*
تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق
يقول تعالى مخبراً: أنه مالك الضر والنفع، وأنه
المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، { وَإِن يَمْسَسْكَ
ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ
فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ } كقوله تعالى:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ
لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ }
[فاطر: 2]، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يقول: "
اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد
" ولهذا قال تعالى: {
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } أي: وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له
الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله
وكبريائه، وعظمته وعلوه، وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت
قهره وحكمه، { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } أي في جميع أفعاله { ٱلْخَبِيرُ } بمواضع
الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق، ثم قال: { قُلْ
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } أي: من أعظم الأشياء شهادة؟ { قُلِ ٱللَّهِ
شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي: هو العالم بما جئتكم به، وما أنتم قائلون لي،
{ وَأُوحِيَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي:
وهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ }
[هود: 17] قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد
الأشج، حدثنا وكيع وأبو أسامة، وأبو خالد، عن موسى ابن عبيدة، عن محمد بن كعب، في
قوله: { وَمَن بَلَغَ } من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد
أبو خالد: وكلمه، ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر: عن محمد بن كعب، قال: من بلغه
القرآن، فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة،
في قوله تعالى: { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " بلغوا عن
الله، فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله "وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينذر بالذي
أنذر، وقوله: { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } أيها المشركون أي { أَنَّ مَعَ
ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ } كقوله:
{ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ }
[الأنعام: 150] { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ
وَٰحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ثم قال تعالى مخبراً عن أهل
الكتاب: أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به، كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار
والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى
الله عليه وسلم ونعته وصفته، وبلده ومهاجره وصفة أمته، ولهذا قال بعده: {
ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي: خسروا كل الخسارة { فَهُمْ لاَ
يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم
الزمان وحديثه ثم قال: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
أَوْ كَذَّبَ بِآيَٰتِهِ } أي: لا أظلم ممن تقوَّل على الله، فادعى أن الله أرسله،
ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله، وحججه وبراهينه ودلالاته، {
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا
المكذب.