* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}
قوله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } «كم» في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله: «أَلَمْ يَرَوْا» لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده؛ من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى ألاَ يعتبرون بمن أهلكنا من الأُمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم؛ أي ألم يَعْرفوا ذلك. والقَرْن الأُمَّةُ من الناس، والجمع القرون؛ قال الشاعر:
فالقَرْن كل عالَم في عصره؛ مأخوذ من الاقتران، أي عالَم مقترن بعضهم إلى بعض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قَرْني ـ يعني أصحابي ـ ثم الذين يَلُونهم ثم الذين يَلُونهم " هذا أصح ما قيل فيه. وقيل: المعنى من أهل قَرْن فحذف، كقوله: { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ }. فالقَرْن على هذا مدة من الزمان؛ قيل: ستون عاماً، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون؛ وقيل: مائة؛ وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القَرْن مائة سنة؛ وٱحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بُسْر: «تَعيشُ قَرْناً» فعاش مائة سنة؛ ذكره النحاس. وأصل القرن الشيء الطالع كقَرْن ماله قَرْن من الحيوان. { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } خروج من الغيبة إلى الخطاب؛ عكسه
{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ }
[يونس: 22]. وقال أهل البصرة. أخبر عنهم بقوله: «أَلَمْ يَرَوْا» وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه؛ ثم خاطبهم معهم؛ والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه: وقلت لعبد الله ما أكرمك؛ ولو جاء على ما تقدّم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكّنه ومكّن له؛ فجاء باللغتين جميعاً؛ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } يريد المطر الكثير؛ عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزِل؛ ومنه قول الشاعر:
و «مِدْرَاراً» بناء دالٌّ على التكثير؛ كمِذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور؛ ومئناث للمرأة التي تلد الإناث؛ يُقال: درَّ اللّبنُ يدرُّ إذا أقبل على الحالب بكثرة. وٱنتصب «مِدْرَاراً» على الحال. { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أي من تحت أشجارهم ومنازلهم؛ ومنه قول فرعون:
{ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ }
[الزخرف: 51] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي بكفرهم فالذنوب سبب الإنتقام وزوال النعم. { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي أوجدنا؛ فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضاً.
إذا ذَهَبَ القرنُ الذي كنتَ فيهم | وخُلِّفتَ في قَرْنٍ فأنت غرِيبُ |
{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ }
[يونس: 22]. وقال أهل البصرة. أخبر عنهم بقوله: «أَلَمْ يَرَوْا» وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه؛ ثم خاطبهم معهم؛ والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه: وقلت لعبد الله ما أكرمك؛ ولو جاء على ما تقدّم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكّنه ومكّن له؛ فجاء باللغتين جميعاً؛ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } يريد المطر الكثير؛ عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزِل؛ ومنه قول الشاعر:
إذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بأرضِ قَوْمٍ |
{ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ }
[الزخرف: 51] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي بكفرهم فالذنوب سبب الإنتقام وزوال النعم. { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي أوجدنا؛ فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضاً.