*
تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق
{ وَأَنَّا مِنَّا
ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً }
* { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ
ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }
قوله تعالى: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ
وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } هذا من قول الجنّ، أي قال بعضهم لبعض لما دَعوا أصحابهم
إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل ٱستماع القرآن منّا الصالحون
ومنّا الكافرون. وقيل: «وَمِنّا دُونَ ذَلِكَ» أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو
أشبه من حمله على الإيمان والشرك. { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي فِرقاً شتّى؛
قاله السُّديّ. الضحاك: أدياناً مختلفة. قتادة: أهواءً متباينة؛ ومنه قول الشاعر:
القَابِضُ الباسِطُ
الْهادِي بِطاعتِهِ
|
|
في فِتْنَةِ الناسِ
إِذْ أَهْوَاؤُهُمْ قِدَدُ
|
والمعنى: أي لم يكن كل الجنّ كفاراً بل كانوا
مختلفين: منهم كفّار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيّب:
كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السّدّي في قوله تعالى: { طَرَآئِقَ قِدَداً
} قال: في الجنّ مثَلكم قَدَرية، ومُرْجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسُنّية. وقال
قوم: أي وإِنا بعد ٱستماع القرآن مختلفون: منّا المؤمنون ومنّا الكافرون. أي ومنّا
الصالحون، ومنّا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأوّل أحسن؛ لأنه كان في الجنّ من
آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا:
{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }
[الأحقاف: 30] وهذا يدلّ على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقاً مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتّى. والقِدد: نحوٌ من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قِدّة. يقال: لكل طريق قِدّة، وأصلها من قَدّ السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أَرْبَد:
{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }
[الأحقاف: 30] وهذا يدلّ على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقاً مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتّى. والقِدد: نحوٌ من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قِدّة. يقال: لكل طريق قِدّة، وأصلها من قَدّ السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أَرْبَد:
لم تَبْلُغِ العينُ
كلَّ نَهْمَتِها
|
|
ليلةَ تُمْسِي الجِيادُ
كالقِددِ
|
وقال آخر:
ولَقَدْ قُلْتُ وزَيدٌ
حاسِرٌ
|
|
يومَ وَلَّتْ خيلُ
عَمْرو قِدَدَا
|
والقِدّ بالكسر: سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ؛
ويقال: ماله قِدٌّ ولا قِحْف؛ فالقِدُّ: إناء من جلد، والقِحف: من خشب.
قوله تعالى: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظنّ في قوله تعالى:
{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ }
[الجن: 5]،
{ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ }
[الجن: 7] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله: أنَّا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و { هَرَباً } مصدر في موضع الحال أي هاربين.
قوله تعالى: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظنّ في قوله تعالى:
{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ }
[الجن: 5]،
{ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ }
[الجن: 7] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله: أنَّا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و { هَرَباً } مصدر في موضع الحال أي هاربين.