقدي: إنه خرج إلى الشام فلما بلغه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده حتى إذا كان ببلاد لخم وجذام قتلوه وأخذوا ما معه وهذا غلط بين، فإنه مات بمكة بعد المبعث بقليل جدًّا ودفن بمكة كما نقله البلاذري وغيره، ويعضد قوله هنا وكذا في مسلم، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
(وفتر الوحي) أي احتبس ثلاث سنين كما في تاريخ أحمد، وجزم به ابن إسحق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف، وزاد معمر عن الزهري في التعبير حتى حزن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك من جهة الإسناد والمتن والمعنى في سورة اقرأ من التفسير.
فإن قلت: إن قوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي معارض بما عند ابن إسحق في السبرة أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم، فإنه يقتضي تأخره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام.
أجيب: بأنّا لا نسلم المعارضة لأن شرطها المساواة.
وما روي في السيرة لا يقاوم ما في الصحيح، ولئن سلمنا فلعل راوي ما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئًا.
ومن ثم جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وحينئذ فتكون الواو في قوله: وفتر الوحي ليست للترتيب.
ورواة هذا الحديث ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه تابعيّ عن تابعي، وأخرجه المؤلف في التفسير والتعبير والإيمان، ومسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في التفسير.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
[3] (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا قَالَت أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء وَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء فَيَتَحَنَّث فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذوت الْعدَد قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ اقْرَأ قَالَ مَا أَنا بقاريء قَالَ فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ قلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ فَقلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّالِثَة ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرجف فُؤَاده فَدخل على خَدِيجَة بنت خويلد رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع فَقَالَ لِخَدِيجَة وأخبرها الْخَبَر لقد خشيت على نَفسِي فَقَالَت خَدِيجَة كلا وَالله مَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى ابْن عَم خَدِيجَة وَكَانَ امْرأ تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمي فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة يَا ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك فَقَالَ لَهُ ورقة يَا ابْن أخي مَاذَا ترى فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر مَا رأى فَقَالَ لَهُ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي نزل الله على مُوسَى يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا لَيْتَني أكون حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلمأَو مخرجي هم قَالَ نعم لم يَأْتِ رجل قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي وفتر الْوَحْي قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثه بَينا أَنا أَمْشِي إِذْ سَمِعت صَوتا من السَّمَاء فَرفعت بَصرِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالس على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَرُعِبْت مِنْهُ فَرَجَعت فَقلت زَمِّلُونِي فَأنْزل الله تَعَالَى يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر إِلَى قَوْله وَالرجز فاهجر فحمي الْوَحْي وتتابع تَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره) هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لم تدْرك هَذِه الْقَضِيَّة فَتكون سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ.


     وَقَالَ  ابْن الصّلاح وَغَيره مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره من أَحْدَاث الصَّحَابَة مِمَّا لم يحضروه وَلم يدركوه فَهُوَ فِي حكم الْمَوْصُول الْمسند لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة وجهالة الصَّحَابِيّ غير قادحة.


     وَقَالَ  الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق الإسفرايني لَا يحْتَج بِهِ إِلَّا أَن يَقُول أَنه لَا يرْوى إِلَّا عَن صَحَابِيّ.
قَالَ النَّوَوِيّ وَالصَّوَاب الأول وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور.
.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ الظَّاهِر أَنَّهَا سَمِعت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقولها قَالَ فأخذني فغطني فَيكون قَوْلهَا أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة مَا تلفظ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَقَوْلِه تَعَالَى {قل للَّذين كفرُوا ستغلبون} بِالتَّاءِ وَالْيَاء قلت لم لَا يجوز أَن يكون هَذَا بطرِيق الْحِكَايَة عَن غَيره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يكون سماعهَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وعَلى كل تَقْدِير فَالْحَدِيث فِي حكم الْمُتَّصِل الْمسند.
(بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الله بن بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمصْرِيّ نسبه البُخَارِيّ إِلَى جده يدلسه ولد سنة أَربع وَقيل خمس وَخمسين وَمِائَة وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من كبار حفاظ المصريين وَأثبت النَّاس فِي اللَّيْث بن سعد روى البُخَارِيّ عَنهُ فِي مَوَاضِع وروى عَن مُحَمَّد بن عبد الله هُوَ الذهلي عَنهُ فِي مَوَاضِع قَالَه أَبُو نصر الكلاباذي.


     وَقَالَ  الْمَقْدِسِي تَارَة يَقُول حَدثنَا مُحَمَّد وَلَا يزِيد عَلَيْهِ وَتارَة مُحَمَّد بن عبد الله وَإِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن ذُؤَيْب الذهلي وَتارَة ينْسبهُ إِلَى جده فَيَقُول مُحَمَّد بن عبد الله وَتارَة مُحَمَّد بن خَالِد بن فَارس وَلم يقل فِي مَوضِع حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى وروى مُسلم حَدثنَا عَن أبي زرْعَة عَن يحيى وروى ابْن ماجة عَن رجل عَنهُ قَالَ أَبُو حَاتِم كَانَ يفهم هَذَا الشَّأْن وَلَا يحْتَج بِهِ يكْتب حَدِيثه.


     وَقَالَ  النَّسَائِيّ لَيْسَ بِثِقَة وَوَثَّقَهُ غَيرهمَا.


     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ عِنْدِي مَا بِهِ بَأْس وَأخرج لَهُ مُسلم عَن اللَّيْث وَعَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن وَلم يخرج لَهُ عَن مَالك شَيْئا وَلَعَلَّه وَالله أعلم لقَوْل الْبَاجِيّ وَقد تكلم أهل الحَدِيث فِي سَمَاعه الْمُوَطَّأ عَن مَالك مَعَ أَن جمَاعَة قَالُوا هُوَ أحد من روى الْمُوَطَّأ عَن مَالك.
الثَّانِي اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحَارِث الفهمي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ عَالم أهل مصر من تَابِعِيّ التَّابِعين مولى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر الفهمي وَقيل مولى خَالِد بن ثَابت وَفهم من قيس غيلَان ولد بقلقشندة على نَحْو أَربع فراسخ من الْقَاهِرَة سنة ثَلَاث أَو أَربع وَتِسْعين وَمَات فِي شعْبَان سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وقبره فِي قرافة مصر يزار وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا مجمعا على جلالته وثقته وَكَرمه وَكَانَ على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة قَالَه القَاضِي ابْن خلكان وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه اللَّيْث بن سعد سواهُ نعم فِي الروَاة ثَلَاثَة غَيره أحدهم مصري وكنيته أَبُو الْحَرْث أَيْضا وَهُوَ ابْن أخي سعيد بن الحكم.
وَالثَّانِي يرْوى عَن ابْن وهب ذكرهمَا ابْن يُونُس فِي تَارِيخ مصر.
وَالثَّالِث تنيسي حدث عَن بكر بن سهل الثَّالِث أَبُو خَالِد عقيل بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف ابْن خَالِد بن عقيل بِفَتْح الْعين الأيلى بِالْمُثَنَّاةِ تَحت الْقرشِي الْأمَوِي مولى عُثْمَان بن عَفَّان الْحَافِظ مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقيل سنة أَربع بِمصْر فَجْأَة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه عقيل بِضَم الْعين غَيره الرَّابِع هُوَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد الله بن شهَاب بن عبد الله بن الْحَرْثابْن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي الزُّهْرِيّ الْمدنِي سكن الشَّام وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير سمع أنسا وَرَبِيعَة بن عباد وخلقا من الصَّحَابَة وَرَأى ابْن عمر وروى عَنهُ وَيُقَال سمع مِنْهُ حديثين وَعنهُ جماعات من كبار التَّابِعين مِنْهُم عَطاء وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمن صغارهم وَمن الأتباع أَيْضا مَاتَ بِالشَّام وَأوصى بِأَن يدْفن على الطَّرِيق بقرية يُقَال لَهَا شغب وبدا فِي رَمَضَان سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَسبعين سنة قلت شغب بِفَتْح الشين وَسُكُون الْغَيْن المعجمتين وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وبدا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَقد مر ذكرهمَا (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن هَذَا الْإِسْنَاد على شَرط السِّتَّة إِلَّا يحيى فعلى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَمِنْهَا أَن رِجَاله مَا بَين مصري ومدني وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة (بَيَان تعدد الحَدِيث وَمن أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير وَالتَّعْبِير عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن مَرْوَان عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة عَن أبي صَالح سلمويه عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس وَفِي الْإِيمَان عَن أبي رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عبد الْملك عَن أَبِيه عَن جده عَن عقيل وَعَن أبي الطَّاهِر عَن أبي وهب عَن يُونُس كلهم عَن الزُّهْرِيّ وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أول مَا بدىء بِهِ قد ذكر بَعضهم أول الشَّيْء فِي بَاب أول وَبَعْضهمْ فِي بَاب وأل وَذكره الصغاني فِي هَذَا الْبَاب.


     وَقَالَ  الأول نقيض الآخر وَأَصله أوأل على وزن أفعل مَهْمُوز الْوسط قلبت الْهمزَة واوا وأدغمت الْوَاو فِي الْوَاو وَيدل على هَذَا قَوْلهم هَذَا أول مِنْك وَالْجمع الْأَوَائِل والأوالىء على الْقلب.


     وَقَالَ  قوم أَصله وول على وزن فوعل فقلبت الْوَاو الأولى همزَة وَإِنَّمَا لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجْتِمَاع واوين بَينهمَا ألف الْجمع وَهُوَ إِذا جعلته صفة لم تصرفه تَقول لَقيته عَاما أول وَإِذا لم تَجْعَلهُ صفة صرفته تَقول لَقيته عَاما أَولا قَالَ ابْن السّكيت وَلَا تقل عَام الأول.


     وَقَالَ  أَبُو زيد يُقَال لَقيته عَام الأول وَيَوْم الأول بجر آخِره وَهُوَ كَقَوْلِك أتيت مَسْجِد الْجَامِع.


     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي هَذَا من بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَعته قَوْله بدىء بِهِ من بدأت بالشَّيْء بَدَأَ ابتدأت بِهِ وبدأت الشَّيْء فعلته ابْتِدَاء وَبَدَأَ الله الْخلق وأبدأهم بِمَعْنى قَوْله من الْوَحْي قد مر تَفْسِير الْوَحْي مُسْتَوْفِي قَوْله الرُّؤْيَا على وزن فعلى كحبلى يُقَال رأى رُؤْيا بِلَا تَنْوِين وَجَمعهَا روى بِالتَّنْوِينِ على وزن دعى قَوْله فلق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَاللَّام وَهُوَ ضِيَاء الصُّبْح وَكَذَلِكَ فرق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا فِي الشَّيْء الْبَين الْوَاضِح وَيُقَال الْفرق أبين من فلق الصُّبْح قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فالق الإصباح} ضوء الشَّمْس وضوء الْقَمَر بِاللَّيْلِ حَكَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب التَّعْبِير وَيُقَال الفلق مصدر كالانفلاق وَفِي الْمطَالع قَالَ الْخَلِيل الفلق الصُّبْح قلت فعلى هَذَا تكون الْإِضَافَة فِيهِ للتخصيص وَالْبَيَان وَيُقَال الفلق الصُّبْح لكنه لما كَانَ مُسْتَعْملا فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي غَيره أضيف إِلَيْهِ إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص كَقَوْلِهِم عين الشَّيْء وَنَفسه.
وَفِي الْعباب يُقَال هُوَ أبين من فلق الصُّبْح وَمن فرق الصُّبْح وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح أَي مبينَة مثل مجىء الصُّبْح قَالَ الْكرْمَانِي وَالصَّحِيح أَنه بِمَعْنى المفلوق وَهُوَ اسْم للصبح فأضيف أَحدهمَا إِلَى الآخر لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَقد جَاءَ الفلق مُنْفَردا عَن الصُّبْح قَالَ تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} قلت تنصيصه على الصَّحِيح غير صَحِيح بل الصَّحِيح أَنه إِمَّا اسْم للصبح وجوزت الْإِضَافَة فِيهِ لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَإِمَّا مصدر بِمَعْنى الانفلاق وَهُوَ الانشقاق من فلقت الشَّيْء أفلقه بِالْكَسْرِ فلقا إِذا شققته وَأما الفلق فِي الْآيَة فقد اخْتلف الْأَقْوَال فِيهِ.
قَوْله الْخَلَاء بِالْمدِّ وَهُوَ الْخلْوَة يُقَال خلا الشَّيْء يَخْلُو خلوا وخلوت بِهِ خلْوَة وخلاء وَالْمُنَاسِب هَهُنَا أَن يُفَسر الْخَلَاء بِمَعْنى الاختلاء أَو بالخلاء الَّذِي هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا شَيْء بِهِ على مَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق من الْمعَانِي الدقيقة.
قَوْله بِغَار حراء الْغَار بالغين الْمُعْجَمَة فسره جَمِيع شرَّاح البُخَارِيّ بِأَنَّهُ النقب فِي الْجَبَل وَهُوَ قريب من معنى الْكَهْف قلت الْغَار هُوَ الْكَهْف وَفِي الْعباب الْغَار كالكهف فِي الْجَبَل وَيجمع على غيران ويصغر على غوير فتصغيره يدل على أَنه واوي فَلذَلِك ذكره فِي الْعباب فِي فصل غور وحراء بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء بِالْمدِّ وَهُوَ مَصْرُوف على الصَّحِيح وَمِنْهُم من منع صرفه وَيذكر على الصَّحِيح أَيْضا وَمِنْهُم من أنثه وَمِنْهُم من قصره أَيْضا فَهَذِهِ سِتّ لُغَات قَالَ القَاضِيعِيَاض يمد وَيقصر وَيذكر وَيُؤَنث وَيصرف وَلَا يصرف والتذكير أَكثر فَمن ذكره صرفه وَمن أنثه لم يصرفهُ يَعْنِي على إِرَادَة الْبقْعَة أَو الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْجَبَل وَضَبطه الْأصيلِيّ بِفَتْح الْحَاء وَالْقصر وَهُوَ غَرِيب.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ الْعَوام يخطؤن فِي حراء فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع يفتحون الْحَاء وَهِي مَكْسُورَة ويكسرون الرَّاء وَهِي مَفْتُوحَة ويقصرون الْألف وَهِي ممدودة.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ الْعَامَّة لحنت فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فتح الْحَاء وَقصر الْألف وَترك صرفه وَهُوَ مَصْرُوف فِي الِاخْتِيَار لِأَنَّهُ اسْم جبل.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي إِذا جَمعنَا بَين كلاميهما يلْزم اللّحن فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَهُوَ من الغرائب إِذْ بِعَدَد كل حرف لحن.
وَلقَائِل أَن يَقُول كسر الرَّاء لَيْسَ بلحن لِأَنَّهُ بطرِيق الإمالة وَهُوَ جبل بَينه وَبَين مَكَّة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال عَن يسارك إِذا سرت إِلَى منى لَهُ قلَّة مشرفة إِلَى الْكَعْبَة منحنية وَذكر الْكَلْبِيّ أَن حراء وثبير سميا باسمي ابْني عَم عَاد الأولى.
قلت ثبير بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ جبل يرى من منى والمزدلفة قَوْله فَيَتَحَنَّث بِالْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ النُّون ثمَّ الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَقد فسره فِي الحَدِيث بِأَنَّهُ التَّعَبُّد.


     وَقَالَ  الصغاني التحنث إِلْقَاء الْحِنْث يُقَال تَحنث أَي تنحى عَن الْحِنْث وتأثم أَي تنحى عَن الْإِثْم وتحرج أَي تنحى عَن الْحَرج وتحنث اعتزل الْأَصْنَام مثل تحنف.
وَفِي الْمطَالع يَتَحَنَّث مَعْنَاهُ يطْرَح الْإِثْم عَن نَفسه بِفعل مَا يُخرجهُ عَنهُ من الْبر وَمِنْه قَول حَكِيم أَشْيَاء كنت أتحنث وَفِي رِوَايَة كنت أتبرر بهَا أَي أطلب الْبر بهَا وأطرح الْإِثْم وَقَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَلَا أتحنث إِلَى نذري أَي أكتسب الْحِنْث وَهُوَ الذَّنب وَهَذَا عكس مَا تقدم.
.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ وَنَظِيره فِي الْكَلَام التحوب والتأثم أَي ألْقى الْحُوب وَالْإِثْم عَن نَفسه قَالُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامهم تفعل فِي هَذَا الْمَعْنى غير هَذِه.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي هَذِه شَهَادَة نفي كَيفَ وَقد ثَبت فِي الْكتب الصرفية أَن بَاب تفعل يَجِيء للتجنب كثيرا نَحْو تحرج وتخون أَي اجْتنب الْحَرج والخيانة وَغير ذَلِك.
قلت جَاءَت مِنْهُ أَلْفَاظ نَحْو تَحنث وتأثم وتحرج وتحوب وتهجد وتنجس وتقذر وتحنف.


     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ فلَان يتهجد إِذا كَانَ يخرج من الهجود وتنجس إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ عَن النَّجَاسَة.


     وَقَالَ  أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمُنْتَهى تَحنث تعبد مثل تحنف وَفُلَان يَتَحَنَّث من كَذَا بِمَعْنى يتأثم فِيهِ وَهُوَ أحد مَا جَاءَ تفعل إِذا تجنب وَألقى عَن نَفسه.
.


     وَقَالَ  السُّهيْلي التحنث التبرر تفعل من الْبر وَتفعل يَقْتَضِي الدُّخُول فِي الشَّيْء وَهُوَ الْأَكْثَر فِيهَا مثل تفقه وَتعبد وتنسك وَقد جَاءَت أَلْفَاظ يسيرَة تُعْطِي الْخُرُوج عَن الشَّيْء وإطراحه كالتأثم والتحرج والتحنث بالثاء الْمُثَلَّثَة لِأَنَّهُ من الْحِنْث والحنث الْحمل الثقيل وَكَذَلِكَ التقذر إِنَّمَا هُوَ تبَاعد عَن القذر وَأما التحنف بِالْفَاءِ فَهُوَ من بَاب التَّعَبُّد.


     وَقَالَ  الْمَازرِيّ يَتَحَنَّث يفعل فعلا يخرج بِهِ من الْحِنْث والحنث الذَّنب.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ هَذَا من المشكلات وَلَا يَهْتَدِي لَهُ سوى الحذاق وَسُئِلَ ابْن الْأَعرَابِي عَن قَوْله يَتَحَنَّث فَقَالَ لَا أعرفهُ وَسَأَلت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فَقَالَ لَا أعرف يَتَحَنَّث إِنَّمَا هُوَ يتحنف من الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قلت قد وَقع فِي سيرة ابْن هِشَام يتحنف بِالْفَاءِ قَوْله قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله بِكَسْر الزَّاي أَي قبل أَن يرجع وَقد رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك يُقَال نزع إِلَى أَهله إِذا حن إِلَيْهِم فَرجع إِلَيْهِم يُقَال هَل نزعك غَيره أَي هَل جَاءَ بك وجذبك إِلَى السّفر غَيره أَي غير الْحَج وناقة نَازع إِذا حنت إِلَى أوطانها ومرعاها وَهُوَ من نزع ينْزع بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل.


     وَقَالَ  صَاحب الْأَفْعَال وَالْأَصْل فِي فعل يفعل إِذا كَانَ صَحِيحا وَكَانَت عينه أَو لامه حرف حلق أَن يكون مضارعه مَفْتُوحًا إِلَّا أفعالا يسيرَة جَاءَت بِالْفَتْح وَالضَّم مثل جنح يجنح ودبغ يدبغ وَإِلَّا مَا جَاءَ من قَوْلهم نزع ينْزع بِالْفَتْح وَالْكَسْر وهنأ يهنىء.


     وَقَالَ  غَيره هنأني الطَّعَام يهنأني ويهنأني بِالْفَتْح وَالْكَسْر قلت قَاعِدَة عِنْد الصرفيين أَن كل مَادَّة تكون من فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا يلْزم أَن يكون فِيهَا حرف من حُرُوف الْحلق وكل مَادَّة من الْمَاضِي والمضارع فيهمَا حرف من حُرُوف الْحلق لَا يلْزم أَن يكون من بَاب فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا فَافْهَم.
والأهل فِي اللُّغَة الْعِيَال وَفِي الْعباب آل الرجل أَهله وَعِيَاله وَآله أَيْضا أَتْبَاعه.


     وَقَالَ  أنس رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من آل مُحَمَّد قَالَ كل تَقِيّ وَالْفرق بَين الْآل والأهل أَن الْآل يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف بِخِلَاف الْأَهْل فَإِنَّهُ أَعم وَأما قَوْله تَعَالَى {كدأب آل فِرْعَوْن} فلتصوره بِصُورَة الْأَشْرَاف.


     وَقَالَ  ابْن عَرَفَة أَرَادَ من آل فِرْعَوْن من آل إِلَيْهِ بدين أَو مَذْهَب أَو نسب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} قَوْله ويتزود من التزود وَهُوَ اتِّخَاذ الزَّاد والزاد هُوَ الطَّعَام الَّذِي يستصحبه الْمُسَافِر يُقَال زودته فتزود قَوْله فغطني بالغين الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة أَيضغطني وعصرني يُقَال غطني وغشيني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني كُله بِمَعْنى قَالَ الْخطابِيّ وَمِنْه الغط فِي المَاء وغطيط النَّائِم ترديد النَّفس إِذا لم يجد مساغا عِنْد انضمام الشفتين والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد أَو الثَّوْب على الْفَم وَالْأنف والغط الخنق وتغييب الرَّأْس فِي المَاء قَالَ الْخطابِيّ والغط فِي الحَدِيث الخنق قَوْله الْجهد بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَمَعْنَاهُ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة وَفِي الْمُحكم الْجهد والجهد الطَّاقَة وَقيل الْجهد الْمَشَقَّة والجهد الطَّاقَة وَفِي الموعب الْجهد مَا جهد الْإِنْسَان من مرض أَو من مشاق والجهد بلوغك غَايَة الْأَمر الَّذِي لَا تألو عَن الْجهد فِيهِ وجهدته بلغت مشقته وأجهدته على أَن يفعل كَذَا.


     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد جهدته حَملته على أَن يبلغ مجهوده.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي جهد فِي الْعَمَل وأجهد.


     وَقَالَ  أَبُو عَمْرو أجهد فِي حَاجَتي وَجهد.


     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي جهدت لَك نَفسِي وأجهدت نَفسِي قَوْله ثمَّ أَرْسلنِي أَي أطلقني من الْإِرْسَال قَوْله علق بتحريك اللَّام وَهُوَ الدَّم الغليظ والقطعة مِنْهُ علقَة قَوْله يرجف فُؤَاده أَي يخْفق ويضطرب والرجفان شدَّة الْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب وَفِي الْمُحكم رجف الشَّيْء يرجف رجفا ورجوفا ورجفانا ورجيفا وأرجف خَفق واضطرب اضطرابا شَدِيدا والفؤاد هُوَ الْقلب وَقيل أَنه عين الْقلب وَقيل بَاطِن الْقلب وَقيل غشاء الْقلب وَسمي الْقلب قلبا لتقلبه.


     وَقَالَ  اللَّيْث الْقلب مُضْغَة من الْفُؤَاد معلقَة بالنياط وَسمي قلبا لتقلبه قَوْله زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات بالتكرار وَهُوَ من التزميل وَهُوَ التلفيف والتزمل الاشتمال والتلفف وَمِنْه التدثر وَيُقَال لكل مَا يلقى على الثَّوْب الَّذِي يَلِي الْجَسَد دثار وأصل المزمل والمدثر المتزمل والمتدثر أدغمت التَّاء فِيمَا بعْدهَا قَوْله الروع بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الْفَزع وَفِي الْمُحكم الروع والرواع والتروع الْفَزع.


     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ هُوَ بِالضَّمِّ مَوضِع الْفَزع من الْقلب قَوْله كلا مَعْنَاهُ النَّفْي والردع عَن ذَلِك الْكَلَام وَالْمرَاد هَهُنَا التَّنْزِيه عَنهُ وَهُوَ أحد مَعَانِيهَا وَقد يكون بِمَعْنى حَقًا أَو بِمَعْنى إِلَّا الَّتِي للتّنْبِيه يستفتح بهَا الْكَلَام وَقد جَاءَت فِي الْقُرْآن على أَقسَام جمعهَا ابْن الْأَنْبَارِي فِي بَاب من كتاب الْوَقْف والابتداء لَهُ وَهِي مركبة عِنْد ثَعْلَب من كَاف التَّشْبِيه وَلَا النافية قَالَ وَإِنَّمَا شددت لامها لتقوية الْمَعْنى ولدفع توهم بَقَاء معنى الْكَلِمَتَيْنِ وَعند غَيره هِيَ بسيطة وَعند سِيبَوَيْهٍ والخليل والمبرد والزجاج وَأكْثر الْبَصرِيين حرف مَعْنَاهُ الردع والزجر لَا معنى لَهَا عِنْدهم إِلَّا ذَلِك حَتَّى يجيزون أبدا الْوَقْف عَلَيْهَا والابتداء بِمَا بعْدهَا وَحَتَّى قَالَ جمَاعَة مِنْهُم مَتى سَمِعت كلا فِي سُورَة فاحكم بِأَنَّهَا مَكِّيَّة لِأَن فِيهَا معنى التهديد والوعيد وَأكْثر مَا نزل ذَلِك بِمَكَّة لِأَن أَكثر العتو كَانَ بهَا قَالُوا وَقد تكون حرف جَوَاب بِمَنْزِلَة أَي وَنعم وحملوا عَلَيْهِ {كلا وَالْقَمَر} فَقَالُوا مَعْنَاهُ أَي وَالْقَمَر قَوْله مَا يخزيك الله بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالخاء الْمُعْجَمَة من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان وأصل الخزي على مَا ذكره ابْن سَيّده الْوُقُوع فِي بلية وشهوة بذلة وأخزى الله فلَانا أبعده قَالَه فِي الْجَامِع وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ يحزنك بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالنون من الْحزن وَيجوز على هَذَا فتح الْيَاء وَضمّهَا يُقَال حزنه وأحزنه لُغَتَانِ فصيحتان قرىء بهما فِي السَّبع.


     وَقَالَ  اليزيدي أحزنه لُغَة تَمِيم وحزنه لُغَة قُرَيْش قَالَ تَعَالَى {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} من حزن.


     وَقَالَ  {ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ} من أَحْزَن على قِرَاءَة من قَرَأَ بِضَم الْيَاء والحزن خلاف السرُور يُقَال حزن بِالْكَسْرِ يحزن حزنا إِذا اغتم وحزنه غَيره وأحزنه مثل شكله وأشكله وَحكى عَن أبي عَمْرو أَنه قَالَ إِذا جَاءَ الْحزن فِي مَوضِع نصب فتحت الْحَاء وَإِذا جَاءَ فِي مَوضِع رفع وجر ضممت وقرىء {وابيضت عَيناهُ من الْحزن}.


     وَقَالَ  {تفيض من الدمع حزنا} قَالَ الْخطابِيّ وَأكْثر النَّاس لَا يفرقون بَين الْهم والحزن وهما على اخْتِلَافهمَا يتقاربان فِي الْمَعْنى إِلَّا أَن الْحزن إِنَّمَا يكون على أَمر قد وَقع والهم إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يتَوَقَّع وَلَا يكون بعد قَوْله لتصل الرَّحِم قَالَ الْقَزاز وصل رَحمَه صلَة وَأَصله وصلَة فحذفت الْوَاو كَمَا قَالُوا زنة من وزن وأصل صل هُوَ أَمر من وصل أوصل حذفت الْوَاو تبعا لفعله فاستغنى عَن الْهمزَة فحذفت فَصَارَ صل على وزن عل وَمعنى لتصل الرَّحِم تحسن إِلَى قراباتك على حسب حَال الْوَاصِل والموصول إِلَيْهِ فَتَارَة تكون بِالْمَالِ وَتارَة تكون بِالْخدمَةِ وَتارَة بالزيارة وَالسَّلَام وَغير ذَلِك وَالرحم الْقَرَابَة وَكَذَلِكَ الرَّحِم بِكَسْر الرَّاء قَوْله وَتحمل الْكل بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام وَأَصله الثّقل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} وَأَصله من الكلال وَهُوَ الإعياء أَي ترفع الثّقل أَرَادَ تعين الضَّعِيف الْمُنْقَطع وَيدخل فِي حمل الْكل الْإِنْفَاقعلى الضَّعِيف واليتيم والعيال وَغير ذَلِك لِأَن الْكل من لَا يسْتَقلّ بأَمْره.


     وَقَالَ  الدَّاودِيّ الْكل الْمُنْقَطع قَوْله وتكسب الْمَعْدُوم بِفَتْح التَّاء هُوَ الْمَشْهُور الصَّحِيح فِي الرِّوَايَة وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وروى بضَمهَا وَفِي معنى المضموم قَولَانِ أصَحهمَا مَعْنَاهُ تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي تعطيه لَهُ تَبَرعا ثَانِيهمَا تُعْطِي النَّاس مَا لَا يجدونه عِنْد غَيْرك من معدومات الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق يُقَال كسبت مَالا وأكسبت غَيْرِي مَالا وَفِي معنى الْمُتَّفق حِينَئِذٍ قَولَانِ أصَحهمَا أَن مَعْنَاهُ كمعنى المضموم يُقَال كسبت الرجل مَالا وأكسبته مَالا وَالْأول أفْصح وَأشهر وَمنع الْقَزاز الثَّانِي.


     وَقَالَ  إِنَّه حرف نَادِر وَأنْشد على الثَّانِي (وأكسبني مَالا وأكسبته حمدا ... ) وَقَول الآخر (يعاتبني فِي الدّين قومِي وَإِنَّمَا ... ديوني فِي أَشْيَاء تكسبهم حمدا) روى بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ تكسب المَال وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله ثمَّ تجود بِهِ وتنفقه فِي وُجُوه المكارم وَكَانَت الْعَرَب تتمادح بذلك وَعرفت قُرَيْش بِالتِّجَارَة وَضعف هَذَا بِأَنَّهُ لَا معنى لوصف التِّجَارَة بِالْمَالِ فِي هَذَا الموطن إِلَّا أَن يُرِيد أَنه يبذله بعد تَحْصِيله وأصل الْكسْب طلب الرزق يُقَال كسب يكْسب كسبا وتكسب واكتسب.


     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْن سَيّده تكسب أصَاب وتكسب تصرف واجتهد.


     وَقَالَ  صَاحب الْمُجْمل يُقَال كسبت الرجل مَالا فكسبه وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعلته فَفعل وَفِي الْعباب الْكسْب طلب الرزق وَأَصله الْجمع وَالْكَسْب بِالْكَسْرِ لُغَة والفصيح فتح الْكَاف تَقول كسبت مِنْهُ شَيْئا وَفُلَان طيب الْكسْب والمكسب والمكسب والمكسبة مِثَال الْمَغْفِرَة والكسبة مثل الجلسة وكسبت أَهلِي خيرا وكسبت الرجل مَالا فكسبه.


     وَقَالَ  ثَعْلَب كل النَّاس يَقُولُونَ كسبك فلَان خيرا إِلَّا ابْن الْأَعرَابِي فَإِنَّهُ يَقُول أكسبك فلَان خيرا قَالَ والأفصح فِي الحَدِيث تكسب بِفَتْح التَّاء والمعدوم عبارَة عَن الرجل الْمُحْتَاج الْعَاجِز عَن الْكسْب وَسَماهُ مَعْدُوما لكَونه كالميت حَيْثُ لم يتَصَرَّف فِي الْمَعيشَة وَذكر الْخطابِيّ أَن صَوَابه المعدم بِحَذْف الْوَاو أَي تُعْطِي العائل وترفده لِأَن الْمَعْدُوم لَا يدْخل تَحت الْأَفْعَال.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي التَّيْمِيّ لم يصب الْخطابِيّ إِذْ حكم على اللَّفْظَة الصَّحِيحَة بالْخَطَأ فَإِن الصَّوَاب مَا اشْتهر بَين أَصْحَاب الحَدِيث وَرَوَاهُ الروَاة.


     وَقَالَ  بَعضهم لَا يمْتَنع أَن يُطلق على المعدم الْمَعْدُوم لكَونه كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّت الَّذِي لَا تصرف لَهُ.
قلت الصَّوَاب مَا قَالَه الْخطابِيّ وَكَذَا قَالَ الصغاني فِي الْعباب الصَّوَاب وتكسب المعدم أَي تُعْطِي العائل وترفده نعم الْمَعْدُوم لَهُ وَجه على معنى غير الْمَعْنى الَّذِي فسروه وَهُوَ أَن يُقَال وتكسب الشَّيْء الَّذِي لَا يُوجد تكسبه لنَفسك أَو تملكه لغيرك وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الْمطَالع قَوْله وتقري الضَّيْف بِفَتْح التَّاء تَقول قريت الضَّيْف أقريه قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر وقراء بِفَتْح الْقَاف وَالْمدّ وَيُقَال للطعام الَّذِي تضيفه بِهِ قرى بِالْكَسْرِ وَالْقصر وفاعله قار كقضى فَهُوَ قَاض.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده قرى الضَّيْف قرى وقراء أَضَافَهُ واستقراني واقتراني وأقراني طلب مني الْقرى وَأَنه لقري للضيف وَالْأُنْثَى قَرْيَة عَن اللحياني وَكَذَلِكَ أَنه لمقري للضيف ومقراء وَالْأُنْثَى مقرأة ومقراء الْأَخِيرَة عَن اللحياني وَفِي أمالي الهجري مَا اقتريت اللَّيْلَة يَعْنِي لم آكل من الْقرى شَيْئا أَي لم آكل طَعَاما قَوْله وَتعين على نَوَائِب الْحق النوائب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة والنازلة خيرا أَو شرا وَإِنَّمَا قَالَ نَوَائِب الْحق لِأَنَّهَا تكون فِي الْحق وَالْبَاطِل قَالَ لبيد رَضِي الله عَنهُ (نَوَائِب من خير وَشر كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْر مَمْدُود وَلَا الشَّرّ لازب) تَقول نَاب الْأَمر نوبَة نزل وَهِي النوائب والنوب قَوْله قد تنصر أَي صَار نَصْرَانِيّا وَترك عبَادَة الْأَوْثَان وَفَارق طَرِيق الْجَاهِلِيَّة والجاهلية الْمدَّة الَّتِي كَانَت قبل نبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانُوا عَلَيْهِ من فَاحش الجهالات وَقيل هُوَ زمَان الفترة مُطلقًا قَوْله وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية أَقُول لم أر شارحا من شرَّاح البُخَارِيّ حقق هَذَا الْموضع بِمَا يشفي الصُّدُور فَنَقُول بعون الله وتوفيقه قَوْله الْكتاب مصدر تَقول كتبت كتبا وكتابا وَكِتَابَة وَالْمعْنَى وَكَانَ يكْتب الْكِتَابَة العبرانية وَيجوز أَن يكون الْكتاب اسْما وَهُوَ الْكتاب الْمَعْهُود وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب} والعبراني بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْبَاء نِسْبَة إِلَى العبر وزيدت الْألف وَالنُّون فِي النِّسْبَة على غير الْقيَاس.


     وَقَالَ  ابْن الْكَلْبِيّ مَا أَخذ على غربي الْفُرَات إِلَى بَريَّة الْعَرَب يُسمى العبر وَإِلَيْهِ ينْسب العبريون من الْيَهُود لأَنهم لم يَكُونُوا عبروا الْفُرَات.


     وَقَالَ  مُحَمَّد بن جرير إِنَّمَا نطق إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من النمرود وَقد كَانَ النمرودقَالَ للَّذين أرسلهم خَلفه إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ فَلَمَّا أدركوه استنطقوه فحول الله لِسَانه عبرانيا وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر فسميت العبرانية لذَلِك وَفِي الْعباب والعبرية والعبرانية لُغَة الْيَهُود وَالْمَفْهُوم من قَوْله فَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية أَن الْإِنْجِيل لَيْسَ بعبراني لِأَن الْبَاء فِي قَوْله بالعبرانية تتَعَلَّق بقوله فَيكْتب وَالْمعْنَى فَيكْتب باللغة العبرانية من الْإِنْجِيل وَهَذَا من قُوَّة تمكنه فِي دين النَّصَارَى وَمَعْرِفَة كتابتهم كَانَ يكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية إِن شَاءَ وبالعربية إِن شَاءَ.


     وَقَالَ  التَّيْمِيّ الْكَلَام العبراني هُوَ الَّذِي أنزل بِهِ جَمِيع الْكتب كالتوراة وَالْإِنْجِيل وَنَحْوهمَا.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فهم مِنْهُ أَن الْإِنْجِيل عبراني قلت لَيْسَ كَذَلِك بل التَّوْرَاة عبرانية وَالْإِنْجِيل سرياني وَكَانَ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يتَكَلَّم باللغة السريانية وَكَذَلِكَ أَوْلَاده من الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم غير أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حولت لغته إِلَى العبرانية حِين عبر النَّهر أَي الْفُرَات كَمَا ذكرنَا وَغير ابْنه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ كَانَ يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة فَقيل لِأَن أول من وضع الْكتاب الْعَرَبِيّ والسرياني والكتب كلهَا آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ يعلم سَائِر اللُّغَات وكتبها فِي الطين وطبخه فَلَمَّا أصَاب الأَرْض الْغَرق أصَاب كل قوم كِتَابهمْ فَكَانَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أصَاب كتاب الْعَرَب وَقيل تعلم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لُغَة الْعَرَب من جرهم حِين تزوج امْرَأَة مِنْهُم وَلِهَذَا يعدونه من الْعَرَب المستعربة لَا العاربة وَمن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام من كَانَ يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة هُوَ صَالح وَقيل شُعَيْب أَيْضا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقيل كَانَ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يتَكَلَّم باللغة الْعَرَبيَّة فَلَمَّا نزل إِلَى الأَرْض حولت لغته إِلَى السريانية وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لما تَابَ الله عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ الْعَرَبيَّة وَعَن سُفْيَان أَنه مَا نزل وَحي من السَّمَاء إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام تترجمه لقومها وَعَن كَعْب أول من نطق بِالْعَرَبِيَّةِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الَّذِي أَلْقَاهَا على لِسَان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فألقاها نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على لِسَان ابْنه سَام وَهُوَ أَبُو الْعَرَب وَالله أعلم فَإِن قلت مَا أصل السريانية قلت قَالَ ابْن سَلام سميت بذلك لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِين علم آدم الْأَسْمَاء علمه سرا من الْمَلَائِكَة وأنطقه بهَا حِينَئِذٍ قَوْله هَذَا الناموس بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة وَهُوَ صَاحب السِّرّ كَمَا ذكره البُخَارِيّ فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ صَاحب الْمُجْمل وَأَبُو عبيد فِي غَرِيبه ناموس الرجل صَاحب سره.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده الناموس السِّرّ.


     وَقَالَ  صَاحب الغريبين هُوَ صَاحب سر الْملك وَقيل أَن الناموس والجاسوس بِمَعْنى وَاحِد حَكَاهُ الْقَزاز فِي جَامعه وَصَاحب الواعي.


     وَقَالَ  الْحسن فِي شرح السِّيرَة أصل الناموس صَاحب سر الرجل فِي خَيره وشره.


     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي فِي زاهره الجاسوس الباحث عَن أُمُور النَّاس وَهُوَ بِمَعْنى التَّجَسُّس سَوَاء.


     وَقَالَ  بعض أهل اللُّغَة التَّجَسُّس بِالْجِيم الْبَحْث عَن عورات النَّاس وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة الِاسْتِمَاع لحَدِيث الْقَوْم وَقيل هما سَوَاء.


     وَقَالَ  ابْن ظفر فِي شرح المقامات صَاحب سر الْخَيْر ناموس وَصَاحب سر الشَّرّ جاسوس وَقد سوى بَينهمَا رؤبة ابْن العجاج.


     وَقَالَ  بعض الشُّرَّاح وَهُوَ الصَّحِيح وَلَيْسَ بِصَحِيح بل الصَّحِيح الْفرق بَينهمَا على مَا نقل النَّوَوِيّ فِي شَرحه عَن أهل اللُّغَة الْفرق بَينهمَا بِأَن الناموس فِي اللُّغَة صَاحب سر الْخَيْر والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ.


     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ الناموس صَاحب سر الْخَيْر وَهُوَ هُنَا جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سمى بِهِ لخصوصه بِالْوَحْي والغيب والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ.


     وَقَالَ  الصغاني فِي الْعباب ناموس الرجل صَاحب سره الَّذِي يطلعه على بَاطِن أمره ويخصه بِهِ ويستره عَن غَيره وَأهل الْكتاب يسمون جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الناموس الْأَكْبَر والناموس أَيْضا الحاذق والناموس الَّذِي يلطف مدخله قَالَ الْأَصْمَعِي قَالَ رؤبة (لَا تمكن الخناعة الناموسا ... وتخصب اللعابة الجاسوسا) (بِعشر أَيْدِيهنَّ والضغبوسا ... خصب الغواة العومج المنسوسا) والناموس أَيْضا قترة الصَّائِد والناموسة عريسة الْأسد وَمِنْه قَول عَمْرو بن معدي كرب أَسد فِي ناموسته والناموس والنماس النمام والناموس الشّرك لِأَنَّهُ يوارى تَحت الأَرْض والناموس مَا التمس بِهِ الرجل من الاختيال تَقول نمست السِّرّ أنمسه بِالْكَسْرِ نمسا كتمته ونمست الرجل ونامسته أَي ساررته.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي لم يَأْتِ فِي الْكَلَام فاعول لَام الْكَلِمَة فِيهِ سين إِلَّا الناموس صَاحب سر الْخَيْر والجاسوس للشر والجاروس الْكثير الْأكل والناعوسالْحَيَّة والبابوس الصَّبِي الرَّضِيع والراموس الْقَبْر والقاموس وسط الْبَحْر والقابوس الْجَمِيل الْوَجْه والعاطوس دَابَّة يتشأم بهَا والناموس النمام ... والجاموس ضرب من الْبَقر وَقيل أعجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب وَقيل الحاسوس بِالْحَاء غير الْمُعْجَمَة قلت قَالَ الصغاني الحاسوس بِالْحَاء الْمُهْملَة الَّذِي يتحسس الْأَخْبَار مثل الجاسوس يَعْنِي بِالْجِيم وَقيل الحاسوس فِي الْخَيْر والجاسوس فِي الشَّرّ.
.


     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي الحاسوس المشؤم من الرِّجَال وَيُقَال سنة حاسوس وحسوس إِذا كَانَت شَدِيدَة قَليلَة الْخَيْر والقابوس قيل لفظ أعجمي عربوه وَأَصله كاووس فأعرب فَوَافَقَ الْعَرَبيَّة وَلِهَذَا لَا ينْصَرف للعجمة والتعريف وَأَبُو قَابُوس كنية النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْعَرَب والعاطوس بِالْعينِ الْمُهْملَة والبابوس بالبائين الموحدتين قَالَ ابْن عباد هُوَ الْوَلَد الصَّغِير بالرومية والناموس بالنُّون وَالْمِيم وَقد جَاءَ فاعول أَيْضا آخِره سين فاقوس بَلْدَة من بِلَاد مصر قَوْله جذعا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة يَعْنِي شَابًّا قَوِيا حَتَّى أبالغ فِي نصرتك وَيكون لي كِفَايَة تَامَّة لذَلِك والجذع فِي الأَصْل للدواب فاستعير للْإنْسَان قَالَ ابْن سَيّده قيل الْجذع الدَّاخِل فِي السّنة الثَّانِيَة وَمن الْإِبِل فَوق الْحق وَقيل الْجزع من الْإِبِل لأَرْبَع سِنِين وَمن الْخَيل لِسنتَيْنِ وَمن الْغنم لسنة وَالْجمع جذعان وجذاع بِالْكَسْرِ وَزَاد يُونُس جذاع بِالضَّمِّ وأجذاع قَالَ الْأَزْهَرِي والدهر يُسمى جذعا لِأَنَّهُ شَاب لَا يهرم وَقيل مَعْنَاهُ يَا لَيْتَني أدْرك أَمرك فَأَكُون أول من يقوم بنصرك كالجذع الَّذِي هُوَ أول الْإِنْسَان قَالَ صَاحب الْمطَالع وَالْقَوْل الأول أبين قَوْله قطّ بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء مَضْمُومَة فِي أفْصح اللُّغَات وَهِي ظرف لاستغراق مَا مضى فَيخْتَص بِالنَّفْيِ واشتقاقه من قططته أَي قطعته فَمَعْنَى مَا فعلت قطّ مَا فعلته فِيمَا انْقَطع من عمري لِأَن الْمَاضِي مُنْقَطع عَن الْحَال والاستقبال وبنيت لتضمنها معنى مذ وَإِلَى لِأَن الْمَعْنى مذ أَن خلقت إِلَى الْآن وعَلى حَرَكَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان وبالضمة تَشْبِيها بالغايات وَقد يكسر على أصل التقاء الساكنين وَقد تتبع قافه طاءه فِي الضَّم وَقد تخفف طاؤه مَعَ ضمهَا أَو إسكانها قَوْله مؤزرا بِضَم الْمِيم وَفتح الْهمزَة بعْدهَا زَاي مُعْجمَة مُشَدّدَة ثمَّ رَاء مُهْملَة أَي قَوِيا بليغا من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة والعون وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فآزره} أَي قواه وَفِي الْمُحكم آزره ووازره أَعَانَهُ على الْأَمر الْأَخير على الْبَدَل وَهُوَ شَاذ.


     وَقَالَ  ابْن قُتَيْبَة مِمَّا تَقوله الْعَوام بِالْوَاو وَهُوَ بِالْهَمْز آزرته على الْأَمر أَي أعنته فَأَما وازرته فبمعنى صرت لَهُ وزيرا قَوْله ثمَّ لم ينشب أَي لم يلبث وَهُوَ بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون النُّون وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَكَأن الْمَعْنى فَجَاءَهُ الْمَوْت قبل أَن ينشب فِي فعل شَيْء وَهَذِه اللَّفْظَة عِنْد الْعَرَب عبارَة عَن السرعة والعجلة وَلم أر شارحا ذكر بَاب هَذِه الْمَادَّة غير أَن شارحا مِنْهُم قَالَ وأصل النشوب التَّعَلُّق أَي لم يتَعَلَّق بِشَيْء من الْأُمُور حَتَّى مَاتَ وبابه من نشب الشَّيْء فِي الشَّيْء بِالْكَسْرِ نشوبا إِذا علق فِيهِ وَفِي حَدِيث الْأَحْنَف بن قيس أَنه قَالَ خرجنَا حجاجا فمررنا بِالْمَدِينَةِ أَيَّام قتل عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَقلت لصاحبي قد أفل الْحَج وَإِنِّي لَا أرى النَّاس إِلَّا قد نشبوا فِي قتل عُثْمَان وَلَا أَرَاهُم إِلَّا قاتليه أَي وَقَعُوا فِيهِ وقوعا لَا منزع لَهُم عَنهُ قَوْله وفتر الْوَحْي مَعْنَاهُ احْتبسَ قَالَه الْكرْمَانِي قلت مَعْنَاهُ احْتبسَ بعد مُتَابَعَته وتواليه فِي النُّزُول.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده فتر الشَّيْء يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد حِدة ولان بعد شدَّة وفتر هُوَ والفتر الضعْف.
(بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات) قَوْله من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَفِي صَحِيح مُسلم الصادقة وَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب التَّعْبِير أَيْضا وَوَقع هُنَا أَيْضا الصادقة فِي رِوَايَة معمر وَيُونُس وَكَذَا سَاقه الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه ومعناهما وَاحِد وَهِي الَّتِي لم يُسَلط عَلَيْهِ فِيهَا ضغث وَلَا تلبس شَيْطَان.


     وَقَالَ  الْمُهلب الرُّؤْيَا الصَّالِحَة هِيَ تباشير النُّبُوَّة لِأَنَّهُ لم يَقع فِيهَا ضغث فيتساوى مَعَ النَّاس فِي ذَلِك بل خص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصدقها كلهَا.


     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَحي قَوْله وَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء.


     وَقَالَ  بَعضهم وَكَانَ يجاور بِغَار حراء.
ثمَّ فرق بَين الْمُجَاورَة وَالِاعْتِكَاف بِأَن الْمُجَاورَة قد تكون خَارج الْمَسْجِد بِخِلَاف الِاعْتِكَاف وَلَفظ الْجوَار جَاءَ فِي حَدِيث جَابر الْآتِي فِي كتاب التَّفْسِير فِي صَحِيح مُسلم فِيهِ جَاوَرت بحراء شهرا فَلَمَّا قضيت جواري نزلت فَاسْتَبْطَنْت الْوَادي الحَدِيث وحراء بِكَسْر الْحَاء وبالمد فِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالْفَتْح وَالْقصر وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله فَيَتَحَنَّث قَالَ أَبُو أَحْمد العسكري.
رَوَاهُ بَعضهم يتحنف بِالْفَاءِ وَكَذَا وَقع فِي سيرة ابْن هِشَام بِالْفَاءِ قَوْله قبل أَن ينْزع وَفِي رِوَايَة مُسلم قبل أَن يرجع ومعناهماوَاحِد قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير حَتَّى فجئه الْحق وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم أَي أَتَاهُ بَغْتَة يُقَال فجىء يفجأ بِكَسْر الْجِيم فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الغابر وفجأ يفجأ بِالْفَتْح فيهمَا قَوْله مَا أَنا بقارىء وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة مَا أحسن أَن أَقرَأ وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَق مَاذَا أَقرَأ وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه أَنه قَالَ كَيفَ أَقرَأ قَوْله فغطني وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ فغتني بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد وَالثَّوْب على الْفَم وَالْأنف والغط الخنق وتغييب الرَّأْس فِي المَاء وَعبارَة الدَّاودِيّ معنى غطني صنع بِي شَيْئا حَتَّى ألقاني إِلَى الأَرْض كمن تَأْخُذهُ الغشية.


     وَقَالَ  الخطامي وَفِي غير هَذِه الرِّوَايَات فسأبني من سأبت الرجل سأبا إِذا خنقته ومادته سين مُهْملَة وهمزة وباء مُوَحدَة.


     وَقَالَ  الصغاني رَحمَه الله وَمِنْه حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر اعْتِكَافه بحراء فَقَالَ فَإِذا أَنا بِجِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على الشَّمْس وَله جنَاح بالمشرق وَجَنَاح بالمغرب فهلت مِنْهُ وَذكر كلَاما ثمَّ قَالَ أَخَذَنِي فسلقني بحلاوة القفاء ثمَّ شقّ بَطْني فاستخرج الْقلب وَذكر كلَاما ثمَّ قَالَ لي اقْرَأ فَلم أدر مَا أَقرَأ فَأخذ بحلقي فسأبني حَتَّى أجهشت بالبكاء فَقَالَ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترجف بوادره قَوْله فهلت أَي خفت من هاله إِذا خَوفه ويروى فسأتني بِالسِّين الْمُهْملَة والهمزة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق قَالَ الصغاني قَالَ أَبُو عمر وسأته يسأته سأتا إِذا خنقه حَتَّى يَمُوت مثل سأبه.


     وَقَالَ  أَبُو زيد مثله إِلَّا أَنه لم يقل حَتَّى يَمُوت ويروى فدعتني من الدعت بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق قَالَ ابْن دُرَيْد الدعت الدّفع العنيف عَرَبِيّ صَحِيح يُقَال دَعَتْهُ يدعته إِذا دَفعه بِالدَّال وبالذال الْمُعْجَمَة زَعَمُوا قلت وَمِنْه حَدِيث الآخر أَن الشَّيْطَان عرض لي وَأَنا أُصَلِّي فدعته حَتَّى وجدت برد لِسَانه ثمَّ ذكرت قَول أخي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام رب هَب لي ملكا الحَدِيث قلت بِمَعْنَاهُ ذأته بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة قَالَ أَبُو زيد ذأته إِذا خنقه أَشد الخنق حَتَّى أدلع لِسَانه قَوْله يرجف فُؤَاده وَفِي رِوَايَة مُسلم بوادره وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق ترجف عِنْد الْفَزع قَوْله وَالله مَا يخزيك من الخزيان كَمَا ذَكرْنَاهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة يُونُس وَعقيل عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ يحزنك من الْحزن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر أَيْضا هَهُنَا قَوْله وتكسب بِفَتْح التَّاء هُوَ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِالضَّمِّ قَوْله الْمَعْدُوم بِالْوَاو وَهِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ الصَّوَاب المعدم وَقد ذَكرْنَاهُ وَذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي كتاب التَّفْسِير وَتصدق الحَدِيث وَذكره مُسلم هَهُنَا وَهُوَ من أشرف خصاله وَذكر فِي السِّيرَة زِيَادَة أُخْرَى إِنَّك لتؤدي الْأَمَانَة ذكرهَا من حَدِيث عَمْرو بن شُرَحْبِيل قَوْله فَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية وَفِي رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَيكْتب من الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ وَلمُسلم وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ والجميع صَحِيح لِأَن ورقة كَانَ يعلم اللِّسَان العبراني وَالْكِتَابَة العبرانية فَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني كَمَا كَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ لتمكنه من الْكِتَابَيْنِ واللسانين.


     وَقَالَ  الدَّاودِيّ يكْتب من الْإِنْجِيل الَّذِي هُوَ بالعبرانية بِهَذَا الْكتاب الْعَرَبِيّ فنسبه إِلَى العبرانية إِذْ بهَا كَانَ يتَكَلَّم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قلت لَا نسلم أَن الْإِنْجِيل كَانَ عبرانيا وَلَا يفهم من الحَدِيث ذَلِك وَالَّذِي يفهم من الحَدِيث أَنه كَانَ يعلم الْكِتَابَة العبرانية وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْإِنْجِيل عبرانيا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سريانيا وَكَانَ ورقة ينْقل مِنْهُ باللغة العبرانية وَهَذَا يدل على علمه بالألسن الثَّلَاثَة وتمكنه فِيهَا حَيْثُ ينْقل السريانية إِلَى العبرانية قَوْله يَا ابْن عَم كَذَا وَقع هَهُنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ ابْن عَمها وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم يَا عَم.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا وهم لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ صَحِيحا لإِرَادَة التوقير لَكِن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد ومخرجها مُتحد فَلَا يحمل على أَنَّهَا قَالَت ذَلِك مرَّتَيْنِ فَتعين الْحمل على الْحَقِيقَة قلت هَذَا لَيْسَ بوهم بل هُوَ صَحِيح لِأَنَّهَا سمته عَمها مجَازًا وَهَذَا عَادَة الْعَرَب يُخَاطب الصَّغِير الْكَبِير بيا عَم احتراما لَهُ ورفعا لمرتبته وَلَا يحصل هَذَا الْغَرَض بقولِهَا يَا ابْن عَم فعلى هَذَا تكون تَكَلَّمت باللفظين وَكَون الْقِصَّة متحدة لَا تنَافِي التَّكَلُّم باللفظين قَوْله الَّذِي نزل الله وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أنزل الله وَفِي التَّفْسِير أنزل على مَا لم يسم فَاعله وَالْفرق بَين أنزل وَنزل أَن الأول يسْتَعْمل فِي إِنْزَال الشَّيْء دفْعَة وَاحِدَة وَالثَّانِي يسْتَعْمل فِي تَنْزِيل الشَّيْءدفْعَة بعد دفْعَة وقتا بعد وَقت وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْقُرْآن {نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} وَفِي حق التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} فَإِن قلت قَالَ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} قلت مَعْنَاهُ أَنزَلْنَاهُ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ إِلَى بَيت الْعِزَّة فِي السَّمَاء الدُّنْيَا دفْعَة وَاحِدَة ثمَّ نزل على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَيت الْعِزَّة فِي عشْرين سنة بِحَسب الوقائع والحوادث قَوْله على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَاء فِي غير الصَّحِيحَيْنِ نزل الله على عِيسَى وَكِلَاهُمَا صَحِيح أما عِيسَى فلقرب زَمَنه وَأما مُوسَى فَلِأَن كِتَابه مُشْتَمل على الْأَحْكَام بِخِلَاف كتاب عِيسَى فَإِنَّهُ كَانَ أَمْثَالًا ومواعظ وَلم يكن فِيهِ حكم.


     وَقَالَ  بَعضهم لِأَن مُوسَى بعث بالنقمة على فِرْعَوْن وَمن مَعَه بِخِلَاف عِيسَى وَكَذَلِكَ وَقعت النقمَة على يَد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بفرعون هَذِه الْأمة وَهُوَ أَبُو جهل بن هِشَام وَمن مَعَه قلت هَذَا بعيد لِأَن ورقة مَا كَانَ يعلم بِوُقُوع النقمَة على أبي جهل فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا كَانَ فِي علمه بِوُقُوع النقمَة على فِرْعَوْن على يَد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يذكر مُوسَى وَيتْرك عِيسَى.
.


     وَقَالَ  آخَرُونَ ذكر مُوسَى تَحْقِيقا للرسالة لِأَن نُزُوله على مُوسَى مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِخِلَاف عِيسَى فَإِن بعض الْيَهُود يُنكرُونَ نبوته.


     وَقَالَ  السُّهيْلي أَن ورقة كَانَ تنصر وَالنَّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى أَنه نَبِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا يَقُولُونَ أَن أقنوما من الأقانيم الثَّلَاثَة اللاهوتية حل بناسوت الْمَسِيح على اخْتِلَاف بَينهم فِي ذَلِك الْحُلُول وَهُوَ أقنوم الْكَلِمَة والكلمة عِنْدهم عبارَة عَن الْعلم فَلذَلِك كَانَ الْمَسِيح فِي زعمهم يعلم الْغَيْب ويخبر بِمَا فِي الْغَد فِي زعمهم الْكَاذِب فَلَمَّا كَانَ هَذَا مَذْهَب النَّصَارَى عدل عَن ذكر عِيسَى إِلَى ذكر مُوسَى لعلمه ولاعتقاده أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينزل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالَ لَكِن ورقة قد ثَبت إيمَانه بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التمحل فَإِنَّهُ روى عَنهُ مرّة ناموس مُوسَى وَمرَّة ناموس عِيسَى فقد روى أَبُو نعيم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة بِإِسْنَاد حسن إِلَى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه فِي هَذِه الْقِصَّة أَن خَدِيجَة أَولا أَتَت ابْن عَمها ورقة فَأَخْبَرته فَقَالَ لَئِن كنت صدقت إِنَّه ليَأْتِيه ناموس عِيسَى الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل وروى الزبير بن بكار أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن معَاذ عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذِه الْقِصَّة أَن ورقة قَالَ ناموس عِيسَى وَعبد الله بن معَاذ ضَعِيف فَعِنْدَ إِخْبَار خَدِيجَة لَهُ بالقصة قَالَ لَهَا ناموس عِيسَى بِحَسب مَا هُوَ فِيهِ من النَّصْرَانِيَّة وَعند إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ قَالَ لَهُ ناموس مُوسَى وَالْكل صَحِيح فَافْهَم قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا هَكَذَا رِوَايَة الْجُمْهُور وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ جذع بِالرَّفْع وَكَذَا وَقع لِابْنِ ماهان بِالرَّفْع فِي صَحِيح مُسلم وَالْأَكْثَرُونَ فِيهِ أَيْضا على النصب قَوْله إِذْ يخْرجك وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي التَّعْبِير حِين يخْرجك قَوْله الأعودي وَذكر البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير إِلَّا أوذي من الْأَذَى وَهُوَ رِوَايَة يُونُس قَوْله وَإِن يدركني يَوْمك وَزَاد فِي رِوَايَة يُونُس حَيا وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق إِن أدْركْت ذَلِك الْيَوْم يَعْنِي يَوْم الْإِخْرَاج وَفِي سيرة ابْن هِشَام وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك الْيَوْم لأنصرن الله نصرا يُعلمهُ ثمَّ أدنى رَأسه مِنْهُ يقبل يَافُوخه وَقيل مَا فِي البُخَارِيّ هُوَ الْقيَاس لِأَن ورقة سَابق بالوجود وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي يُدْرِكهُ من يَأْتِي بعده كَمَا جَاءَ أَشْقَى النَّاس من أَدْرَكته السَّاعَة وَهُوَ حَيّ ثمَّ قيل ولرواية ابْن إِسْحَاق وَجه لِأَن الْمَعْنى إِن أر ذَلِك الْيَوْم فَسمى رُؤْيَته إدراكا وَفِي التَّنْزِيل {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} أَي لَا ترَاهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ قلت هَذَا تَأْوِيل بعيد فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أَن يدركني وَبَين أَن أدْركْت فِي الْمَعْنى لِأَن أَن تقرب معنى الْمَاضِي من الْمُسْتَقْبل وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى قَوْله وفتر الْوَحْي وَزَاد البُخَارِيّ بعد هَذَا فِي التَّعْبِير وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤْس الْجبَال فَكلما أوفي بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي مِنْهُ نَفسه يتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول الله حَقًا فيسكن لذَلِك جأشه وتقر عينه حَتَّى يرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك فَإِذا أوفي بِذرْوَةِ جبل يتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك وَهَذَا من بلاغات معمر وَلم يسْندهُ وَلَا ذكر رَاوِيه وَلَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَلَا يعرف هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَنه قد يحمل على أَنه كَانَ أول الْأَمر قبل رُؤْيَة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا جَاءَ مُبينًا عَن ابْن إِسْحَاق عَن بَعضهم أَو أَنه فعل ذَلِك لما أحْرجهُ تَكْذِيب قومه كَمَا قَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك} أَو خَافَ أَن الفترة لأمر أَو سَبَب فخشي أَن يكون عُقُوبَة من ربه فَفعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلم يرد بعد شرع بِالنَّهْي عَنذَلِك فيعترض بِهِ وَنَحْو هَذَا فرار يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام حِين تَكْذِيب قومه وَالله أعلم (بَيَان الصّرْف) قَوْله يحيى فعل مضارع فِي الأَصْل فَوضع علما قَوْله بكير تَصْغِير بكر بِفَتْح الْبَاء وَهُوَ من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الْفَتى من النَّاس والبكرة بِمَنْزِلَة الفتات وَاللَّيْث اسْم من أَسمَاء الْأسد وَالْجمع الليوث وَفُلَان أليث من فلَان أَي أَشد وَأَشْجَع وَعقيل تَصْغِير عقل الْمَعْرُوف أَو عقل بِمَعْنى الدِّيَة وشهاب بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة شعلة نَار ساطعة وَالْجمع شهب وشهبان بِالضَّمِّ عَن الْأَخْفَش مِثَال حِسَاب وحسبان وشهبان بِالْكَسْرِ عَن غَيره وَأَن فلَانا لشهاب حَرْب إِذا كَانَ مَاضِيا فِيهَا شجاعا وَجمعه شهبان والشهاب بِالْفَتْح اللَّبن الممزوج بِالْمَاءِ وَعُرْوَة فِي الأَصْل عُرْوَة الْكوز والقميص والعروة أَيْضا من الشّجر الَّذِي لَا يزَال بَاقِيا فِي الأَرْض لَا يذهب وَجمعه عرى والعروة الْأسد أَيْضا وَبِه سمي الرجل عُرْوَة وَالزُّبَيْر تَصْغِير زبر وَهُوَ الْعقل والزبر الزّجر وَالْمَنْع أَيْضا والزبر الْكِتَابَة وَعَائِشَة من الْعَيْش وَهُوَ ظَاهر قَوْله بدىء بِهِ على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله الرُّؤْيَا مصدر كالرجعي مصدر رَجَعَ وَيخْتَص برؤيا الْمَنَام كَمَا اخْتصَّ الرَّأْي بِالْقَلْبِ والرؤية بِالْعينِ قَوْله ثمَّ حبب على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا والخلاء مصدر بِمَعْنى الْخلْوَة قَوْله فَيَتَحَنَّث من بَاب التفعل وَهُوَ للتكلف هَهُنَا كتشجع إِذا اسْتعْمل الشجَاعَة وكلف نَفسه إِيَّاهَا لتحصل وَكَذَلِكَ قَوْله وَهُوَ التَّعَبُّد من هَذَا الْبَاب وَهُوَ اسْتِعْمَال الْعِبَادَة لتكليف نَفسه إِيَّاه وَكَذَلِكَ قَوْله ويتزود من هَذَا الْبَاب وَكَذَلِكَ قَوْله تنصر من هَذَا الْبَاب قَوْله أَو مخرجي أَصله مخرجون جمع اسْم الْفَاعِل فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نونه للإضافة فَانْقَلَبت واوه يَاء وأدغمت فِي يَاء الْمُتَكَلّم (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله أول مَا بدىء كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَكلمَة من فِي قَوْله من الْوَحْي لبَيَان الْجِنْس قَالَه الْقَزاز كَأَنَّهَا قَالَت من جنس الْوَحْي وَلَيْسَت الرُّؤْيَا من الْوَحْي حَتَّى تكون للتَّبْعِيض وَهَذَا مَرْدُود بل يجوز أَن يكون للتَّبْعِيض لِأَن الرُّؤْيَا من الْوَحْي كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَنَّهَا جُزْء من النُّبُوَّة قَوْله الصَّالِحَة صفة للرؤيا إِمَّا صفة مُوضحَة للرؤيا لِأَن غير الصَّالِحَة تسمى بالحلم كَمَا ورد الرُّؤْيَا من الله والحلم من الشَّيْطَان وَإِمَّا مخصصة أَي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة لَا الرُّؤْيَا السَّيئَة أَو لَا الكاذبة الْمُسَمَّاة بأضغاث الأحلام وَالصَّلَاح إِمَّا بِاعْتِبَار صورتهَا وَإِمَّا بِاعْتِبَار تعبيرها قَالَ القَاضِي يحْتَمل أَن يكون معنى الرُّؤْيَا الصَّالِحَة والحسنة حسن ظَاهرهَا وَيحْتَمل أَن المُرَاد صِحَّتهَا ورؤيا السوء تحْتَمل الْوَجْهَيْنِ أَيْضا سوء الظَّاهِر وَسُوء التَّأْوِيل قَوْله فِي النّوم لزِيَادَة الْإِيضَاح وَالْبَيَان وَإِن كَانَت الرُّؤْيَا مَخْصُوصَة بِالنَّوْمِ كَمَا ذكرنَا عَن قريب أَو ذكر لدفع وهم من يتَوَهَّم أَن الرُّؤْيَا تطلق على رُؤْيَة الْعين قَوْله وَكَانَ لَا يرى رُؤْيا بِلَا تَنْوِين لِأَنَّهُ كحبلى قَوْله مثل مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف وَالتَّقْدِير إِلَّا جَاءَت مجيئا مثل فلق الصُّبْح أَي شَبيهَة لضياء الصُّبْح.


     وَقَالَ  أَكثر الشُّرَّاح أَنه مَنْصُوب على الْحَال وَمَا قُلْنَا أولى لِأَن الْحَال مُقَيّدَة وَمَا ذكرنَا مُطلق فَهُوَ أولى على مَا يخفى على النَّابِغَة من التراكيب قَوْله الْخَلَاء مَرْفُوع بقوله حبب لِأَنَّهُ فَاعل نَاب عَن الْمَفْعُول والنكتة فِيهِ التَّنْبِيه على أَن ذَلِك من وَحي الإلهام وَلَيْسَ من باعث الْبشر قَوْله حراء بِالتَّنْوِينِ والجر بِالْإِضَافَة كَمَا ذكرنَا قَوْله فَيَتَحَنَّث عطف على قَوْله يَخْلُو وَلَا يَخْلُو عَن معنى السَّبَبِيَّة لِأَن اختلاءه هُوَ السَّبَب للتحنث قَوْله فِيهِ أَي فِي الْغَار مَحَله النصب على الْحَال قَوْله وَهُوَ التَّعَبُّد الضَّمِير يرجع إِلَى التحنث الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله فَيَتَحَنَّث كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} أَي الْعدْل أقرب للتقوى وَهَذِه جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله فَيَتَحَنَّث فِيهِ وَبَين قَوْله اللَّيَالِي لِأَن اللَّيَالِي مَنْصُوب على الظّرْف وَالْعَامِل فِيهِ يَتَحَنَّث لَا قَوْله التَّعَبُّد وَإِلَّا يفْسد الْمَعْنى فَإِن التحنث لَا يشْتَرط فِيهِ اللَّيَالِي بل هُوَ مُطلق التَّعَبُّد وَأَشَارَ الطَّيِّبِيّ بِأَن هَذِه الْجُمْلَة مدرجة من قَول الزُّهْرِيّ لِأَن مثل ذَلِك من دأبه وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قَوْله ذَوَات الْعدَد مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة اللَّيَالِي وعلامة النصب كسر التَّاء وَأَرَادَ بهَا اللَّيَالِي مَعَ أيامهن على سَبِيل التغليب لِأَنَّهَا أنسب للخلوة قَالَ الطَّيِّبِيّ وَذَوَات الْعدَد عبارَة عَن الْقلَّة نَحْو (دَرَاهِم مَعْدُودَة).


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْكَثْرَة إِذْ الْكثير يحْتَاج إِلَى الْعدَد لَا الْقَلِيل وَهُوَ الْمُنَاسب للمقام قلت أصل مُدَّة الْخلْوَة مَعْلُوم وَكَانَ شهرا وَهُوَ شهر رَمَضَان كَمَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق فِي السِّيرَة وَإِنَّمَا أبهمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْعدَد هَهُنَا لاختلافه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمدَّة الَّتِي يتخللها مَجِيئه إِلَى أَهله قَوْله ويتزود بِالرَّفْع عطف على قَوْله يَتَحَنَّثوَلَيْسَ هُوَ بعطف على أَن ينْزع لفساد الْمَعْنى قَوْله لذَلِك أَي للخلو أَو للتعبد قَوْله لمثلهَا أَي لمثل اللَّيَالِي قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق كلمة حَتَّى هَهُنَا للغاية وَهَهُنَا مَحْذُوف وَالتَّقْدِير حَتَّى جَاءَهُ الْأَمر الْحق وَهُوَ الْوَحْي الْكَرِيم قَوْله فَجَاءَهُ الْملك الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد أَي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذِه الْفَاء هَهُنَا الْفَاء التفسيرية نَحْو قَوْله تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} إِذْ الْقَتْل نفس التَّوْبَة على أحد التفاسير وَتسَمى بِالْفَاءِ التفصيلية أَيْضا لِأَن مَجِيء الْملك تَفْصِيل للمجمل الَّذِي هُوَ مَجِيء الْحق وَلَا شكّ أَن الْمفصل نفس الْمُجْمل وَلَا يُقَال أَنه تَفْسِير الشَّيْء بِنَفسِهِ لِأَن التَّفْسِير وَإِن كَانَ عين الْمُفَسّر بِهِ من جِهَة الْإِجْمَال فَهُوَ غَيره من جِهَة التَّفْصِيل وَلَا يجوز أَن تكون الْفَاء هُنَا الْفَاء التعقيبية لِأَن مَجِيء الْملك لَيْسَ بعد مَجِيء الْوَحْي حَتَّى يعقب بِهِ بل مجىء الْملك هُوَ نفس الْوَحْي هَكَذَا قَالَت الشُّرَّاح وَفِيه بحث لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون المُرَاد من قَوْله حَتَّى جَاءَهُ الْحق الإلهام أَو سَماع هَاتِف وَيكون مجىء الْملك بعد ذَلِك بِالْوَحْي فَحِينَئِذٍ يَصح أَن تكون الْفَاء للتعقيب قَوْله فَقَالَ اقْرَأ الْفَاء هُنَا للتعقيب قَوْله مَا أَنا بقارىء قَالَت الشُّرَّاح كلمة مَا نَافِيَة وَاسْمهَا هُوَ قَوْله أَنا وخبرها هُوَ قَوْله بقارىء ثمَّ الْبَاء فِيهِ زَائِدَة لتأكيد النَّفْي أَي مَا أحسن الْقِرَاءَة وغلطوا من قَالَ أَنَّهَا استفهامية لدُخُول الْبَاء فِي الْخَبَر وَهِي لَا تدخل على مَا الاستفهامية وَمنعُوا استنادهم بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَة مَا أَقرَأ بقَوْلهمْ يجوز أَن يكون مَا هَهُنَا أَيْضا نَافِيَة قلت تغليطهم ومنعهم ممنوعان أما قَوْلهم أَن الْبَاء لَا تدخل على مَا الاستفهامية فَهُوَ مَمْنُوع لِأَن الْأَخْفَش جوز ذَلِك أما قَوْلهم يجوز أَن يكون مَا فِي رِوَايَة مَا أَقرَأ نَافِيَة فاحتمال بعيد بل الظَّاهِر أَنَّهَا استفهامية تدل على ذَلِك رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه عَن عُرْوَة أَنه قَالَ كَيفَ أَقرَأ وَالْعجب من شَارِح أَنه ذكر هَذِه الرِّوَايَة فِي شَرحه وَهِي تصرح بِأَن مَا استفهامية ثمَّ غلط من قَالَ أَنَّهَا استفهامية قَوْله الْجهد بِالرَّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فعلى كَونه فَاعِلا لبلغ يَعْنِي بلغ الْجهد مبلغه فَحذف مبلغه وَأما النصب فعلى كَونه مَفْعُولا وَالْفَاعِل مَحْذُوف يجوز أَن يكون التَّقْدِير بلغ مني الْجهد الْملك أَو بلغ الغط مني الْجهد أَي غَايَة وسعى.


     وَقَالَ  التوربشتي لَا أرى الَّذِي يروي بِنصب الدَّال إِلَّا قد وهم فِيهِ أَو جوزه بطرِيق الِاحْتِمَال فَإِنَّهُ إِذا نصب الدَّال عَاد الْمَعْنى إِلَى أَنه غطه حَتَّى استفرغ قوته فِي ضغطه وَجهد جهده بِحَيْثُ لم يبْق فِيهِ مزِيد.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي وَهَذَا قَول غير سديد فَإِن البنية البشرية لَا تستدعي استنفاد الْقُوَّة الملكية لَا سِيمَا فِي مبدأ الْأَمر وَقد دلّت الْقِصَّة على أَنه اشمأز من ذَلِك وتداخله الرعب.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ لَا شكّ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَالَة الغط لم يكن على صورته الْحَقِيقِيَّة الَّتِي تجلى بهَا عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى وعندما رَآهُ مستويا على الْكُرْسِيّ فَيكون استفراغ جهده بِحَسب صورته الَّتِي تجلى لَهُ وغطه وَإِذا صحت الرِّوَايَة اضمحل الاستبعاد قَوْله فَرجع بهَا أَي بِالْآيَاتِ وَهِي قَوْله {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى آخِرهنَّ.


     وَقَالَ  بَعضهم أَي بِالْآيَاتِ أَو بالقصة فَقَوله أَو بالقصة لَا وَجه لَهُ أصلا على مَا لَا يخفى قَوْله يرجف فُؤَاده جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا كَانَ مثبتا وَوَقع حَالا لَا يحْتَاج إِلَى الْوَاو قَوْله وأخبرها الْخَبَر جملَة حَالية أَيْضا قَوْله لقد خشيت اللَّام فِيهِ جَوَاب الْقسم الْمَحْذُوف أَي وَالله لقد خشيت وَهُوَ مقول قَالَ قَوْله فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة أَي انْطَلقَا إِلَى ورقة لِأَن الْفِعْل اللَّازِم إِذا عدى بِالْبَاء يلْزم مِنْهُ المصاحبة فَيلْزم ذهابهما بِخِلَاف مَا عدى بِالْهَمْزَةِ نَحْو أذهبته فَإِنَّهُ لَا يلْزم ذَلِك قَوْله ابْن عَم خَدِيجَة قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ بِنصب ابْن وَيكْتب بِالْألف لِأَنَّهُ بدل من ورقة فَإِنَّهُ ابْن عَم خَدِيجَة لِأَنَّهَا بنت خويلد بن أَسد وَهُوَ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد وَلَا يجوز جر ابْن وَلَا كِتَابَته بِغَيْر الْألف لِأَنَّهُ يصير صفة لعبد الْعُزَّى فَيكون عبد الْعُزَّى ابْن عَم خَدِيجَة وَهُوَ بَاطِل.
.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي كِتَابَة الْألف وَعدمهَا لَا تتَعَلَّق بِكَوْنِهِ مُتَعَلقا بِوَرَقَة أَو بِعَبْد الْعُزَّى بل عِلّة إِثْبَات الْألف عدم وُقُوعه بَين العلمين لِأَن الْعم لَيْسَ علما ثمَّ الحكم بِكَوْنِهِ بَدَلا غير لَازم لجَوَاز أَن يكون صفة أَو بَيَانا لَهُ قلت مَا ادّعى النَّوَوِيّ لُزُوم الْبَدَل حَتَّى يخدش فِي كَلَامه فَإِنَّهُ وَجه ذكره وَمثل ذَلِك عبد الله بن مَالك ابْن بُحَيْنَة وَمُحَمّد بن عَليّ ابْن الْحَنَفِيَّة والمقداد بن عَمْرو ابْن الْأسود وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم ابْن علية وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ابْن رَاهَوَيْه وَأَبُو عبد الله بن يزِيد ابْن مَاجَه فبحينة أم عبد الله وَالْحَنَفِيَّة أم مُحَمَّد وَالْأسود لَيْسَ بجد الْمِقْدَاد وَإِنَّمَا هُوَ قد تبناه وَعليَّة أم إِسْمَاعِيل وراهويه لقب إِبْرَاهِيم وماجه لقب يزِيد وكل ذَلِك يكْتب بِالْألف ويعرب بإعراب الأول وَمثل ذَلِك عبد الله بن أبي ابْن سلول بتنوين أبي وَيكْتب ابْن سلول بِالْألف ويعرب إِعْرَاب عبد الله فِي الْأَصَح قَوْله مَا شَاءَالله كلمة مَا مَوْصُولَة وَشاء صلتها والعائد مَحْذُوف وَأَن مَصْدَرِيَّة مفعول شَاءَ وَالتَّقْدِير مَا شَاءَ الله كِتَابَته قَوْله قد عمى حَال قَوْله اسْمَع من ابْن أَخِيك إِنَّمَا أطلقت الْأُخوة لِأَن الْأَب الثَّالِث لورقة هُوَ الْأَخ للْأَب الرَّابِع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ قَالَ ابْن أخي جدك على سَبِيل الْإِضْمَار وَفِي ذكر لفظ الْأَخ استعطاف أَو جعلته عَمَّا لرَسُول الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا احتراما لَهُ على سَبِيل التَّجَوُّز قَوْله مَاذَا ترى فِي إعرابه أوجه الأول أَن يكون مَا إستفهاما وَذَا إِشَارَة نَحْو مَاذَا التداني ... مَاذَا الْوُقُوف الثَّانِي أَن يكون مَا استفهاما وَذَا مَوْصُولَة كَمَا فِي قَول لبيد رَضِي الله عَنهُ (أَلا تَسْأَلَانِ الْمَرْء مَاذَا يحاول ... ) فَمَا مُبْتَدأ بِدَلِيل إِبْدَاله الْمَرْفُوع مِنْهَا وَذَا مَوْصُول بِدَلِيل افتقاره للجملة بعده وَهُوَ أرجح الْوَجْهَيْنِ فِي {ويسئلونك مَاذَا يُنْفقُونَ} الثَّالِث أَن يكون مَاذَا كُله استفهاما على التَّرْكِيب كَقَوْلِك لماذا جِئْت الرَّابِع أَن يكون مَاذَا كُله اسْم جنس بِمَعْنى شَيْء أَو مَوْصُولا الْخَامِس أَن يكون مَا زَائِدَة وَذَا للْإِشَارَة السَّادِس أَن يكون مَا استفهاما وَذَا زَائِدَة إجَازَة جمَاعَة مِنْهُم ابْن مَالك فِي نَحْو مَاذَا صنعت قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا أَي فِي أَيَّام النُّبُوَّة أَو فِي الدعْوَة.


     وَقَالَ  أَبُو الْبَقَاء العكبري الْمُنَادِي هَهُنَا مَحْذُوف تَقْدِيره يَا مُحَمَّد لَيْتَني كنت حَيا نَحْو {يَا لَيْتَني كنت مَعَهم} تَقْدِيره يَا قوم لَيْتَني وَالْأَصْل فِيهِ أَن يَا إِذا وَليهَا مَا لَا يصلح للنداء كالفعل فِي نَحْو (أَلا يَا اسجدوا) والحرف فِي نَحْو يَا لَيْتَني وَالْجُمْلَة الإسمية نَحْو يَا لعنة الله والأقوام كلهم فَقيل هِيَ للنداء والمنادى مَحْذُوف وَقيل لمُجَرّد التَّنْبِيه لِئَلَّا يلْزم الإجحاف بِحَذْف الْجُمْلَة كلهَا.


     وَقَالَ  ابْن مَالك فِي الشواهد ظن أَكثر النَّاس أَن يَا الَّتِي تَلِيهَا لَيْت حرف نِدَاء والمنادى مَحْذُوف وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيف لِأَن قَائِل لَيْتَني قد يكون وَحده فَلَا يكون مَعَه مُنَادِي كَقَوْل مَرْيَم {يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا} وَكَأن الشَّيْء إِنَّمَا يجوز حذفه إِذا كَانَ الْموضع الَّذِي ادّعى فِيهِ حذفه مُسْتَعْملا فِيهِ ثُبُوته كحذف الْمُنَادِي قبل أَمر أَو دُعَاء فَإِنَّهُ يجوز حذفه لِكَثْرَة ثُبُوته ثمَّة فَمن ثُبُوته قبل الْأَمر {يَا يحيى خُذ الْكتاب} وَقبل الدُّعَاء {يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك} وَمن حذفه قبل الْأَمر (الا يَا اسجدوا) فِي قِرَاءَة الْكسَائي أَي يَا هَؤُلَاءِ اسجدوا قبل الدُّعَاء قَول الشَّاعِر (أَلا يَا اسلمي يَا دارمي على البلى ... وَلَا زَالَ منهلا بجرعائك الْقطر) أَي يَا دَار اسلمي فَحسن حذف الْمُنَادِي قبلهَا اعتياد ثُبُوته بِخِلَاف لَيْت فَإِن الْمُنَادِي لم تستعمله الْعَرَب قبلهَا ثَابتا فادعاء حذفه بَاطِل فَتعين كَون يَا هَذِه لمُجَرّد التَّنْبِيه مثل أَلا فِي نَحْو (أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... ) قلت دَعْوَاهُ بِبُطْلَان الْحَذف غير سديدة لِأَن دَلِيله لم يساعده أما قَوْله لِأَن قَائِل لَيْتَني قد يكون وَحده الخ فَظَاهر الْفساد لِأَنَّهُ يجوز أَن يقدر فِيهِ نَفسِي فيخاطب نَفسه على سَبِيل التَّجْرِيد فالتقدير فِي الْآيَة يَا نَفسِي لَيْتَني مت قبل هَذَا وَهَهُنَا أَيْضا يكون التَّقْدِير يَا نَفسِي لَيْتَني كنت فِيهَا جذعا وَأما قَوْله وَلِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يجوز حذفه فَظَاهر الْبعد لِأَنَّهُ لَا مُلَازمَة بَين جَوَاز الْحَذف وَبَين ثُبُوت اسْتِعْمَاله فِيهِ فَافْهَم قَوْله جذعا بِالنّصب وَالرَّفْع وَجه النصب أَن يكون خبر كَانَ الْمُقدر تَقْدِيره لَيْتَني أكون جذعا وَإِلَيْهِ مَال الْكسَائي.


     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض هُوَ مَنْصُوب على الْحَال وَهُوَ مَنْقُول عَن النُّحَاة البصرية وَخبر لَيْت حِينَئِذٍ قَوْله فِيهَا وَالتَّقْدِير لَيْتَني كَائِن فِيهَا حَال شبيبة وَصِحَّة وَقُوَّة لنصرتك.


     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ لَيْت أعملت عمل تمنيت فنصب الجزئين كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رواجعا ... ) وَجه الرّفْع ظَاهر وَهُوَ كَونه خبر لَيْت قَوْله إِذْ يخْرجك قَوْمك قَالَ ابْن مَالك اسْتعْمل فِيهِ إِذْ فِي الْمُسْتَقْبل كإذا وَهُوَ اسْتِعْمَال صَحِيح وغفل عَنهُ أَكثر النَّحْوِيين وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر} وَقَوله تَعَالَى {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب} وَقَوله {فَسَوف يعلمُونَ إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم} قَالَ وَقد اسْتعْمل كل مِنْهُمَا فِي مَوضِع الآخر وَمن اسْتِعْمَال إِذا مَوضِع إِذْ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} لِأَن الانفضاض وَاقع فِيمَا مضى.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا الَّذِي ذكره ابْن مَالك قد أقره عَلَيْهِ غير وَاحِد وَتعقبه شَيخنَا بِأَن النُّحَاة لم يغفلوا عَنهُ بل منعُوا وُرُوده وَأولُوا مَا ظَاهره ذَلِك وَقَالُوا فِي مثل هَذَا اسْتعْمل الصِّيغَة الدَّالَّة على الْمُضِيّ لتحَقّق وُقُوعه فأنزلوه مَنْزِلَته وَيُقَوِّي ذَلِك هُنَا أَن فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير حِين يخْرجك قَوْمك وَعند التَّحْقِيق مَا ادَّعَاهُ ابْن مَالك فِيهِ ارْتِكَاب مجَاز وَمَا ذكره غَيره فِيهِ ارْتِكَاب مجَاز ومجازهم أولى لما يبتنى عَلَيْهِ من أَن إِيقَاع الْمُسْتَقْبل فِي صُورَة الْمُضِيّ تَحْقِيقا لوُقُوعه أَو استحضارا للصورة الْآتِيَة فِي هَذِه دون تِلْكَ قلت بل غفلوا عَنهُ لِأَن التَّنْبِيه على مثلهَذَا لَيْسَ من وظيفتهم وَإِنَّمَا هُوَ من وَظِيفَة أهل الْمعَانِي وَقَوله بل منعُوا وُرُوده كَيفَ يَصح وَقد ورد فِي الْقُرْآن فِي غير مَا مَوضِع وَقَوله وَأولُوا مَا ظَاهره يُنَافِي قَوْله منعُوا وُرُوده وَكَيف نسب التَّأْوِيل إِلَيْهِم وَهُوَ لَيْسَ إِلَيْهِم وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى أهل الْمعَانِي قَوْله ومجازهم أولى الخ بعيد عَن الْأَوْلَوِيَّة لِأَن التَّعْلِيل الَّذِي علله لَهُم هُوَ عين مَا عله ابْن مَالك فِي قَوْله اسْتعْمل إِذْ فِي الْمُسْتَقْبل كإذا وَبِالْعَكْسِ فَمن أَيْن الْأَوْلَوِيَّة قَوْله أَو مخرجي هم جملَة اسمية لِأَن هم مُبْتَدأ ومخرجي مقدما خَبره وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَن مخرجي نكرَة فَإِن إِضَافَته لفظية إِذْ هُوَ اسْم فَاعل بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال وَقد قُلْنَا أَن أَصله مخرجون جمع مخرج من الْإِخْرَاج فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ مخرجي بتَشْديد الْيَاء وَيجوز أَن يكون مخرجي مُبْتَدأ وهم فَاعِلا سد مسد الْخَبَر على لُغَة أكلوني البراغيث وَلَو روى مخرجي بِسُكُون الْيَاء أَو فتحهَا مُخَفّفَة على أَنه مُفْرد يَصح جعله مُبْتَدأ وَمَا بعده فَاعِلا سد مسد الْخَبَر كَمَا تَقول أَو مخرجي بَنو فلَان لاعتماده على حرف الِاسْتِفْهَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احي والداك والمنفصل من الضمائر يجْرِي مجْرى الظَّاهِر وَمِنْه قَول الشَّاعِر (أمنجز أَنْتُم وَعدا وثقت بِهِ ... أم اقتفيتم جَمِيعًا نهج عرقوب) وَقَالَ ابْن مَالك الأَصْل فِي أَمْثَال هَذَا تَقْدِيم حرف الْعَطف على الْهمزَة كَمَا تقدم على غَيرهَا من أدوات الِاسْتِفْهَام نَحْو {وَكَيف تكفرون} و {فَأنى تؤفكون} و {فَأَيْنَ تذهبون} وَالْأَصْل أَن يجاء بِالْهَمْزَةِ بعد العاطف كَهَذا الْمِثَال وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال وأمخرجي فالواو للْعَطْف على مَا قبلهَا من الْجمل والهمزة للاستفهام لِأَن أَدَاة الِاسْتِفْهَام جُزْء من جملَة الِاسْتِفْهَام وَهِي معطوفة على مَا قبلهَا من الْجمل والعاطف لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ جُزْء مَا عطف عَلَيْهِ وَلَكِن خصت الْهمزَة بتقديمها على العاطف تَنْبِيها على أَنه أصل أدوات الِاسْتِفْهَام لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام وَقد خُولِفَ هَذَا الأَصْل فِي غير الْهمزَة فأرادوا التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَكَانَت الْهمزَة بذلك أولى لأصالتها وَقد غفل الزَّمَخْشَرِيّ عَن هَذَا الْمَعْنى فَادّعى أَن بَين الْهمزَة وحرف الْعَطف جملَة محذوفة مَعْطُوفًا عَلَيْهَا بالعاطف مَا بعده.
قلت لم يغْفل الزَّمَخْشَرِيّ عَن ذَلِك وَإِنَّمَا ادّعى هَذِه الدَّعْوَى لدقة نظر فِيهِ وَذَلِكَ لِأَن قَوْله أَو مخرجي هم جَوَاب ورد على قَوْله إِذْ يخْرجك على سَبِيل الاستبعاد والتعجب فَكيف يجوز أَن يقدر فِيهِ تَقْدِيم حرف الْعَطف على الْهمزَة وَلِأَن هَذِه إنشائية وَتلك خبرية فلأجل ذَلِك قدمت الْهمزَة على أَن أَصْلهَا أمخرجي هم بِدُونِ حرف الْعَطف وَلَكِن لما أُرِيد مزِيد استبعاد وتعجب جِيءَ بِحرف الْعَطف على مُقَدّر تَقْدِيره أمعادي هم ومخرجي هم وَأما إِنْكَار الْحَذف فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع فمستبعد لِأَن مثل هَذِه الحذوف من حلية البلاغة لَا سِيمَا حَيْثُ الْإِمَارَة قَائِمَة عَلَيْهَا وَالدَّلِيل عَلَيْهَا هُنَا وجود العاطف وَلَا يجوز الْعَطف على الْمَذْكُور فَيجب أَن يقدر بعد الْهمزَة مَا يُوَافق الْمَعْطُوف تقريرا للاستبعاد قَوْله وَأَن يدركني كلمة إِن للشّرط ويدركني مجزوم بهَا ويومك مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل يدركني والمضاف فِيهِ مَحْذُوف أَي يَوْم إخراجك أَو يَوْم انتشار نبوتك قَوْله أنصرك مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط ونصرا مَنْصُوب على المصدرية ومؤزرا صفته قَوْله ورقة بِالرَّفْع فَاعل لقَوْله لم ينشب وَكلمَة أَن فِي قَوْله أَن توفّي مَفْتُوحَة مُخَفّفَة وَهِي بدل اشْتِمَال من ورقة أَي لم تلبث وَفَاته (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله الصَّالِحَة صفة مُوضحَة عِنْد النُّحَاة وَصفَة فارقة عِنْد أهل الْمعَانِي وَقَوله فِي النّوم من قبيل أمس الدابر كَانَ يَوْمًا عَظِيما لِأَنَّهُ لَيْسَ للكشف وَلَا للتخصيص وَلَا للمدح وَلَا للذم فَتعين أَن يكون للتَّأْكِيد قَوْله مَا أَنا بقارىء قيل أَن مثل هَذَا يُفِيد الِاخْتِصَاص قلت قَالَ الطَّيِّبِيّ مثل هَذَا التَّرْكِيب لَا يلْزم أَن يُفِيد الِاخْتِصَاص بل قد يكون للتقوية والتوكيد أَي لست بقارىء الْبَتَّةَ لَا محَالة وَهُوَ الظَّاهِر هَهُنَا وَالْمُنَاسِب للمقام قَوْله {اقْرَأ باسم رَبك} قدم الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْبَاء وَإِن كَانَ تَأْخِيره للاختصاص كَمَا فِي قَوْله عز وَجل {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} لكَون الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ أهم وَتَقْدِيم الْفِعْل أوقع لذَلِك وَقَوله اقْرَأ أَمر بإيجاد الْقِرَاءَة مُطلقًا لَا تخْتَص بمقروء دون مقروء وَقَوله باسم رَبك حَال أَي اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك أَي قل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ اقْرَأ.


     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ وَهَذَا يدل على أَن الْبَسْمَلَة مَأْمُور بِقِرَاءَتِهَا فِي ابْتِدَاء كل قِرَاءَة فَتكون قرَاءَتهَا مأمورة فِي ابْتِدَاء هَذِه السُّورَة أَيْضا قلت هَذَا التَّقْدِير خلاف الظَّاهِر فَإِن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يقل لَهُ إِلَّا أَن يَقُول {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم} قَالَ الواحديأخبرنَا الْحسن بن مُحَمَّد الْفَارِسِي قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفضل التَّاجِر قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن الْحَافِظ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن صَالح قَالَ حَدثنَا أَبُو صَالح قَالَ حَدثنِي اللَّيْث قَالَ حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر المَخْزُومِي أَنه سمع بعض عُلَمَائهمْ يَقُول كَانَ أول مَا نزل الله عز وَجل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي} إِلَى قَوْله {مَا لم يعلم} قَالَ هَذَا صدر مَا أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم حراء ثمَّ أنزل آخرهَا بعد ذَلِك وَمَا شَاءَ الله وَلَئِن سلمنَا أَن الْبَسْمَلَة مَأْمُور بهَا فِي الْقِرَاءَة فَلَا يلْزم من ذَلِك الْوُجُوب لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الْأَمر على وَجه النّدب والاستحباب لأجل التَّبَرُّك فِي ابْتِدَاء الْقِرَاءَة قَوْله {رَبك الَّذِي خلق} وصف مُنَاسِب مشْعر بعلية الحكم بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِطْلَاق فِي خلق أَولا على منوال يعْطى وَيمْنَع وَجعله تَوْطِئَة لقَوْله {خلق الْإِنْسَان} إِيذَانًا بِأَن الْإِنْسَان أشرف الْمَخْلُوقَات ثمَّ الامتنان عَلَيْهِ بقوله {علم الْإِنْسَان} يدل على أَن الْعلم أجل النعم قَوْله {علم بالقلم} إِشَارَة إِلَى الْعلم التعليمي و {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} إِشَارَة إِلَى الْعلم اللدني قَوْله لقد خشيت على نَفسِي أَشَارَ فِي تَأْكِيد كَلَامه بِاللَّامِ وَقد إِلَى تمكن الخشية فِي قلبه وخوفه على نَفسه حَتَّى روى صَاحب الغريبين فِي بَاب الْعين وَالدَّال وَالْمِيم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِخَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا أَظن أَنه عرض لي شبه جُنُون فَقَالَت كلا إِنَّك تكسب الْمَعْدُوم وَتحمل الْكل انْتهى فأجابت خَدِيجَة أَيْضا بِكَلَام فِيهِ قسم وتأكيد بِأَن وَاللَّام فِي الْخَبَر فِي صُورَة الْجُمْلَة الإسمية وَذَلِكَ إِزَالَة لحيرته ودهشته وَذَلِكَ من قبيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء} لِأَن قَوْله {وَمَا أبرئ} مَا أزكي نَفسِي أورث الْمُخَاطب حيرة فِي أَنه كَيفَ لَا ينزه نَفسه عَن السوء مَعَ كَونهَا مطمئنة زكية فأزال تِلْكَ الْحيرَة بقوله إِن النَّفس لأمارة بالسوء فِي جَمِيع الْأَشْخَاص أَي بالشهوة والرذيلة إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وأمثال ذَلِك فِي التَّنْزِيل كَثِيرَة وكل هَذَا من إِخْرَاج الْكَلَام على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر قَوْله يَا لَيْتَني كلمة لَيْت لِلتَّمَنِّي تتَعَلَّق بالمستحيل غَالِبا وبالممكن قَلِيلا وَتمنى ورقة أَن يكون عِنْد ظُهُور الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام شَابًّا ليَكُون أمكن إِلَى نَصره وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك على وَجه التحسر لِأَنَّهُ كَانَ يتَحَقَّق أَنه لَا يعود شَابًّا قَوْله أَو مخرجي هم قد ذكرنَا أَن الْهمزَة فِيهِ للاستفهام وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك على وَجه الْإِنْكَار والتفجع لذَلِك والتألم مِنْهُ لِأَنَّهُ استبعد إِخْرَاجه من غير سَبَب لِأَنَّهَا حرم الله تَعَالَى وبلد أَبِيه إِسْمَاعِيل وَلم يكن مِنْهُ فِيمَا مضى وَلَا فِيمَا يَأْتِي سَبَب يَقْتَضِي ذَلِك بل كَانَ مِنْهُ أَنْوَاع المحاسن والكرامات الْمُقْتَضِيَة لإكرامه وإنزاله مَا هُوَ لَائِق بمحله وَالْعَادَة أَن كل مَا أَتَى للنفوس بِغَيْر مَا تحب وتألف وَإِن كَانَ مِمَّن يحب ويعتقد يعافه ويطرده وَقد قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُم {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} (بَيَان الْبَيَان) قَوْله مثل فلق الصُّبْح فِيهِ تَشْبِيه وَقد علم أَن أَدَاة التَّشْبِيه الْكَاف وَكَأن وَمثل وَنَحْو وَمَا يشتق من مثل وَشبه وَنَحْوهمَا والمشبه هَهُنَا الرُّؤْيَا والمشبه بِهِ فلق الصُّبْح وَوجه الشّبَه هُوَ الظُّهُور الْبَين الْوَاضِح الَّذِي لَا يشك فِيهِ قَوْله يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا فِيهِ اسْتِعَارَة الْحَيَوَان للْإنْسَان ومبناه على التَّشْبِيه حَيْثُ أطلق الْجذع الَّذِي هُوَ الْحَيَوَان المنتهي إِلَى الْقُوَّة وَأَرَادَ بِهِ الشَّبَاب الَّذِي فِيهِ قُوَّة الرجل وتمكنه من الْأُمُور (الأسئلة والأجوبة) وَهِي على وُجُوه.
الأول مَا قيل لم أبتدىء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرؤيا أَولا وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا ابتدىء بهَا لِئَلَّا يفجأه الْملك ويأتيه بِصَرِيح النُّبُوَّة وَلَا تحتملها القوى البشرية فبدىء بأوائل خِصَال النُّبُوَّة وتباشير الْكَرَامَة من صدق الرُّؤْيَا مَعَ سَماع الصَّوْت وَسَلام الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ ورؤية الضَّوْء ثمَّ أكمل الله لَهُ النُّبُوَّة بإرسال الْملك فِي الْيَقَظَة وكشف لَهُ عَن الْحَقِيقَة كَرَامَة لَهُ الثَّانِي مَا قيل مَا حَقِيقَة الرُّؤْيَا الصادقة أُجِيب بِأَن الله تَعَالَى يخلق فِي قلب النَّائِم أَو فِي حواسه الْأَشْيَاء كَمَا يخلقها فِي الْيَقظَان وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل مَا يَشَاء لَا يمنعهُ نوم وَلَا غَيره عَنهُ فَرُبمَا يَقع ذَلِك فِي الْيَقَظَة كَمَا رَآهُ فِي الْمَنَام وَرُبمَا جعل مَا رَآهُ علما على أُمُور أخر يخلقها الله فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَتَقَع تِلْكَ كَمَا جعل الله تَعَالَى الْغَيْم عَلامَة للمطر الثَّالِث مَا قيل لم حبب إِلَيْهِ الْخلْوَة أُجِيب بِأَن مَعهَا فرَاغ الْقلب وَهِي مُعينَة على التفكر والبشر لَا ينْتَقل عَن طبعه إِلَّا بالرياضة البليغة فحبب إِلَيْهِ الْخلْوَة لينقطع عَن مُخَالطَة الْبشر فينسى المألوفات من عَادَته فيجد الْوَحْي مِنْهُ مرَادا سهلا لَا حزنا ولمثل هَذَا الْمَعْنى كَانَت مُطَالبَة الْملك لَهُ بِالْقِرَاءَةِ والضغطة وَيُقَال كَانَ ذَلِك اعْتِبَار أَو فكرةكاعتبار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لمناجاة ربه والضراعة إِلَيْهِ ليريه السَّبِيل إِلَى عِبَادَته على صِحَة إِرَادَته.


     وَقَالَ  الْخطابِيّ حبب الْعُزْلَة إِلَيْهِ لِأَن فِيهَا سُكُون الْقلب وَهِي مُعينَة على التفكر وَبهَا يَنْقَطِع عَن مألوفات الْبشر ويخشع قلبه وَهِي من جملَة الْمُقدمَات الَّتِي أرهصت لنبوته وَجعلت مبادي لظهورها.
الرَّابِع مَا قيل أَن ... عِبَادَته عَلَيْهِ وَسلم قبل الْبَعْث هَل كَانَت شَرِيعَة أحد أم لَا فِيهِ قَولَانِ لأهل الْعلم وعزى الثَّانِي إِلَى الْجُمْهُور إِنَّمَا كَانَ يتعبد بِمَا يلقى إِلَيْهِ من نور الْمعرفَة وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب والبيضاوي أَنه كلف التَّعَبُّد بشرع وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِالثَّانِي هَل يَنْتَفِي ذَلِك عَنهُ عقلا أم نقلا فَقيل بِالْأولِ لِأَن فِي ذَلِك تنفيرا عَنهُ وَمن كَانَ تَابعا فبعيد مِنْهُ أَن يكون متبوعا وَهَذَا خطأ مِنْهُ كَمَا قَالَ الْمَازرِيّ فالعقل لَا يحِيل ذَلِك.


     وَقَالَ  حذاق أهل السّنة بِالثَّانِي لِأَنَّهُ لَو فعل لنقل لِأَنَّهُ مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله ولافتخر بِهِ أهل تِلْكَ الشَّرِيعَة وَالْقَائِل بِالْأولِ اخْتلف فِيهِ على ثَمَانِيَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه كَانَ يتعبد بشريعة إِبْرَاهِيم الثَّانِي بشريعة مُوسَى الثَّالِث بشريعة عِيسَى الرَّابِع بشريعة نوح حَكَاهُ الْآمِدِيّ الْخَامِس بشريعة آدم حُكيَ عَن ابْن برهَان السَّادِس أَنه كَانَ يتعبد بشريعة من قبله من غير تعْيين السَّابِع أَن جَمِيع الشَّرَائِع شرع لَهُ حَكَاهُ بعض شرَّاح الْمَحْصُول من الْمَالِكِيَّة الثَّامِن الْوَقْف فِي ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب أبي الْمَعَالِي الإِمَام وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ فَإِن قلت قد قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} قلت المُرَاد فِي تَوْحِيد الله وَصِفَاته أَو المُرَاد اتِّبَاعه فِي الْمَنَاسِك كَمَا علم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْخَامِس مَا قيل مَا كَانَ صفة تعبده أُجِيب بِأَن ذَلِك كَانَ بالتفكر وَالِاعْتِبَار كاعتبار أَبِيه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام السَّادِس مَا قيل هَل كلف النَّبِي بعد النُّبُوَّة بشرع أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أُجِيب بِأَن الْأُصُولِيِّينَ اخْتلفُوا فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ على الْمَنْع وَاخْتَارَهُ الإِمَام والآمدي وَغَيرهمَا وَقيل بل كَانَ مَأْمُورا بِأخذ الْأَحْكَام من كتبهمْ ويعبر عَنهُ بِأَن شرع من قبلنَا شرع لنا وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا الأول وَاخْتَارَهُ الْجُمْهُور السَّابِع مَا قيل مَتى كَانَ نزُول الْملك عَلَيْهِ أُجِيب بِأَن ابْن سعد روى بِإِسْنَادِهِ أَن نزُول الْملك عَلَيْهِ بحراء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لسبع عشرَة خلت من رَمَضَان وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ ابْن أَرْبَعِينَ سنة الثَّامِن مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي غطه ثَلَاث مَرَّات قلت ليظْهر فِي ذَلِك الشدَّة وَالِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور وَأَن يَأْخُذ الْكتاب بِقُوَّة وَيتْرك الأناة فَإِنَّهُ أَمر لَيْسَ بالهوينا وكرره ثَلَاثًا مُبَالغَة فِي التثبت التَّاسِع مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِيهِ على رِوَايَة ابْن إِسْحَاق أَن الغط كَانَ فِي النّوم أُجِيب بِأَنَّهُ يكون فِي تِلْكَ الغطات الثَّلَاث من التَّأْوِيل بِثَلَاث شَدَائِد يبتلى بهَا أَولا ثمَّ يَأْتِي الْفَرح وَالسُّرُور الأولى مَا لقِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَأَصْحَابه من شدَّة الْجُوع فِي الشّعب حَتَّى تعاقدت قُرَيْش أَن لَا يبيعوا مِنْهُم وَلَا يصلوا إِلَيْهِم وَالثَّانيَِة مَا لقوا من الْخَوْف والإيعاد بِالْقَتْلِ وَالثَّالِثَة مَا لقِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الإجلاء عَن الوطن وَالْهجْرَة من حرم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْعَاشِر مَا قيل مَا الخشية الَّتِي خشيها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لقد خشيت على نَفسِي أُجِيب بِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهَا على اثنى عشر قولا الأول أَنه خَافَ من الْجُنُون وَأَن يكون مَا رَآهُ من أَمر الكهانة وَجَاء ذَلِك فِي عدَّة طرق وأبطله أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَأَنه لجدير بالأبطال الثَّانِي خَافَ أَن يكون هاجسا وَهُوَ الخاطر بالبال وَهُوَ أَن يحدث نَفسه ويجد فِي صَدره مثل الوسواس وأبطلوا هَذَا أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يسْتَقرّ وَهَذَا اسْتَقر وحصلت بَينهمَا الْمُرَاجَعَة الثَّالِث خَافَ من الْمَوْت من شدَّة الرعب الرَّابِع خَافَ أَن لَا يقوى على مقاومة هَذَا الْأَمر وَلَا يُطيق حمل أعباء الْوَحْي الْخَامِس الْعَجز عَن النّظر إِلَى الْملك وَخَافَ أَن تزهق نَفسه وينخلع قلبه لشدَّة مَا لقِيه عِنْد لِقَائِه السَّادِس خَافَ من عدم الصَّبْر على أَذَى قومه السَّابِع خَافَ من قومه أَن يقتلوه حَكَاهُ السُّهيْلي وَلَا غرو أَنه بشر يخْشَى من الْقَتْل والأذى ثمَّ يهون عَلَيْهِ الصَّبْر فِي ذَات الله تَعَالَى كل خشيَة ويجلب إِلَى قلبه كل شجاعة وَقُوَّة الثَّامِن خَافَ مُفَارقَة الوطن بِسَبَب ذَلِك التَّاسِع مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنَّهَا كَانَت مِنْهُ قبل أَن يحصل لَهُ الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن الَّذِي جَاءَهُ ملك من عِنْد الله تَعَالَى وَكَانَ أشق شَيْء عَلَيْهِ أَن يُقَال عَنهُ شَيْء الْعَاشِر خَافَ من وُقُوع النَّاس فِيهِ الْحَادِي عشر مَا قَالَه ابْن أبي جَمْرَة أَن خَشيته كَانَت من الوعك الَّذِي أَصَابَهُ من قبل الْملك الثَّانِي عشر هُوَ إِخْبَار عَن الخشية الَّتِي حصلت لَهُ على غير مواطئة بَغْتَة كَمَا يحصل للبشر إِذا دهمه أَمر لم يعهده.


     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض هَذَا أول بادىء التباشير فِي النّوم واليقظة وَسمع الصَّوْت قبل لِقَاء الْملكوَتحقّق رِسَالَة ربه فقد خَافَ أَن يكون من الشَّيْطَان فَأَما بعد أَن جَاءَهُ الْملك بالرسالة فَلَا يجوز الشَّك عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يخْشَى تسلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ.


     وَقَالَ  النَّوَوِيّ هَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ خلاف تَصْرِيح الحَدِيث فَإِن هَذَا كَانَ بعد غط الْملك وإتيانه بإقرأ باسم رَبك قَالَ قلت إِلَّا أَن يكون معنى خشيت على نَفسِي أَن يخبرها بِمَا حصل لَهُ أَولا من الْخَوْف لَا أَنه خَائِف فِي حَال الْإِخْبَار فَلَا يكون ضَعِيفا الْحَادِي عشر من الأسئلة مَا قيل من أَيْن علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الجائي إِلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا الشَّيْطَان وَبِمَ عرف أَنه حق لَا بَاطِل أُجِيب بِأَنَّهُ كَمَا نصب الله لنا الدَّلِيل على أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق لَا كَاذِب وَهُوَ المعجزة كَذَلِك نصب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيلا على أَن الجائي إِلَيْهِ ملك لَا شَيْطَان وَأَنه من عِنْد الله لَا من غَيره الثَّانِي عشر مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي فتور الْوَحْي مُدَّة أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِك ليذْهب مَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجده من الروع وليحصل لَهُ التشوق إِلَى الْعود الثَّالِث عشر مَا قيل مَا كَانَ مُدَّة الفترة أُجِيب بِأَنَّهُ وَقع فِي تَارِيخ أَحْمد بن حَنْبَل عَن الشّعبِيّ أَن مُدَّة فَتْرَة الْوَحْي كَانَت ثَلَاث سِنِين وَبِه جزم ابْن إِسْحَاق وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَن مُدَّة الرُّؤْيَا كَانَت سِتَّة أشهر وعَلى هَذَا فابتداء النُّبُوَّة بالرؤيا وَقع فِي شهر مولده وَهُوَ ربيع الأول وَابْتِدَاء وَحي الْيَقَظَة وَقع فِي رَمَضَان وَلَيْسَ فَتْرَة الْوَحْي الْمقدرَة بِثَلَاث سِنِين وَهُوَ مَا بَين نزُول اقْرَأ أَو يَا أَيهَا المدثر عدم مَجِيء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ بل تَأَخّر نزُول الْقُرْآن عَلَيْهِ فَقَط الرَّابِع عشر مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّعَبُّد بحراء من بَين سَائِر الْجبَال أُجِيب بِأَن حراء هُوَ الَّذِي نَادَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قَالَ لَهُ ثبير اهبط عني فَإِنِّي أَخَاف أَن تقتل على ظَهْري فاعذرني يَا رَسُول الله فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَخْصِيصه بِهِ.


     وَقَالَ  أَبُو عبد الله بن أبي جَمْرَة لِأَنَّهُ يرى بَيت ربه مِنْهُ وَهُوَ عبَادَة وَكَانَ منزويا مجموعا لتحنثه.
الْخَامِس عشر مَا قيل أَن قَوْله ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي يُعَارضهُ مَا رُوِيَ فِي سيرة ابْن إِسْحَاق أَن ورقة كَانَ يمر ببلال وَهُوَ يعذب لما أسلم وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه تَأَخّر إِلَى زمن الدعْوَة وَإِلَى أَن دخل بعض النَّاس فِي الْإِسْلَام أُجِيب بِأَنا لَا نسلم الْمُعَارضَة فَإِن شَرط التَّعَارُض الْمُسَاوَاة وَمَا رُوِيَ فِي السِّيرَة لَا يُقَاوم الَّذِي فِي الصَّحِيح وَلَئِن سلمنَا فَلَعَلَّ الرَّاوِي لما فِي الصَّحِيح لم يحفظ لورقة بعد ذَلِك شَيْئا من الْأُمُور فَلذَلِك جعل هَذِه الْقِصَّة انْتِهَاء أمره بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا علمه مِنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي نفس الْأَمر السَّادِس عشر مَا وَجه تَخْصِيص ورقة بن نَوْفَل ناموس النَّبِي بالناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دون سَائِر الْأَنْبِيَاء مَعَ أَن لكل نَبِي ناموسا أُجِيب بِأَن الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى لَيْسَ كناموس الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهُ أنزل عَلَيْهِ كتاب بِخِلَاف سَائِر الْأَنْبِيَاء فَمنهمْ من نزل عَلَيْهِ صحف وَمِنْهُم من نبىء بأخبار جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْهُم من نبىء بأخبار ملك الرصاف (استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه الأول فِيهِ تَصْرِيح من عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِأَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جملَة أَقسَام الْوَحْي وَهُوَ مَحل وفَاق الثَّانِي فِيهِ مَشْرُوعِيَّة اتِّخَاذ الزَّاد وَلَا يُنَافِي التَّوَكُّل فقد اتَّخذهُ سيد المتوكلين الثَّالِث فِيهِ الحض على التَّعْلِيم ثَلَاثًا بِمَا فِيهِ مشقة كَمَا فتل الشَّارِع أذن ابْن عَبَّاس فِي إدارته على يَمِينه فِي الصَّلَاة وانتزع شُرَيْح القَاضِي من هَذَا الحَدِيث أَن لَا يضْرب الصَّبِي إِلَّا ثَلَاثًا على الْقُرْآن كَمَا غط جِبْرِيل مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاثًا الرَّابِع فِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ أَن سُورَة {اقْرَأ باسم رَبك} أول مَا نزل وَقَول من قَالَ أَن أول مَا نزل {يَا أَيهَا المدثر} عملا بالرواية الْآتِيَة فِي الْبَاب فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا المدثر} مَحْمُول على أَنه أول مَا نزل بعد فَتْرَة الْوَحْي وَأبْعد من قَالَ أَن أول مَا نزل الْفَاتِحَة بل هُوَ شَاذ وَجمع بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين بِأَن قَالَ يُمكن أَن يُقَال أول مَا نزل من التَّنْزِيل فِي تَنْبِيه الله على صفة خلقه (اقْرَأ) وَأول مَا نزل من الْأَمر بالإنذار {يَا أَيهَا المدثر} وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ عَن كريب قَالَ وجدنَا فِي كتاب ابْن عَبَّاس أول مَا نزل من الْقُرْآن بِمَكَّة اقْرَأ وَاللَّيْل وَنون وَيَا أَيهَا المزمل وَيَا أَيهَا المدثر وتبت وَإِذا الشَّمْس والأعلى وَالضُّحَى وألم نشرح لَك وَالْعصر وَالْعَادِيات والكوثر وَالتَّكَاثُر وَالدّين ثمَّ الفلق ثمَّ النَّاس ثمَّ ذكر سورا كَثِيرَة وَنزل بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ سُورَة وسائرها بِمَكَّة وَكَذَلِكَ يرْوى عَن ابْن الزبير.
.


     وَقَالَ  السخاوي ذهبت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن أول مَا نزل {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى قَوْله {مَا لم يعلم} ثمَّ ن والقلم إِلَى قَوْله ويبصرون وَيَا أَيهَا المدثر وَالضُّحَى ثمَّ نزل بَاقِي سُورَة اقْرَأ بعد يَا أَيهَا المدثر وَيَا أَيهَا المزمل الْخَامِس قَالَ السُّهيْلي فِي قَوْله (اقْرَأباسم رَبك} دَلِيل من الْفِقْه على وجوب استفتاح الْقِرَاءَة بِبسْم الله غير أَنه أَمر مُبْهَم لم يتَبَيَّن لَهُ بِأَيّ اسْم من أَسْمَائِهِ يستفتح حَتَّى جَاءَ الْبَيَان بعد فِي قَوْله {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} ثمَّ فِي قَوْله {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ثمَّ بعد ذَلِك كَانَ ينزل جِبْرِيل بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَ كل سُورَة وَقد ثبتَتْ فِي سَواد الْمُصحف بِإِجْمَاع من الصَّحَابَة على ذَلِك وَحين نزلت بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سبحت الْجبَال فَقَالَت قُرَيْش سحر مُحَمَّد الْجبَال ذكره النقاش قلت دَعْوَى الْوُجُوب تحْتَاج إِلَى دَلِيل وَكَذَلِكَ دَعْوَى نزُول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَ كل سُورَة وثبوتها فِي سَواد الْمُصحف لَا يدل على وجوب قرَاءَتهَا وَمَا ذكره النقاش فِي تَفْسِيره فقد تكلمُوا فِيهِ السَّادِس فِيهِ أَن الفازع لَا يَنْبَغِي أَن يسْأَل عَن شَيْء حَتَّى يَزُول عَنهُ فزعه حَتَّى قَالَ مَالك أَن المذعور لَا يلْزمه بيع وَلَا إِقْرَار وَلَا غَيره السَّابِع فِيهِ أَن مَكَارِم الْأَخْلَاق وخصال الْخَيْر سَبَب للسلامة من مصَارِع الشَّرّ والمكاره فَمن كثر خَيره حسنت عاقبته ورجى لَهُ سَلامَة الدّين وَالدُّنْيَا الثَّامِن فِيهِ جَوَاز مدح الْإِنْسَان فِي وَجهه لمصْلحَة وَلَا يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (احثوا فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب) لِأَن هَذَا فِيمَا يمدح بباطل أَو يُؤَدِّي إِلَى بَاطِل التَّاسِع فِيهِ أَنه يَنْبَغِي تأنيس من حصلت لَهُ مَخَافَة وتبشيره وَذكر أَسبَاب السَّلامَة لَهُ الْعَاشِر فِيهِ أبلغ دَلِيل على كَمَال خَدِيجَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وجزالة رأيها وَقُوَّة نَفسهَا وَعظم فقهها وَقد جمعت جَمِيع أَنْوَاع أصُول المكارم وأمهاتها فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِحْسَان إِمَّا إِلَى الْأَقَارِب وَإِمَّا إِلَى الْأَجَانِب وَإِمَّا بِالْبدنِ وَإِمَّا بِالْمَالِ وَإِمَّا على من يسْتَقلّ بأَمْره وَإِمَّا على غَيره الْحَادِي عشر فِيهِ جَوَاز ذكر العاهة الَّتِي بالشخص وَلَا يكون ذَلِك غيبَة قلت يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا على التَّفْصِيل فَإِن كَانَ لبَيَان الْوَاقِع أَو للتعريف أَو نَحْو ذَلِك فَلَا بَأْس وَلَا يكون غيبَة وَإِن كَانَ لأجل استنقاصه أَو لأجل تعييره فَإِن ذَلِك لَا يجوز الثَّانِي عشر فِيهِ أَن من نزل بِهِ أَمر يسْتَحبّ لَهُ أَن يطلع عَلَيْهِ من يَثِق بنصحه وَصِحَّة رَأْيه الثَّالِث عشر فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُجيب يُقيم الدَّلِيل على مَا يُجيب بِهِ إِذا اقْتَضَاهُ الْمقَام (فَوَائِد الأولى) خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي بن كلاب أم الْمُؤمنِينَ تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَهِي أم أَوْلَاده كلهم خلا إِبْرَاهِيم فَمن مَارِيَة وَلم يتَزَوَّج غَيرهَا قبلهَا وَلَا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَت قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين على الْأَصَح وَقيل بِخمْس وَقيل بِأَرْبَع فأقامت مَعَه أَرْبعا وَعشْرين سنة وَسِتَّة أشهر ثمَّ توفيت وَكَانَت وفاتها بعد وَفَاة أبي طَالب بِثَلَاثَة أَيَّام وَاسم أمهَا فَاطِمَة بنت زَائِدَة بن الْأَصَم من بني عَامر بن لؤَي وَهِي أول من آمن من النِّسَاء بِاتِّفَاق بل أول من آمن مُطلقًا على قَول وَوَقع فِي كتاب الزبير بن بكار عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد قَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّا فضل الله بِهِ ابْني عَليّ أَن زَوجته خَدِيجَة كَانَت عونا لَهُ على تَبْلِيغ أَمر الله عز وَجل وَأَن زَوْجَتي كَانَت عونا لي على الْمعْصِيَة الثَّانِيَة ورقة بِفَتْح الرَّاء بن نَوْفَل بِفَتْح النُّون وَالْفَاء بن أَسد بن عبد الْعُزَّى.
.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فَإِن قلت مَا قَوْلك فِي ورقة أيحكم بإيمانه قلت لَا شكّ أَنه كَانَ مُؤمنا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأما الْإِيمَان بنبينا عَلَيْهِ السَّلَام فَلم يعلم أَن دين عِيسَى قد نسخ عِنْد وَفَاته أم لَا وَلَئِن ثَبت أَنه كَانَ مَنْسُوخا فِي ذَلِك الْوَقْت فَالْأَصَحّ أَن الْإِيمَان التَّصْدِيق وَهُوَ قد صدقه من غير أَن يذكر مَا يُنَافِيهِ قلت قَالَ ابْن مَنْدَه اخْتلف فِي إِسْلَام ورقة وَظَاهر هَذَا الحَدِيث وَهُوَ قَوْله فِيهِ يَا لَيْتَني كنت فِيهَا جذعا وَمَا ذكر بعده من قَوْله يدل على إِسْلَامه وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخبرهُ قَالَ لَهُ ورقة بن نَوْفَل وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّك لنَبِيّ هَذِه الْأمة وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تسبوا ورقة فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ جنَّة أَو جنتان ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ورقة فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة أَنه كَانَ صدقك وَلكنه مَاتَ قبل أَن تظهر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْته فِي الْمَنَام وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وَلَو كَانَ من أهل النَّار لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاس غير ذَلِك ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن لَيْسَ عِنْد أهل الحَدِيث بِالْقَوِيّ.


     وَقَالَ  السُّهيْلي فِي إِسْنَاده ضعف لِأَنَّهُ يَدُور على عُثْمَان هَذَا وَلَكِن يقويه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت الْفَتى يَعْنِي ورقة وَعَلِيهِ ثِيَاب حَرِير لِأَنَّهُ أول من آمن بِي وصدقني ذكره ابْن إِسْحَق عَن أبي ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل.


     وَقَالَ  المرزباني كَانَ ورقة من عُلَمَاء قُرَيْش وشعرائهم وَكَانَ يدعىالقس.


     وَقَالَ  النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْته وَعَلِيهِ حلَّة خضراء يرفل فِي الْجنَّة وَكَانَ يذكر الله فِي شعره فِي الْجَاهِلِيَّة ويسبحه فَمن ذَلِك قَوْله (لقد نصحت لأقوام وَقلت لَهُم ... أَنا النذير فَلَا يغرركم أحد) (لَا تعبدن إِلَهًا غير خالقكم ... فَإِن دعوكم فَقولُوا بَيْننَا جدد) (سُبْحَانَ ذِي الْعَرْش سبحانا لعود لَهُ ... وَقَبله سبح الجودي والجمد) (مسخر كل مَا تَحت السَّمَاء لَهُ ... لَا يَنْبَغِي أَن يُنَادي ملكه أحد) (لَا شَيْء مِمَّا ترى تبقى بشاشته ... يبْقى الْإِلَه ويفنى المَال وَالْولد) (لم تغن عَن هُرْمُز يَوْمًا خزائنه ... والخلد قد حاولت عَاد فَمَا خلدوا) (وَلَا سُلَيْمَان إِذْ تجْرِي الرِّيَاح لَهُ ... وَالْإِنْس وَالْجِنّ فِيمَا بَينهَا برد) (أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت لعزتها ... من كل أَوب إِلَيْهَا وَافد يفد) (حَوْض هُنَالك مورود بِلَا كدر ... لَا بُد من ورده يَوْمًا كَمَا وردوا) نسبه أَبُو الْفرج إِلَى ورقة وَفِيه أَبْيَات تنْسب إِلَى أُميَّة بن أبي الصَّلْت وَمن شعره قَوْله (فَإِن يَك حَقًا يَا خَدِيجَة فاعلمي ... حَدِيثك إيانا فَأَحْمَد مُرْسل) (وَجِبْرِيل يَأْتِيهِ وميكال مَعَهُمَا ... من الله وَحي يشْرَح الصَّدْر منزل) (الثَّالِثَة) أَنه قد عرفت أَن خَدِيجَة هِيَ الَّتِي انْطَلَقت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ورقة وَقد جَاءَ فِي السِّيرَة من حَدِيث عَمْرو بن شُرَحْبِيل أَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ دخل على خَدِيجَة وَلَيْسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدهَا ثمَّ ذكرت خَدِيجَة لَهُ مَا رَآهُ فَقَالَت يَا عَتيق اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّد إِلَى ورقة فَلَمَّا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ أَبُو بكر بِيَدِهِ فَقَالَ انْطلق بِنَا إِلَى ورقة فَقَالَ وَمن أخْبرك فَقَالَ خَدِيجَة فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فقصا عَلَيْهِ فَقَالَ إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء خَلْفي يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد فأنطلق هَارِبا فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ لَا تفعل إِذْ أَتَاك فَاثْبتْ حَتَّى تسمع مَا يَقُول ثمَّ ائْتِنِي فَأَخْبرنِي فَلَمَّا خلا ناداه يَا مُحَمَّد قل {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} حَتَّى بلغ {وَلَا الضَّالّين} قل لَا إِلَه إِلَّا الله فَأتى ورقة فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ لَهُ ورقة أبشر ثمَّ أبشر فَأَنا أشهد بأنك الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى ابْن مَرْيَم وَإنَّك على مثل ناموس مُوسَى وَإنَّك نَبِي مُرْسل وَإنَّك ستؤمر بِالْجِهَادِ بعد يَوْمك هَذَا وَلَئِن أدركني ذَاك لأجاهدن مَعَك فَلَمَّا توفّي ورقة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد رَأَيْت القس فِي الْجنَّة وَعَلِيهِ ثِيَاب الْحَرِير لِأَنَّهُ آمن بِي وصدقني يَعْنِي ورقة وَفِي سير سُلَيْمَان بن طرحان التَّيْمِيّ أَنَّهَا ركبت إِلَى بحيرا بِالشَّام فَسَأَلته عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهَا قدوس يَا سيدة قُرَيْش أَنى لَك بِهَذَا الِاسْم فَقَالَت بعلي وَابْن عمي أَخْبرنِي أَنه يَأْتِيهِ فَقَالَ مَا علم بِهِ إِلَّا نَبِي فَإِنَّهُ السفير بَين الله وَبَين أنبيائه وَأَن الشَّيْطَان لَا يجترىء أَن يتَمَثَّل بِهِ وَلَا أَن يتسمى باسمه.
وَفِي الْأَوَائِل لأبي هِلَال من حَدِيث سُوَيْد بن سعيد حَدثنَا الْوَلِيد بن مُحَمَّد عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا خرجت إِلَى الراهب ورقة وعداس فَقَالَ ورقة أخْشَى أَن يكون أحد شبه بِجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَرَجَعت وَقد نزل {ن والقلم وَمَا يسطرون} فَلَمَّا قَرَأَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا على ورقة قَالَ أشهد أَن هَذَا كَلَام الله تَعَالَى.
فَإِن قلت مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَخْبَار قلت بِأَن تكون خَدِيجَة قد ذهبت بِهِ مرّة وأرسلته مَعَ الصّديق أُخْرَى وسافرت إِلَى بحيرا أَو غَيره مرّة أُخْرَى وَهَذَا من شدَّة اعتنائها بِسَيِّد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثه بَينا أَنا أَمْشِي إِذْ سَمِعت صَوتا من السَّمَاء فَرفعت بَصرِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالس على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَرُعِبْت مِنْهُ فَرَجَعت فَقلت زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر} فحمى الْوَحْي وتتابع)ابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَقد مر.
وَأَبُو سَلمَة بِفتْحَتَيْنِ اسْمه عبد الله أَو إِسْمَعِيل أَو اسْمه كنيته ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي التَّابِعِيّ الإِمَام الْجَلِيل الْمُتَّفق على إِمَامَته وجلالته وثقته وَهُوَ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة على أحد الْأَقْوَال سمع جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعنهُ خلائق من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ فَمن بعدهمْ وَتزَوج أَبوهُ تماضر بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْمُعْجَمَة بنت الْأصْبع بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين غير مُعْجمَة وَهِي الْكَلْبِيَّة من أهل دومة الجندل وَلم تَلد لعبد الرَّحْمَن غير أبي سَلمَة توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَتِسْعين وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة فِي خلَافَة الْوَلِيد وَجَابِر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرَام بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاء ابْن عَمْرو بن سَواد بتَخْفِيف الْوَاو ابْن سَلمَة بِكَسْر اللَّام ابْن سعد بن عَليّ بن أَسد بن ساردة ابْن تُرِيدُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن جشم بِضَم الْجِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ بِفَتْح السِّين وَاللَّام وَحكي فِي لُغَة كسرهَا الْمدنِي أَبُو عبد الله أَو عبد الرَّحْمَن أَو أَبُو مُحَمَّد أحد السِّتَّة المكثرين رُوِيَ لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وَخَمْسمِائة حَدِيث وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا أخرجَا لَهُ مِائَتي حَدِيث وَعشرَة أَحَادِيث اتفقَا مِنْهَا على ثَمَانِيَة وَخمسين وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِسِتَّة وَعشْرين وَمُسلم بِمِائَة وَسِتَّة وَعشْرين وَأمه نسيبة بنت عقبَة بن عدي مَاتَ بعد أَن عمي سنة ثَمَان أَو ثَلَاث أَو أَربع أَو تسع وَسبعين وَقيل سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَكَانَ عمره أَرْبعا وَتِسْعين سنة وَصلى عَلَيْهِ أبان بن عُثْمَان وَالِي الْمَدِينَة وَهُوَ آخر الصَّحَابَة موتا بِالْمَدِينَةِ وَجَابِر بن عبد الله فِي الصَّحَابَة ثَلَاثَة.
جَابر بن عبد الله هَذَا.
وَجَابِر بن عبد الله بن ربَاب بن النُّعْمَان بن سِنَان.
وَجَابِر بن عبد الله الرَّاسِبِي نزيل الْبَصْرَة وَأما جَابر فِي الصَّحَابَة فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ نَفرا وَجَابِر بن عبد الله فِي غير الصَّحَابَة خَمْسَة الأول سلمي يروي عَن أَبِيه عَن كَعْب الْأَحْبَار.
الثَّانِي محاربي عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ.
الثَّالِث غطفاني يروي عَن عبد الله بن الْحسن الْعلوِي.
الرَّابِع مصري عَنهُ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
الْخَامِس يروي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَانَ كذابا وَجَابِر يشْتَبه بجاثر بالثاء الْمُثَلَّثَة مَوضِع الْبَاء الْمُوَحدَة وبخاتر بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ رَاء فَالْأول أَبُو الْقَبِيلَة الَّتِي بعث الله مِنْهَا صَالحا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ ثَمُود بن جاثر بن أرم بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَخُوهُ جديس بن جاثر.
وَالثَّانِي معن لَهُ أَخْبَار وحكايات مَشْهُورَة (حكم الحَدِيث) قَالَ الْكرْمَانِي مثل هَذَا أَي مَا لم يذكر من أول الْإِسْنَاد وَاحِدًا أَو أَكثر يُسمى تَعْلِيقا وَلَا يذكرهُ البُخَارِيّ إِلَّا إِذا كَانَ مُسْندًا عِنْده إِمَّا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم كَأَنَّهُ قَالَ حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل أَنه قَالَ قَالَ ابْن شهَاب أَو بِإِسْنَاد آخر وَقد ترك الْإِسْنَاد هَهُنَا لغَرَض من الْأَغْرَاض الْمُتَعَلّقَة بِالتَّعْلِيقِ لكَون الحَدِيث مَعْرُوفا من جِهَة الثِّقَات أَو لكَونه مَذْكُورا فِي مَوضِع آخر أَو نَحوه قَالَ بَعضهم وَأَخْطَأ من زعم أَن هَذَا مُعَلّق قلت يعرض بذلك للكرماني وَلَا معنى للتعريض لِأَن الحَدِيث صورته فِي الظَّاهِر من التَّعْلِيق وَإِن كَانَ مُسْندًا عِنْده فِي مَوضِع آخر فَإِنَّهُ أخرجه أَيْضا فِي الْأَدَب وَفِي التَّفْسِير أتم من هَذَا وأوله عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ سَأَلت أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أول مَا نزل من الْقُرْآن قَالَ {يَا أَيهَا المدثر} قلت يَقُولُونَ {اقْرَأ باسم رَبك} الَّذِي خلق فَقَالَ أَبُو سَلمَة سَأَلت جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا عَن ذَلِك قلت لَهُ مثل الَّذِي قلت فَقَالَ جَابر لَا أحَدثك إِلَّا مَا حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ جَاوَرت بحراء شهرا فَلَمَّا قضيت جواري ثمَّ ذكر نَحوه.


     وَقَالَ  فِي التَّفْسِير.
حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب (ح) وحَدثني عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي فَذكره وَأخرجه مُسلم بألفاظه (وَمن لطائف إِسْنَاده) أَن كلهم مدنيون.
وَفِيه تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
فَإِن قلت لم قَالَ قَالَ ابْن شهَاب وَلم يقل وروى أَو وَعَن ابْن شهَاب وَنَحْو ذَلِك.
قلت قَالُوا إِذا كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا لَا يُقَال فِيهِ قَالَ لِأَنَّهُ من صِيغ الْجَزْم بل يُقَال حكى أَو قيل أَو يُقَال بِصِيغَة التمريض وَقد اعتنى البُخَارِيّ بِهَذَا الْفرق فِي صَحِيحه كَمَا سترى وَذَلِكَ من غَايَة إتقانه فَإِن قيل مَا كَانَ مُرَاده من إِخْرَاجه بِهَذِهِ الصُّورَة مَعَ أَنه أخرجه مُسْندًا فِي صَحِيحه فِي مَوضِع آخر.
قلت لَعَلَّه وَضعه على هَذِه الصُّورَة قبل أَن وقف عَلَيْهِ مُسْندًا فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ مُسْندًا ذكره وَترك الأول على حَاله لعدم خلوه عَن فَائِدَة(بَيَان اللُّغَات) قَوْله عَن فَتْرَة الْوَحْي وَهُوَ احتباسه وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله على كرْسِي هُوَ بِضَم الْكَاف وَكسرهَا وَالضَّم أفْصح وَجمعه كراسي بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها قَالَ ابْن السّكيت كل مَا كَانَ من هَذَا النَّحْو مفرده مشدد كعارية وسرية جَازَ فِي جمعه التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف.


     وَقَالَ  الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره أصل الْكُرْسِيّ الْعلم وَمِنْه قيل لصحيفة يكون فِيهَا علم كراسة.


     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ الْكُرْسِيّ مَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يفضل عَن مقْعد الْقَاعِد وَفِي الْعباب الْكُرْسِيّ من قَوْلهم كرس الرجل بِالْكَسْرِ إِذا ازْدحم علمه على قلبه فَإِن قلت مَا هَذِه الْيَاء فِيهِ قلت لَيست يَاء النِّسْبَة وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة فَإِذا أُرِيد النِّسْبَة إِلَيْهِ تحذف الْيَاء مِنْهُ وَيُؤْتى بياء النِّسْبَة فَيُقَال كرْسِي أَيْضا فَافْهَم قَوْله فَرُعِبْت مِنْهُ بِضَم الرَّاء وَكسر الْعين على مَا لم يسم فَاعله وَرِوَايَة الْأصيلِيّ بِفَتْح الرَّاء وبضم الْعين وهما صَحِيحَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره قَالَ يَعْقُوب رعب ورعب وَاقْتصر النَّوَوِيّ فِي شَرحه الَّذِي لم يكمله على الأول.


     وَقَالَ  بَعضهم الرِّوَايَة بِضَم الْعين واللغة بِفَتْحِهَا حَكَاهُ السفاقسي والرعب الْخَوْف يُقَال رعبته فَهُوَ مرعوب إِذا أفزعته وَلَا يُقَال أرعبته تَقول رعب الرجل على وزن فعل كضرب بِمَعْنى خَوفه هَذَا إِذا عديته فَإِن ضممت الْعين قلت رعبت مِنْهُ وَإِن بنيته على مَا لم يسم فَاعله ضممت الرَّاء فَقلت رعبت مِنْهُ وَفِي البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَمُسلم هُنَا فجئثت مِنْهُ بِضَم الْجِيم وَكسر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة من جئث الرجل أَي أفزع فَهُوَ مجؤث أَي مذعور ومادته جِيم ثمَّ همزَة ثمَّ ثاء مُثَلّثَة قَالَ القَاضِي كَذَا هُوَ للكافة فِي الصَّحِيحَيْنِ وروى فجثثت بِضَم الْجِيم وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَهُوَ بِمَعْنى الأول ومادته جِيم ثمَّ ثاآن مثلثتان وَفِي بعض الرِّوَايَات حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض أَي سَقَطت أخرجهَا مُسلم وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَفِي بَعْضهَا فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة وَهِي كَثْرَة الِاضْطِرَاب قَوْله زَمِّلُونِي فِي أَكثر الْأُصُول زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي مرَّتَيْنِ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة مرّة وَاحِدَة وللبخاري فِي التَّفْسِير وَلمُسلم أَيْضا دَثرُونِي وَهُوَ هُوَ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله {يَا أَيهَا المدثر} أَصله المتدثر وَكَذَلِكَ المزمل أَصله المتزمل والمدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بِمَعْنى وَسَماهُ الله تَعَالَى بذلك إيناسا لَهُ وتلطفا.
ثمَّ الْجُمْهُور على أَن مَعْنَاهُ المتدثر بثيابه وَحكى الْمَاوَرْدِيّ عَن عِكْرِمَة أَن مَعْنَاهُ المتدثر بِالنُّبُوَّةِ وأعبائها قَوْله {قُم فَأَنْذر} أَي حذر الْعَذَاب من لم يُؤمن بِاللَّه وَفِيه دلَالَة على أَنه أَمر بالإنذار عقيب نزُول الْوَحْي للإتيان بِالْفَاءِ التعقيبية فَإِن قلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل بشيرا وَنَذِيرا فَكيف أَمر بالإنذار دون الْبشَارَة قلت الْبشَارَة إِنَّمَا تكون لمن دخل فِي الْإِسْلَام وَلم يكن إِذْ ذَاك من دخل فِيهِ قَوْله {وَرَبك فَكبر} أَي عظمه ونزهه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَقيل أَرَادَ بِهِ تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح للصَّلَاة وَفِيه نظر قَوْله {وثيابك فطهر} أَي من النَّجَاسَات على مَذْهَب الْفُقَهَاء وَقيل أَي فقصر وَقيل المُرَاد بالثياب النَّفس أَي طهرهَا من كل نقص أَي اجْتنب النقائص قَوْله {وَالرجز} بِكَسْر الرَّاء فِي قِرَاءَة الْأَكْثَر وَقَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم بضَمهَا وَهِي الْأَوْثَان فِي قَول الْأَكْثَرين.
وَفِي مُسلم التَّصْرِيح بِهِ وَفِي التَّفْسِير عَن أبي سَلمَة التَّصْرِيح بِهِ وَقيل الشّرك وَقيل الذَّنب وَقيل الظُّلم.
وأصل الرجز فِي اللُّغَة الْعَذَاب وَيُسمى عبَادَة الْأَوْثَان وَغَيرهَا من أَنْوَاع الْكفْر رجزا لِأَنَّهُ سَبَب الْعَذَاب قَوْله فحمي بِفَتْح الْحَاء وَكسر الْمِيم مَعْنَاهُ كثر نُزُوله من قَوْلهم حميت النَّار وَالشَّمْس أَي كثرت حَرَارَتهَا وَمِنْه قَوْلهم حمي الْوَطِيس والوطيس التَّنور استعير للحرب قَوْله وتتابع تفَاعل من التَّتَابُع قَالَت الشُّرَّاح كلهم ومعناهما وَاحِد فأكد أَحدهمَا بِالْآخرِ.
قلت لَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فَإِن معنى حمي النَّهَار اشْتَدَّ حره وَمعنى تتَابع تَوَاتر وَأَرَادَ بحمي الْوَحْي اشتداده وهجومه وَبِقَوْلِهِ تتَابع تواتره وَعدم انْقِطَاعه وَإِنَّمَا لم يكتف بحمي وَحده لِأَنَّهُ لَا يسْتَلْزم الِاسْتِمْرَار والدوام والتواتر فَلذَلِك زَاد قَوْله وتتابع فَافْهَم فَإِنَّهُ من الْأَسْرَار الربانية والأفكار الرحمانية وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا رِوَايَة الْكشميهني وتواتر مَوضِع وتتابع والتواتر مَجِيء الشَّيْء يَتْلُو بعضه بَعْضًا من غير خلل وَلَقَد أبعد من قَالَ وتتابع توكيد معنوي لِأَن التَّأْكِيد الْمَعْنَوِيّ لَهُ أَلْفَاظ مَخْصُوصَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
فَإِن قَالَ مَا أردْت بِهِ التَّأْكِيد الاصطلاحي يُقَال لَهُ هَذَا إِنَّمَا يكون بَين لفظين مَعْنَاهُمَا وَاحِد وَقد بَينا الْمُغَايرَة بَين حمي وتتابع وَالرُّجُوع إِلَى الْحق من جملَة الدّين (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله قَالَ ابْن شهَاب فعل وفاعل قَوْله وَأَخْبرنِي مَعْطُوف على مَحْذُوف هُوَ مقول القَوْل تَقْدِيره قَالَ ابْن شهَاب أَخْبرنِي عُرْوَة بِكَذَا وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بِكَذَا فلأجل قَصده بَيَان الْإِخْبَار عَن عُرْوَة بن الزبيروَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَتَى بواو الْعَطف وَإِلَّا فمقول القَوْل لَا يكون بِالْوَاو وَنَحْوه فَافْهَم قَوْله أَن جَابر بن عبد الله بِفَتْح أَن لِأَنَّهَا فِي مَحل النصب على المفعولية قَوْله وَهُوَ يحدث جملَة اسمية وَقعت حَالا أَي قَالَ فِي حَالَة التحديث عَن احتباس الْوَحْي عَن النُّزُول أَو قَالَ جَابر فِي حَالَة التحديث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله بَينا أَصله بَين بِلَا ألف فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا فَيصير بَيْنَمَا ومعناهما وَاحِد وَهُوَ من الظروف الزمانية اللَّازِمَة للإضافة إِلَى الْجُمْلَة الإسمية وَالْعَامِل فِيهِ الْجَواب إِذا كَانَ مُجَردا من كلمة المفاجأة وَإِلَّا فَمَعْنَى المفاجأة المتضمنة هِيَ إِيَّاهَا وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى وَقيل اقْتضى جَوَابا لِأَنَّهَا ظرف يتَضَمَّن المجازاة والأفصح فِي جَوَابه إِذْ وَإِذا خلافًا للأصمعي وَالْمعْنَى أَن فِي أثْنَاء أَوْقَات الْمَشْي فاجأني السماع قَوْله إِذْ سَمِعت جَوَاب بَينا على مَا ذكرنَا قَوْله فَإِذا الْملك كلمة إِذا هَهُنَا للمفاجأة وَهِي تخْتَص بالجمل الإسمية وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب وَلَا يَقع فِي الِابْتِدَاء وَمَعْنَاهَا الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال نَحْو خرجت فَإِذا الْأسد بِالْبَابِ وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك وظرف مَكَان عِنْد الْمبرد وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور وظرف زمَان عِنْد الزّجاج وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
فَإِن قلت مَا الْفَاء فِي فَإِذا قلت زَائِدَة لَازِمَة عِنْد الْفَارِسِي والمازني وَجَمَاعَة وعاطفة عِنْد أبي الْفَتْح وللسببية الْمَحْضَة عِنْد أبي إِسْحَاق قَوْله جَالس بِالرَّفْع كَذَا فِي البُخَارِيّ وَفِي مُسلم جَالِسا بِالنّصب قَالَ النَّوَوِيّ كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَجَاء فِي رِوَايَة فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء وَاقِف بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَفِي طَرِيق آخر على عرش بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَلمُسلم فَإِذا هُوَ على الْعَرْش فِي الْهَوَاء وَفِي رِوَايَة على كرْسِي وَهُوَ تَفْسِير الْعَرْش الْمَذْكُور.
قَالَ أهل اللُّغَة الْعَرْش السرير فَإِن قلت وَجه الرّفْع ظَاهر لِأَنَّهُ خبر عَن الْملك الَّذِي هُوَ مُبْتَدأ وَقَوله الَّذِي جَاءَنِي بحراء صفته فَمَا وَجه النصب قلت على الْجُمْلَة الحالية من الْملك فَإِن قلت إِذا نصب جَالِسا على الْحَال فَمَاذَا يكون خبر الْمُبْتَدَأ وَقد قلت أَن إِذا المفاجأة تخْتَص بالاسمية قلت حِينَئِذٍ يكون الْخَبَر محذوفا مُقَدرا وَيكون التَّقْدِير فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء شاهدته حَال كَونه جَالِسا على كرْسِي أَو نَحْو ذَلِك قَوْله بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ظرف وَلكنه فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهُ صفة لكرسي وَالْفَاء فِي فَرُعِبْت تصلح للسَّبَبِيَّة وَكَذَا فِي فَرَجَعت لِأَن رُؤْيَة الْملك على هَذِه الْحَالة سَبَب لرعبه ورعبه سَبَب لرجوعه وَالْفَاء فِي فَقلت وَفِي فَأنْزل الله على أَصْلهَا للتعقيب قَوْله وَرَبك مَنْصُوب بقوله {فَكبر وثيابك} بقوله {فطهر وَالرجز} بقوله {فاهجر} فَإِن قلت مَا الْفَا آتٍ فِي الْآيَة قلت الْفَاء فِي {فَأَنْذر} تعقيبية وَبَقِيَّة الفاآت كالفاء فِي قَوْله تَعَالَى {بل الله فاعبد} فَقيل جَوَاب لَا مَا مقدرَة وَقيل زَائِدَة وَإِلَيْهِ مَال الْفَارِسِي وَعند الْأَكْثَرين عاطفة وَالْأَصْل تنبه فاعبد الله ثمَّ حذف تنبه وَقدم الْمَنْصُوب على الْفَاء إصلاحا للفظ لِئَلَّا تقع الْفَاء صَدرا قَوْله فحمي الْفَاء فِيهِ عاطفة وَالتَّقْدِير فَبعد إِنْزَال الله هَذِه الْآيَة حمي الْوَحْي (استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا الدّلَالَة على وجود الْمَلَائِكَة ردا على زنادقة الفلاسفة وَمِنْهَا إِظْهَار قدرَة الله تَعَالَى إِذْ جعل الْهَوَاء للْمَلَائكَة يتصرفون فِيهِ كَيفَ شاؤا كَمَا جعل الأَرْض لبني آدم يتصرفون فِيهَا كَيفَ شاؤا فَهُوَ ممسكهما بقدرته وَمِنْهَا أَنه عبر بقوله فحمي تتميما للتمثيل الَّذِي مثلت بِهِ عَائِشَة أَولا وَهُوَ كَونهَا جعلت الرُّؤْيَا كَمثل فلق الصُّبْح فَإِن الضَّوْء لَا يشْتَد إِلَّا مَعَ قُوَّة الْحر وَالْحق ذَلِك بتتابع لِئَلَّا يَقع التَّمْثِيل بالشمس من كل الْجِهَات لِأَن الشَّمْس يلْحقهَا الأفول والكسوف وَنَحْوهمَا وشمس الشَّرِيعَة بَاقِيَة على حَالهَا لَا يلْحقهَا نقص (وَتَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره) تَابعه فعل ومفعول وَعبد الله فَاعله وَالضَّمِير يرجع إِلَى يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور فِي أول الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا وَقَوله وَأَبُو صَالح عطف على عبد الله بن يُوسُف وَهُوَ أَيْضا تَابع يحيى بن بكير وَالْحَاصِل أَن عبد الله بن يُوسُف وَأَبا صَالحا تَابعا يحيى بن بكير فِي الرِّوَايَة عَن اللَّيْث بن سعد فَرَوَاهُ عَن اللَّيْث ثَلَاثَة يحيى بن بكير وَعبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح.
أما مُتَابعَة عبد الله بن يُوسُف ليحيى بن بكير فِي رِوَايَته عَن اللَّيْث بن سعد فأخرجها البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَالْأَدب وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن حميد عَن عبد الرازق بِهِ.


     وَقَالَ  حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن عمر بن عبد الْوَاحِد عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب بِهِ وَأما رِوَايَة أبي صَالح عَن اللَّيْث بِهَذَا الحَدِيثفأخرجها يَعْقُوب بن سُفْيَان فِي تَارِيخه عَنهُ مَقْرُونا بِيَحْيَى بن بكير قَوْله وَتَابعه هِلَال بن رداد أَي تَابع عقيل بن خَالِد هِلَال بن رداد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ فَإِن قلت كَيفَ أُعِيد الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي وَتَابعه إِلَى عقيل وَرُبمَا يتَوَهَّم أَنه عَائِد إِلَى أبي صَالح أَو إِلَى عبد الله بن يُوسُف لِكَوْنِهِمَا قريبين مِنْهُ قلت قَوْله عِنْد الزُّهْرِيّ هُوَ الَّذِي عين عود الضَّمِير إِلَى عقيل وَدفع التَّوَهُّم الْمَذْكُور لِأَن الَّذِي روى عَن الزُّهْرِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور هُوَ عقيل وَالْحَاصِل أَن هِلَال بن رداد روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن الزُّهْرِيّ كَمَا رَوَاهُ عقيل بن خَالِد عَنهُ وَحَدِيثه فِي الزهريات للذهلي وَهَذَا أول مَوضِع جَاءَ فِيهِ ذكر الْمُتَابَعَة وَالْفرق بَين المتابعتين أَن الْمُتَابَعَة الأولى أقوى لِأَنَّهَا مُتَابعَة تَامَّة والمتابعة الثَّانِيَة أدنى من الأولى لِأَنَّهَا مُتَابعَة نَاقِصَة فَإِذا كَانَ أحد الراويين رَفِيقًا للْآخر من أول الْإِسْنَاد إِلَى آخِره تسمى بالمتابعة التَّامَّة وَإِذا كَانَ رَفِيقًا لَهُ لَا من الأول يُسمى بالمتابعة النَّاقِصَة.
ثمَّ النوعان رُبمَا يُسمى المتابع عَلَيْهِ فيهمَا وَرُبمَا لَا يُسمى فَفِي الْمُتَابَعَة الأولى لم يسم المتابع عَلَيْهِ وَهُوَ اللَّيْث وَفِي الثَّانِيَة يُسمى المتابع عَلَيْهِ وَهُوَ الزُّهْرِيّ فقد وَقع فِي هَذَا الحَدِيث الْمُتَابَعَة التَّامَّة والمتابعة النَّاقِصَة وَلم يسم المتابع عَلَيْهِ فِي الأولى وَسَماهُ فِي الثَّانِيَة على مَا لَا يخفى.


     وَقَالَ  النَّوَوِيّ وَمِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ المعتني بِصَحِيح البُخَارِيّ (فَائِدَة) ننبه عَلَيْهَا وَهِي أَنه تَارَة يَقُول تَابعه مَالك عَن أَيُّوب وَتارَة يَقُول تَابعه مَالك وَلَا يزِيد فَإِذا قَالَ مَالك عَن أَيُّوب فَهَذَا ظَاهر وَأما إِذا اقْتصر على تَابعه مَالك فَلَا يعرف لمن الْمُتَابَعَة إِلَّا من يعرف طَبَقَات الروَاة ومراتبهم.


     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فعلى هَذَا لَا يعلم أَن عبد الله يروي عَن اللَّيْث أَو عَن غَيره.
قلت الطَّرِيقَة فِي هَذَا أَن تنظر طبقَة المتابع بِكَسْر الْبَاء فتجعله مُتَابعًا لمن هُوَ فِي طبقته بِحَيْثُ يكون صَالحا لذَلِك أَلا ترى كَيفَ لم يسم البُخَارِيّ المتابع عَلَيْهِ فِي الْمُتَابَعَة الأولى وَسَماهُ فِي الثَّانِيَة فَافْهَم قَوْله.


     وَقَالَ  يُونُس وَمعمر بوادره مُرَاده أَن أَصْحَاب الزُّهْرِيّ اخْتلفُوا فِي هَذِه اللَّفْظَة فروى عقيل عَن الزُّهْرِيّ فِي الحَدِيث يرجف فُؤَاده كَمَا مضى وَتَابعه على هَذِه اللَّفْظَة هِلَال بن رداد وَخَالفهُ يُونُس وَمعمر فروى عَن الزُّهْرِيّ يرجف فُؤَاده (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي شيخ البُخَارِيّ وَقد ذكر الثَّانِي أَبُو صَالح قَالَ أَكثر الشُّرَّاح هُوَ عبد الْغفار بن دَاوُد بن مهْرَان بن زِيَاد بن دَاوُد بن ربيعَة بن سُلَيْمَان بن عُمَيْر الْبكْرِيّ الْحَرَّانِي ولد بأفريقية سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَخرج بِهِ أَبوهُ وَهُوَ طِفْل إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَت أمه من أَهلهَا فَنَشَأَ بهَا وتفقه وَسمع الحَدِيث من حَمَّاد بن سَلمَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر مَعَ أَبِيه وَسمع من اللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَغَيرهمَا وَسمع بِالشَّام إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وبالجزيرة مُوسَى بن أعين واستوطن مصر وَحدث بهَا وَكَانَ يكره أَن يُقَال لَهُ الْحَرَّانِي وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْحَرَّانِي لِأَن أَخَوَيْهِ عبد الله وَعبد الرَّحْمَن ولدا بهَا وَلم يَزَالَا بهَا وحزان مَدِينَة بالجزيرة من ديار بكر وَالْيَوْم خراب سميت بحران بن آزر أخي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام روى عَنهُ يحيى بن معِين وَالْبُخَارِيّ وروى أَبُو دَاوُد عَن رجل عَنهُ وَخرج لَهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَمَات بِمصْر سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.


     وَقَالَ  بَعضهم هَذَا وهم وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث الْمصْرِيّ وَلم يتَبَيَّن لي وَجهه فِي التَّرْجِيح لِأَن البُخَارِيّ روى عَن كليهمَا الثَّالِث هِلَال بن رداد برَاء ثمَّ دالين مهملتين الأولى مِنْهُمَا مُشَدّدَة وَهُوَ طائي حمصي أخرج البُخَارِيّ هُنَا مُتَابعَة لعقيل وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي البُخَارِيّ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع وَلم يخرج لَهُ بَاقِي الْكتب السِّتَّة روى عَن الزُّهْرِيّ وَعنهُ ابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد قَالَ الذهلي كَانَ كَاتبا لهشام وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَلَا ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه وَإِنَّمَا ذكر ابْن أبي حَاتِم ثمَّ وَلَده مُحَمَّدًا إِذْ لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكتب السِّتَّة قَالَ ابْن أبي حَاتِم هِلَال بن رداد مَجْهُول وَلم يذكرهُ الكلاباذي فِي رجال الصَّحِيح رَأْسا الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَقد مر ذكره الْخَامِس يُونُس بن يزِيد بن مشكان بن أبي النجاد بِكَسْر النُّون الْأَيْلِي بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْقرشِي مولى مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان سمع خلقا من التَّابِعين مِنْهُم الْقَاسِم وَعِكْرِمَة وَسَالم وَنَافِع وَالزهْرِيّ وَغَيرهم وَعنهُ الْأَعْلَام جرير بن حَازِم وَهُوَ تَابِعِيّ فَهَذَا من رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَخلق مَاتَ سنة تسع وَخمسين وَمِائَة بِمصْر روى لَهُ الْجَمَاعَة وَفِي يُونُس سِتَّة أوجه ضم النُّون وَكسرهَا وَفتحهَا مَعَ الْهمزَة وَتركهَا وَالضَّم بِلَا همزَة أفْصح السَّادِس أَبُو عُرْوَة معمر بن أبي عَمْرو بن رَاشد الْأَزْدِيّ الْحَرَّانِي مَوْلَاهُم عَالم الْيمن شهد جَنَازَةالْحسن الْبَصْرِيّ وَسمع خلقا من التَّابِعين مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب وَقَتَادَة وَعنهُ جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَأَيوب وَيحيى بن أبي كثير وَهَذَا من رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر قَالَ عبد الرَّزَّاق سَمِعت مِنْهُ عشرَة آلَاف حَدِيث مَاتَ بِالْيمن سنة أَربع أَو ثَلَاث أَو اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة عَن ثَمَان وَخمسين سنة وَله أَوْهَام كَثِيرَة احتملت لَهُ قَالَ أَبُو حَاتِم صَالح الحَدِيث وَمَا حدث بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أغاليط وَضَعفه يحيى بن معِين فِي رِوَايَة عَن ثَابت وَمعمر بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ معمر بن رَاشد غير هَذَا بل لَيْسَ فيهمَا من اسْمه معمر غَيره نعم فِي صَحِيح البُخَارِيّ معمر بن يحيى بن سَام الضَّبِّيّ وَقيل إِنَّه بتَشْديد الْمِيم روى لَهُ البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْغسْل وَفِي الصَّحَابَة معمر ثَلَاثَة عشر وَفِي الروَاة معمر فِي الْكتب الْأَرْبَعَة سِتَّة وفيهَا معمر بِالتَّشْدِيدِ بخلف خَمْسَة وَفِي غَيرهَا خلق معمر بن بكار شيخ لمطين فِي حَدِيثه وهم وَمعمر بن أبي سرح مَجْهُول وَمعمر بن الْحسن الْهُذلِيّ مَجْهُول وَحَدِيثه مُنكر وَمعمر بن زَائِدَة لَا يُتَابع على حَدِيثه وَمعمر بن زيد مَجْهُول وَمعمر بن أبي سرح مَجْهُول وَمعمر بن عبد الله عَن شُعْبَة لَا يُتَابع على حَدِيثه وَالله أعلم (فَائِدَة) أَبُو صَالح فِي الروَاة فِي مَجْمُوع الْكتب السِّتَّة أَرْبَعَة عشر.
أَبُو صَالح عبد الْغفار.
أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح وَقد ذكرناهما.
أَبُو صَالح الْأَشْعَرِيّ الشَّامي.
أَبُو صَالح الْأَشْعَرِيّ أَيْضا.
وَيُقَال الْأنْصَارِيّ.
أَبُو صَالح الْحَارِثِيّ.
أَبُو صَالح الْحَنَفِيّ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن قيس وَيُقَال أَنه ماهان أَبُو صَالح الحوري لَا يعرف اسْمه أَبُو صَالح السمان اسْمه ذكْوَان.
أَبُو صَالح الْغِفَارِيّ سعيد بن عبد الرَّحْمَن.
أَبُو صَالح الْمَكِّيّ مُحَمَّد بن زنبور روى عَن عِيسَى بن يُونُس.
أَبُو صَالح مولى طَلْحَة بن عبد الله الْقرشِي التَّيْمِيّ.
أَبُو صَالح مولى عُثْمَان بن عَفَّان أَبُو صَالح مولى ضباعة اسْمه مينا.
أَبُو صَالح مولى أم هانىء اسْمه باذان.
وَكلهمْ تابعيون خلا ابْن زنبور وَكَاتب اللَّيْث.
وَبَعْضهمْ عد الْأَخير صحابيا وَله حَدِيث رَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة على تَقْدِير صِحَّته من يكنى بِهَذِهِ الكنية غَيره وَأما فِي غير الْكتب السِّتَّة فَإِنَّهُم جمَاعَة فَوق الْعشْرَة بَينهم الرامَهُرْمُزِي فِي فاصله قَوْله بوادره بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة جمع بادرة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق تضطرب عِنْد فزع الْإِنْسَان.
.


     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة تكون من الْإِنْسَان وَغَيره.


     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي الفريصة اللحمة الَّتِي بَين الْجنب والكتف الَّتِي لَا تزَال ترْعد من الدَّابَّة وَجَمعهَا فرائص.


     وَقَالَ  ابْن سَيّده فِي الْمُخَصّص البادرتان من الْإِنْسَان لحمتان فَوق الرغثاوين وأسفل التندوة وَقيل هما جانبا الكركرة وَقيل هما عرقان يكتنفانها قَالَ والبادرة من الْإِنْسَان وَغَيره.


     وَقَالَ  الهجري فِي أَمَالِيهِ لَيست للشاة بادرة ومكانها مردغة للشاة وهما الأرتبان تَحت صليفي الْعُنُق لَا عظم فيهمَا وَادّعى الدَّاودِيّ أَن البوادر والفؤاد وَاحِد.
قلت الرغثاوان بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا ثاء مُثَلّثَة قَالَ اللَّيْث الرغثاوان مضيفتان بَين التندوة والمنكب بجانبي الصَّدْر.



     وَقَالَ  شهر الرغثاء مَا بَين الْإِبِط إِلَى أَسْفَل الثدي مِمَّا يَلِي الْإِبِط وَكَذَلِكَ قَالَه ابْن الْأَعرَابِي قَوْله مردغة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة والغين الْمُعْجَمَة وَهِي وَاحِدَة المرادغ قَالَ أَبُو عمر وَهِي مَا بَين الْعُنُق إِلَى الترقوة قَوْله صليفي الْعُنُق بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالفاء قَالَ أَبُو زيد الصليفان رَأْسا الْفَقْرَة الَّتِي تلِي الرَّأْس من شقيهما