Sunday, 25 October 2015

سورة هود آية 0018 - 01250 ت - تفسير فتح القدير - تفسير الشوكاني

* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق 

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } * { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } *{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذباً بقولهم لأصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: الملائكة بنات الله، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم. فالمعنى على هذا: لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم، والإشارة بقوله: { أولئك } إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ، وهو مبتدأ، وخبره { يعرضون على ربهم } فيحاسبهم على أعمالهم، أو المراد بعرضهم: عرض أعمالهم { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } الأشهاد: هم الملائكة الحفظة، وقيل: المرسلون. وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق. والمعنى: أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض: هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرّحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف. قوله: { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } هذا من تمام كلام الأشهاد أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه، قاله بعدما قال الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم }. والأشهاد جمع شهيد، ورجحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله:
وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
[البقرة: 143]
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً }
[النساء: 41]، وقيل: هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد.

ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شرّاً: أي طلبته لك والحال أنهم { بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } أي: يصفونها بالعوج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين، فكيف يصدّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتدّ به بالنسبة إلى عظيم كفرهم { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات { لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزال بأسه بهم، وجملة { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم، ليكون عذاباً مضاعفاً.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد ويعقوب «يضعف» مشدّداً { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } أي: أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار، لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله: { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً، ويجوز أن تكون «ما» هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلاً عليه { أُوْلَـٰئِكَ } المتصفون بتلك الصفات { ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي: ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران.

قوله: { لاَ جَرَمَ } قال الخليل وسيبويه: «لا جرم» بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء. وروي عن الخليل والفراء أنها: بمنزلة قولك: لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأنّ منصوبة بجزم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة. وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم لا قطع قاطع { أَنَّهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } قالوا: والجرم: القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم، ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي: صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله، وغير ذلك من خصال الإيمان { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَىٰ رَبّهِمْ } أي: أنابوا إليه، وقيل: خشعوا. وقيل: خضعوا. قيل: وأصل الإخبات: الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات الصالحة { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }.
قوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبّه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في { والأصمّ } ، وفي { والسميع } لعطف الصفة على الصفة، كما فى قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
   
والاستفهام في قوله: { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله: { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالاً وصفة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.

وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ } قال: الكافر والمنافق { أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبّهِمْ } فيسألهم عن أعمالهم { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا { هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } شهدوا به عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، قال: " الأشهاد: الملائكة ". وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، نحوه، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: ربّ أعرف، حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } " وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال: هو محمد يعني سبيل الله، صدّت قريش عنه الناس. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يعني: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } الآية قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه قال: { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } وأما في الآخرة فإنه قال
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَـٰشِعَةٌ }
[
القلم: 42، 43]. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { *أخبتوا } قال: خافوا. وأخرج ابن جرير، عنه، قال: الإخبات: الإنابة. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، قال الإخبات: الخشوع والتواضع. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: اطمأنوا. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ } قال: الكافر { وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } قال: المؤمن.