Wednesday, 19 August 2015

سورة آل عمران آية 0007 - 00671 ت - تفسير الجامع لأحكام القرآن - تفسير القرطبي



* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 

{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

فيه تسع مسائل:
الأولى: خرّج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فٱحذروهم " وعن أبي غالب قال: كنت أمشي مع أبي أُمَامة وهو على حمارٍ له، حتى إذا ٱنتهى إلى دَرَج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال: ما هذه الرُّؤوس؟ قيل: هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق. فقال أبو أُمامة: كِلابُ النار كِلابُ النار كلابُ النارٰ شرُّ قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ـ يقولها ثلاثاً ـ ثم بكى. فقلت: ما يبكيك يا أبا أُمَامة؟ قال: رحمةً لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } إلى آخر الآيات. ثم قرأ
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ }
[آل عمران: 105]. فقلت: يا أبا أُمَامة، هُمْ هؤلاء؟ قال نعم. قلتُ: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إني إذَّاً لَجَريءٌ إني إذا لَجريءٰ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمسٍ ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيْه في أُذُنَيْه، قال: وإلاّ فصُمَّتا ـ قالها ثلاثاً ـ ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار ولتَزيدنّ عليهم هذه الأمة واحدة واحدةٌ في الجنة وسائرُهم في النار ". الثانية: ٱختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: المحكمات من آي القرآن ما عرِف تأويله وفهم معناه وتفسيره. والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما ٱستأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه. قال بعضهم: وذلك مِثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقد قدّمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أنّ الله تعالى أنزل القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء؛ الحديث. وقال أبو عثمان؛ المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزىء الصلاة إلا بها.
وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرأن كله محكم: لقوله تعالى:
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ }
[هود: 1] وقيل: كله متشابه؛ لقوله:
كِتَاباً مُّتَشَابِهاً }
[الزمر: 23].
قلت: وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ }
[هود: 1] أي في النظم والرصْف وأنه حق من عند الله. ومعنى «كتاباً مُتَشَابِهاً»، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا. وليس المراد بقوله «آيَاتٌ مُحُكَمَاتٌ» «وأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ» هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله
إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا }
[البقرة: 70] أي ٱلتبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحداً. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا رُدَّتْ الوجوه إلى وجه واحد وأبطِل الباقي صار المتشابه محكماً. فالمحكم أبداً أصل تردّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع. وقال ٱبن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الأنعام { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }
[الإسراء: 23] قال ٱبن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات. وقال ٱبن عباس أيضاً؛ المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدّمه ومؤخّره وأمثالُه وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ٱبن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ٱبتلى الله فيهنّ العباد؛ وقاله مجاهد وٱبن إسحاق. قال ٱبن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
[الإخلاص: 4]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ }
[طه: 82] والمتشابهات نحو
إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً }
[الزمر: 53] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ }
[طه: 82] وإلى قوله عز وجل؛
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }
[النساء: 48].
قلت: ما قاله النحاس يبين ما ٱختاره ٱبنُ عطية، وهو الجاري على وَضْع اللسان؛ وذلك أن المحْكَم آسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتْقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى ٱخْتَلّ أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم. وقال ٱبن خويزِمَنْدَاد: للمتشابه وجوهٌ، والذي يتعلق به الحكم ما ٱختلف فيه العلماء أيّ الآيتين نسخت الأُخرى؛ كقول عليّ وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتدّ أقْصَى الأجلين.
فكان عمر وزيد بن ثابت وٱبن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل، ويقولون: سورة النساء القصرى نسختْ أربعة أشهر وعَشْراً. وكان عليّ وابن عباس يقولان لم تنسخ. وكٱختلافهم في الوصية للوارث هل نُسخت أم لم تُنْسَخ. وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }
[النساء: 24] يقتضي الجمع بين الأقارب من مِلك اليمين، وقوله تعالى:
وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }
[النساء: 23] يمنع ذلك. ومنه أيضاً تعارض الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقْيسَة، فذلك المتشابه. وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملاً أو مجملاً يحتاج إلى تفسير؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه. والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعاً؛ كما قرىء:
وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ }
[المائدة: 6] بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه «في المائدة» إن شاء الله تعالى.
الثالثة: روى البخاريّ عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياءَ تختلفُ عليّ. قال: ما هو؟ قال:
فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ }
[المؤمنون: 101] وقال:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ }
[الصافات: 27] وقال:
وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }
[النساء: 42] وقال:
وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
[الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات
أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا }

وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
[النازعات: 27 ـ 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }
[فصلت: 9 ـ 11] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال:
وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
[الفتح:14].
وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }
[الفتح:7].
وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً }
[النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى. فقال ٱبن عباس: «فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ» في النفخة الأُولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأمّا قوله: { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق الله الأرض في يومين، ثم ٱستوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله:
وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
[النازعات: 30]. فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرِد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد. ويحك! فلا يختلِف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله.
الرابعة: قوله تعالى: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } لم تصرف «أُخَرُ» لأنها عدِلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منِعت الصرف. أبو عبيد: لم يصرِفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش الكسائيّ: لم تنصرف لأنها صفة. وأنكره المبرد أيضاً وقال: إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان. سيبويه: لا يجوز أن تكون أخَرُ معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وَأَمْسِ في قول من قال: ذهب أمسِ معدولاً عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولاً أيضاً عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة.
الخامسة: قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الذين رفع بالابتداء، والخبر «فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ». والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار. ويقال: زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى:
فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
[الصف: 5]. وهذه الآية تعمّ كل طائفة من كافر وزِنديق وجاهل وصاحب بِدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }: إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم.
قلت: قد مرّ هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعاً، وحسبك.
السادسة: قوله تعالى: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبِعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن وإضلالِ العوامّ، كما فعلته الزنادقة والقرامِطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلباً لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسِّمة الذِين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجِسمية حتى ٱعتقدوا أن البارىء تعالى جسم مجسم وصورة مصوّرة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلكٰ؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبِيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام:
الأوّل: لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير ٱستتابة.
الثاني: الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ٱرتدّ.
الثالث: ٱختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها. وقد عرف أنّ مذهب السلف ترك التعرّض لتأويلها مع قطعهم بٱستحالة ظواهرها، فيقولون أمِرّوها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملِها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها.
الرابع: الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ. وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد ٱستحق العتب بما ٱجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلاً إلى أن يقصدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل. فمن ذلك ما حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن زيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبِيغ بن عِسل قدِم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعدّ له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبِيغ. فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشَجّه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب ما كنت أجدُ في رأسي. وقد ٱختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في «الذاريات». ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. ومعنى { ٱبْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردّوا الناس إلى زيغِهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى { ٱبتغاء تأويله } أنهم طلبوا تأويل بعثِهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ }
[الأعراف: 53] ـ أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب ـ { يَقُولُ الَّذينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } ـ أي تركوه ـ
قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ }
[الأعراف: 53] أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرّسل. قال: فالوقف على قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله.
السابعة: قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك { الۤمۤ } ، فإن كنت صادقاً في مقالتك فإن ملك أُمّتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألِف في حساب الجّمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }.
والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه. وٱشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأوّلته تأويلاً أي صيرته. وقد حدّه بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء ٱحتمالٍ في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله
لاَ رَيْبَ فِيهِ }
[البقرة: 1] أي لا شك. وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال: فسرت الشيء (مخففاً) أفْسِره (بالكسر) فَسْراً. والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين. أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك. وكقول ٱبن عباس في الجد أبا؛ لأنه تأوّل قول الله عز وجل:
يَابَنِيۤ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
[الأعراف: 26].
الثامنة: قوله تعالى: { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } ٱختلف العلماء في { والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم } هل هو ٱبتداء كلامٍ مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع. فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأنّ الكلام تَمّ عند قوله { إِلاَّ ٱللَّهُ } هذا قول ابن عمرو بن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو مذهب الكِسائيّ والأخفش والفرّاء وأبي عبيد وغيرهم. قال أبو نهِيك الأسديّ: إنكم تصِلون هذه الآية وإنها مقطوعة. وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم { آمَنَّا به كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }. وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبريّ نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس. و { يقولون } على هذا خبر { الراسخون }. قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين: محكماً ومتشابِهاً؛ فقال عز من قائل: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ - إلى قوله - كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } فأعْلَمَ أنّ المتشابه من الكتاب قد ٱستأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحَدٌ غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه. ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التّام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } وأن ما بعده ٱستئناف كلامٍ آخر، وهو قوله { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }. وروي ذلك عن ٱبن مسعود وأُبيّ بن كعب وٱبن عباس وعائشة. وإنما روى عن مجاهد أنه نَسَق { الراسخون } على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. وٱحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع { يقولون } نصب على الحال.
وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكباً، بمعنى أقبل عبد الله راكباً؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان يصلح حالاً له؛ كقول الشاعر ـ أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب ـ:
أرسلتُ فيها قَطِماً لُكَالِكَا   يَقْصُر يَمْشِي ويطول بَارِكا
أي يقصر ماشياً؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفى الله سبحانه شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك. ألا ترى قوله عز وجل:
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }
[النمل: 65] وقوله:
لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ }
[الأعراف: 187] وقوله:
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[القصص: 88]، فكان هذا كله مما ٱستأثر الله سبحانه بعلمه لا يُشْرِكه فيه غيره. وكذلك قوله تبارك وتعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }. ولو كانت الواو في قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ } للنسق لم يكن لقوله: { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فائدة. والله أعلم.
قلت: ما حكاه الخطابيّ من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ٱبن عباس أن الراسخين معطوف على ٱسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. و { يقولون } على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال:
الريحُ تَبْكِـي شَجْـوَها   والبرقُ يلْمَـع في الغَمامَـهْ
وهذا البيت يحتمل المعنيين؛ فيجوز أن يكون «والبرق» مبتدأ، والخبر «يلمع» على التأويل الأوّل، فيكون مقطوعاً مما قبله. ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، و «يلمع» في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامِعاً. وٱحتجّ قائلو هذه المقالة أيضاً بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم؛ فكيف يمدحهم وهم جهّال! وقد قال ٱبن عباس: أنا ممن يعلم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممن يعلم تأويله؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قلت: وقد ردّ بعض العلماء هذا القول إلى القول الأوّل فقال: وتقدير تمام الكلام { عِند اللَّهِ } أن معناه وما يعلم تأويلَه إلا الله يعني تأويلَ المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنّا به كلٌّ من عند ربنا بما نُصِب من الدلائل في المُحْكَم ومكّن من ردّه إليه. فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كلٌّ من عند ربنا، وما لم يحِط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصّالح فعلمه عند ربِّنا. فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ٱبن عباس: لا أدري ما الأوّاهُ ولا ما غِسْلِين، قيل له: هذا لا يلزم؛ لأن ٱبن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه.
وجوابٌ أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر. ورجّح ٱبن فورك أنّ الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس: " اللَّهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل " ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله { والرّاسِخُونَ في الْعِلْم }. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المُحْكَم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع!. لكن المتشابه يتنوّع، فمنه ما لا يعلم أَلبتّة كأمر الرُّوح والساعة مما ٱستأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى عِلمه أحد لا ٱبن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الحُذَّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتأوّل ويُعلم تأويله المستقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم؛ كقوله في عيسى:
وَرُوحٌ مِّنْهُ }
[النساء: 171] إلى غير ذلك. فلا يُسمّى أحدٌ راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قُدّر له. وأمّا من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخالُ الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح.
والرسوخ: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر:
لقد رَسَختْ في الصّدْر مِنِّي مودّةٌ   لِلَيْلَى أبَتْ آياتُها أنْ تَغَيَّرا
ورسَخ الإيمان في قلب فلان يَرْسَخ رسوخاً. وحكى بعضهم: رسخ الغَدِيرُ: نَضَب ماؤه؛ حكاه ٱبن فارس فهو من الأضداد. ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه. وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: " هو مَنْ بَرّتْ يمينُه وصدَق لسانُه وٱستقام قلبه " فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه والله يقول:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }
[النحل: 44] فكيف لم يجعله كله واضحاً؟ قيل له: الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان كله واضحاً لم يظهر فضلُ بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنِّف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً وبعضه مشكلاً، ويترك للجُثْوَة موضعاً؛ لأن ما هان وجودُه قلّ بهاؤه. والله أعلم.
التاسعة: قوله تعالى: { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى مُحكمِه ومُتشابهه؛ والتقدير: كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة { كلّ } عليه؛ إذْ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي ما يقول هذا ويُؤمنُ ويقفُ حيث وقَفَ ويَدَع ٱتّباع المتشابه إلا ذو لُبٍّ، وهو العقل. ولُبّ كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لُبّ. و { أولوا } جمع ذو.