Thursday, 15 October 2015

سورة الجن آية 0011 - 01250 ت - تفسير فتح القدير - تفسير الشوكاني

* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق 

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } * { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } * { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } * { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } * { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً} * { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } * { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } * { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } * { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } * { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } * { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } * { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } * { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }
قوله: { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ } قرأ الجمهور: { أوحى } رباعياً. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو إياس، والعتكي عن أبي عمرو: " وحي " ثلاثياً، وهما لغتان. واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم؛ لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك: أوحي إليّ على لسان جبريل { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } ومثله قوله:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ }
[الأحقاف: 29] ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي
ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1] وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا. قوله: { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } هذا هو القائم مقام الفاعل، ولهذا فتحت أنّ، والضمير للشأن، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة. قال الضحاك: والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين. وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. قيل: هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية. وقيل: نوع من الأرواح المجرّدة. وقيل: هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها.

وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك:
وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }
[الملك: 5] وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة:
وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }
[الجن: 15] وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها، وإن صرفوا عن النار. والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمٰن:
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ }
[الرحمٰن: 56] وفي سورة الرحمٰن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم، بل الرسل جميعاً من الإنس، وإن أشعر قوله:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ }
[الزمر: 71] بخلاف هذا، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة.

{ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } أي: قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، أي: سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته. وقيل: عجباً في مواعظه. وقيل: في بركته، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة، أو على حذف المضاف، أي: ذا عجب، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي: معجباً { يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ } أي: إلى مراشد الأمور، وهي الحقّ والصواب، وقيل: إلى معرفة الله، والجملة صفة أخرى للقرآن { فآمنا به } أي: صدّقنا به بأنه من عند الله { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } من خلقه، ولا نتخذ معه إلٰهاً آخر؛ لأنه المتفرّد بالربوبية، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به، ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع، وقتلهم أقبح مقتل، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون.
{ وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } قرأه حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص، وعلقمة، ويحيـى بن وثاب، والأعمش، وخلف، والسلمي: { وأنه تعالى } بفتح أنّ، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها، وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله:
وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ }
[
الجن: 19]، وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلاّ في قوله:
وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ }
[
الجن: 18] فإنهم اتفقوا على الفتح، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع، فعلى العطف على محل الجار، والمجرور في { فآمنا به } كأنه قيل: فصدّقناه، وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع، فعلى العطف على { إنا سمعنا } ، أي: فقالوا: إنا سمعنا قرآناً، وقالوا: إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم، وأبو عبيد قراءة الكسر؛ لأنه كله من كلام الجنّ ومما هو محكيّ عنهم بقوله: { فقالوا إنا سمعنا }. وقرأ أبو جعفر، وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع، وهي: { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ } قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجنّ. وقرأ الجمهور:
وأنه لما قام عبد الله }
[
الجن: 19] بالفتح؛ لأنه معطوف على قوله: { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }. وقرأ نافع، وابن عامر، وشيبة، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفاً على فآمنا به بذلك التقدير السابق، واتفقوا على الفتح في { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } ، كما اتفقوا على الفتح في
أن ٱلْمَسَـٰجِدَ }
[
الجن: 18] وفي
وَإِنَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ }
[
الجن: 16] واتفقوا على الكسر في: { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } و
قُلْ إِنَّمَا ٱدْعُواْ رَبّى }
[
الجن: 20] و:
قُلْ إِنْ أَدْرِى }
[
الجن: 25] و:
قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ }
[
الجن: 21]. والجدّ عند أهل اللغة العظمة والجلال، يقال: جدّ في عيني أي: عظم، فالمعنى: ارتفع عظمة ربنا وجلاله، وبه قال عكرمة، ومجاهد، وقال الحسن: المراد تعالى غناه، ومنه قيل للحظ، جدّ: ورجل مجدود أي: محظوظ، وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيد، والخليل أي: لا ينفع ذا الغنى منك الغنى أي: إنما تنفعه الطاعة، وقال القرطبي، والضحاك: جدّه آلاؤه، ونعمه على خلقه.
وقال أبو عبيدة، والأخفش: ملكه وسلطانه. وقال السديّ: أمره. وقال سعيد بن جبير: { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } أي: تعالى ربنا وقيل: جدّه قدرته. وقال محمد بن عليّ بن الحسين، وابنه جعفر الصادق، والربيع بن أنس: ليس لله جدّ، وإنما قالته الجنّ للجهالة. قرأ الجمهور: " جدّ " بفتح الجيم، وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، ومحمد بن السميفع بكسر الجيم، وهو ضدّ الهزل، وقرأ أبو الأشهب: " جدي ربنا " أي: جدواه ومنفعته. وروي عن عكرمة أيضاً أنه قرأ بتنوين (جدّ) ورفع (ربنا) على أنه بدل من جدّ { مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً } هذا بيان لتعالى جدّه سبحانه. قال الزجاج: تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ونزّهوا الله سبحانه عنهما.

{
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } الضمير في { أنه } للحديث، أو الأمر، { وسفيهنا } يجوز أن يكون اسم كان، و { يقول } الخبر، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول، والجملة خبر كان، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث، أو الأمر، ويجوز أن تكون كان زائدة، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم. وقال مجاهد، وابن جريج، وقتادة: أرادوا به إبليس، والشطط: الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك: الجور، وقال الكلبي: الكذب، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ، ومنه قول الشاعر:
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا
   
وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط
{ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي: إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن، فعلمنا بطلان قولهم، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول؛ لأن الكذب نوع من القول، أو صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً كذباً. وقرأ يعقوب، والجحدري، وابن أبي إسحاق: " أن لن تقوّل " من التقوّل، فيكون على هذه القراءة كذباً مفعول به { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } قال الحسن، وابن زيد، وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بوادٍ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل: كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } أي: زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقاً أي: سفهاً وطغياناً، أو تكبراً وعتوّاً، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقاً؛ لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون: سدنا الجنّ والإنس.
وبالأوّل قال مجاهد، وقتادة، وبالثاني قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم، ورجل رهق: إذا كان كذلك، ومنه قوله:
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ }
[
المعارج: 44] أي: تغشاهم، ومنه قول الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
   
هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا
يعني: إثماً. وقيل: الرهق: الخوف، أي: أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفاً منهم. وقيل: كان الرجل من الإنس يقول: أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ، فيكون قوله: { بِرِجَالٍ } وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس، أي: يعوذون بهم من شرّ الجن، وهذا فيه بعد، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاركة. { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } هذا من قول الجنّ للإنس، أي: وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث. وقيل المعنى: وإن الإنس ظنوا، كما ظننتم أيها الجنّ، والمعنى: أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون. { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء } هذا من قول الجنّ أيضاً، أي: طلبنا خبرها، كما به جرت عادتنا { فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ حَرَساً } من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، والحرس جمع حارس، و { شَدِيداً } صفة لـ { حرساً } أي: قوياً { وَشُهُباً } جمع شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله:
وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ }
[
الملك: 5] ومحل قوله: { مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون متعدّياً إلى مفعول واحد، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد، وحرساً منصوب على التمييز، ووصفه بالمفرد اعتباراً باللفظ، كما يقال: السلف الصالح، أي: الصالحين.

{
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ } أي: وأنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع، أي: مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وللسمع متعلق، بـ { نقعد } أي: لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد، أي: مقاعد كائنة للسمع، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك؛ ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء؛ فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة، وهو معنى قوله: { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي: أرصد له ليرمى به، أو لأجله لمنعه من السماع، وقوله: { ٱلئَـٰنَ } هو ظرف للحال، واستعير للاستقبال، وانتصاب { رصداً } على أنه صفة لـ { شهاباً } ، أو مفعول له، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس.
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك. وحكى الواحدي عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنوّ إلى السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، وقد تقدّم البحث عن هذا { وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي: لا ندري أشرّ أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء، أم أراد بهم ربهم رشداً، أي: خيراً. قال ابن زيد: قال إبليس: لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً، وارتفاع { أَشِرٌ } على الاشتغال، أو على الابتداء، وخبره ما بعده، والأوّل أولى، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ندري، والأولى أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ } أي: قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي: قوم دون ذلك، أي: دون الموصوفين بالصلاح. وقيل: أراد بالصالحون المؤمنين، وبمن هم دون ذلك الكافرين، والأوّل أولى، ومعنى { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أي: جماعات متفرقة وأصنافاً مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، وصار القوم قدداً: إذا تفرقت أحوالهم، ومنه قول الشاعر:
القابض الباسط الهادي لطاعته
   
في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى: كنا ذوي طرائق قدداً، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد:
لم تبلغ العين كل نهمتها
   
يوم تمشي الجياد بالقدد
وقوله أيضاً:
ولقد قلت وزيد حاسر
   
يوم ولت خيل عمرو قدداً
قال السديّ، والضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة. وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد. قال الحسن: الجنّ أمثالكم قدرية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة، وكذا قال السديّ: { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلأَرْضِ } الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، أي: وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها، ولن نفوته إن أراد بنا أمراً { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي: هاربين منها، فهو مصدر في موضع الحال.
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ } يعنون القرآن { آمنا به } وصدّقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي: لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه، ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، والبخس النقصان، والرهق العدوان والطغيان، والمعنى: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، وقد تقدّم تحقيق الرهق قريباً. قرأ الجمهور: { بخساً } بسكون الخاء. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: " فلا يخف " جزماً على جواب الشرط، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء، والتقدير: فهو لا يخاف، والأمر ظاهر.

وقد أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وغيرهم عن ابن عباس قال: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم { فَقَالُواْ } يا قومنا { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } وإنما أوحي إليه قول الجنّ.

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } قال: كانوا من جنّ نصيبين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } قال: آلاؤه وعظمته. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أمره وقدرته. وأخرج ابن مردويه، والديلمي، قال السيوطي بسندٍ واهٍ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً في قوله: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } قال: إبليس. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى منادٍ يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } قال: إثماً. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فلا يكون بشيء أشدّ ولعاً منهم بهم، فذلك قوله: { فَزَادوهُمْ رَهَقاً }.

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلاً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال لهم: ما هذا إلاّ من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } يقول: منا المسلم ومنا المشرك، و { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أهواء شتى. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } قال: لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته.