Friday, 30 October 2015

سورة الأنعام آية 0074 - 00606 ت - تفسير مفاتيح الغيب التفسير الكبير - تفسير الرازي

* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين.

واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام، والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة. كما قال:
أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }
[البقرة: 40] فإبراهيم وفى بعهد العبودية، والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى. أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله:
وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }
[البقرة: 124] وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية. والثانية قوله تعالى:
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[البقرة: 131] وأما التفصيل: فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة.

فالمقام الأول: في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له:
يَـٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً }
[مريم: 42].

والمقام الثاني: مناظرته مع قومه وهو قوله:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ }
[الأنعام: 76].

والمقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، فقال:
رَبّىَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ }
[البقرة: 258].

والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بالفعل، وهو قوله تعالى:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ }
[الأنبياء: 58] ثم إن القوم قالوا:
حَرّقُوهُ وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ }
[الأنبياء: 68] ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال:
إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ }
[الصافات: 102] فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان، لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال:
وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلأَخِرِينَ }
[الشعراء: 84] فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال، فلا جرم أجاب دعاءه، وقبل نداءه وجعله مقبولاً لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة، ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب.

المسألة الثانية: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله. ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب، ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه، ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع، ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء، وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل، وهؤلاء هم الدهرية الخالصة، وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضاً عبدة الأصنام.
واعلم أن هنا بحثاً لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام، والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا:
لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً ولا سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }
[
نوح: 23] وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجوداً قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري، والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره، فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم خالقاً للسماء والأرض، بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة، ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيراً للفوائد.

فالتأويل الأول: وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر، وبين أحوال هذا العالم. وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنماً من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب.
وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان: أحدهما: إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى:
أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ }
[
الأعراف: 54] بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة. والثاني: أنها بتقدير أنها تفعل شيئاً ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع، والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل، ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له.

الوجه الثاني: في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضاً صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات، فلا جرم اتخذوا صوراً وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله، وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان.

الوجه الثالث: في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه. وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك، ومدبر الجبال ملك آخر، ومدبر الغيوم والأمطار ملك، ومدبر الأرزاق ملك، ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنماً مخصوصاً وهيكلاً مخصوصاً ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات، وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة، ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم.
المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر، ومنهم من قال اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، ومن الملحدة من جعل هذا طعناً في القرآن. وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب، وللعلماء ههنا مقامان:

المقام الأول: أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر، وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح. فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضاً، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن.

المقام الثاني: سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا ههنا وجوه:

الوجه الأول: لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين، فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباً له، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم. فالله تعالى ذكره بالاسم، ويحتمل أن يكون بالعكس، وهو أن تارح كان اسماً أصلياً وآزر كان لقباً غالباً. فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب.

الوجه الثاني: أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتهم، فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطىء كأنه قيل، وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطىء كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق، وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية، وهو أيضاً فارسية أصلية.

واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب.

والوجه الثالث: أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم، وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين: أحدهما: أنه جعل نفسه مختصاً بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب. قال الله تعالى:
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ }
[
الإسراء: 71] وثانيها: أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

الوجه الرابع: أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماً له، والعم قد يطلق عليه اسم الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا:
نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ }
[
البقرة: 133] ومعلوم أن إسمعيل كان عماً ليعقوب. وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا. واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد ألبتة، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات، والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه، فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم.
المسألة الرابعة: قالت الشيعة: إن أحداً من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافراً وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافراً وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام. وما كان والداً له واحتجوا على قولهم بوجوه:

الحجة الأولى: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه: منها قوله تعالى:
ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ }
[
الشعراء: 218، 219].

قيل معناه: إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير: فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين. وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً.

فإن قيل: قوله: { وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ } يحتمل وجوهاً أخر: أحدها: إنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم. فالمراد من قوله: { وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ } طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين. وثانيها: المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه: كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود. وثالثها: أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين. ورابعها: المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام: " أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري " فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.

والجواب: لفظ الآية محتمل للكل، فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي. فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود، ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " وقال تعالى:
إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }
[
التوبة: 28] وذلك يوجب أن يقال: إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين.

إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً، وثبت أن آزر كان مشركاً. فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر.

الحجة الثانية: على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام. أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء. ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز، وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم، إنما قلنا: إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين: الأول: أنه قرىء { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءَازَرَ } بضم آزر وهذا يكون محمولاً على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء.
الثاني: أنه قال لآزر: { إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء. فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء، وإنما قلنا: أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه: الأول: قوله تعالى:
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً }
[
الإسراء: 23] وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم، قال تعالى:
فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا }
[
الإسراء: 23] وهذا أيضاً عام. والثاني: أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال
فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }
[
طه: 44] والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون. فههنا الوالد أولى بالرفق. الثالث: أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب، أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول. ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام:
وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }
[
النحل: 125] فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة؟ الرابع: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم، فقال:
إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ }
[
هود: 75] وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب؟ فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عماً له، فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسمعيل بكونه أباً ليعقوب مع أنه كان عماً له. وقال عليه السلام: " ردوا علي أبي " يعني العم العباس وأيضاً يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب. والدليل عليه قوله تعالى:
وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ }
[
الأنعام: 84] إلى قوله:
وعِيسَى }
[
الأنعام: 85] فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جداً لعيسى من قبل الأم. وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافراً وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافراً وكان والد إبراهيم عليه السلام. وأيضاً قوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لاِبِيهِ } إلى قوله:
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }
[
التوبة: 114] وذلك يدل على قولنا، وأما قوله { وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ } قلنا: قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله تحمل هذه الآية على الكل، قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز، وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز، وأما قوله عليه السلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحاً، أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام.
قلنا: لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط. والله أعلم.

المسألة الخامسة: قرىء { ءَازَرَ } بالنصب وهو عطف بيان لقوله: { لاِبِيهِ } وبالضم على النداء، وسألني واحد فقال: قرىء { ءَازَرَ } بهاتين القراءتين، وأما قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لاِخِيهِ هَـٰرُونَ } قرىء { هَـٰرُونَ } بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق؟ قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى. وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصراً على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجراً له عن ذلك القبيح، وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هرون على قومه فما كان الاستخفاف لائقاً بذلك الموضع، فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة.

المسألة السادسة: اختلف الناس في تفسير لفظ «الإله» والأصح أنه هو المعبود، وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة، ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه: { أتتخذ أصناماً آلهة } وذلك يدل على أن تفسير لفظ «الإله» هو المعبود.

المسألة السابعة: اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين: الأول: أن قوله: { أتتخذ أصناماً آلهة } يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة؛ إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } والثاني: أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً، فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها ألبتة.

المسألة الثامنة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع. قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال، ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال. لأن ذلك المذهب كان متقدماً على دعوة إبراهيم. ولقائل أن يقول: إنه كان ضلالاً بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام.