Friday, 20 November 2015

سورة الشورى آية 0011 - 00685 ت - تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل - تفسير البيضاوي

* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق 

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } * { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } * { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } * { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } * {ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } * { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } * { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ }
{ فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خبر آخر لـ { ذٰلِكُمْ } أو مبتدأ خبره. { جَعَلَ لَكُمُ } وقرىء بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله. { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم. { أَزْوٰجاً } نساء. { وَمِنَ ٱلأَنْعَـٰمِ أَزْوٰجاً } أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً، أو خلق لكم منَّ الأنعام أصنافاً أو ذكوراً وأناثاً. { يَذْرَؤُكُمْ } يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس، و { ٱلأَنْعَـٰمِ } على تغليب المخاطبين العقلاء. { فِيهِ } في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث والتكثير. { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: أَلاَ وَفِيهِمْ الطَّيِّبُ الطَاهِرُ لِذَاتِهِ. ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى { لَّيْسَ مّثْلِهِ } غير أنه آكد لما ذكرناه. وقيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة. { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } لكل ما يسمع ويبصر.

{ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خزائنها. { يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ } يوسع ويضيق على وقف مشيئته. { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } فيفعله على ما ينبغي.

{ شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ } وهو الإِيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول { شَرَعَ } ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع مختلفة كما قال:
لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }
[المائدة: 48] { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ } عظم عليهم. { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من التوحيد. { ٱللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ } يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين. { وَيَهْدِى إِلَيْهِ } بالإِشارة والتوفيق. { مَن يُنِيبُ } يقبل إليه.

{ وَمَا تَفَرَّقُواْ } يعني الأمم السالفة. وقيل أهل الكتاب لقوله:
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }
[البينة: 4] { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ ٱلعِلْمُ } العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. { بَغْياً بَيْنَهُمْ } عداوة أو طلباً للدنيا.


{
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَّبّكَ } بالإِمهال. { إِِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا. { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِهِمْ } يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. وقرىء «ورثوا» و «ورثوا». { لَفِى شَكٍّ مّنْهُ } من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن. { مُرِيبٍ } مقلق أو مدخل في الريبة.

{
فَلِذَلِكَ } فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. { فَٱدْعُ } إلى الاتفاق على الملة الحنيفية أو الاتباع لما أوتيت، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإِفـادة الصلة والتعليل. { وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى. { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } الباطلة. { وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ } يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. { وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } في تبليغ الشرائع والحكومات، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية. { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } خالق الكل ومتولي أمره. { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ } وكل مجازى بعمله. { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } يوم القيامة. { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } مرجع الكل لفصل القضاء، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال.

{
وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى ٱللَّهِ } في دينه. { مِن بَعْدِ مَا ٱسْتُجِيبَ لَهُ } من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به. { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ } زائلة باطلة. { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } لمعاندتهم. { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } على كفرهم.

{
ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } جنس الكتاب. { بِٱلْحَقّ } ملتبساً بعيداً من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام. { وَٱلْمِيزَانَ } والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوى بين الناس، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب، أو لأن الساعة بمعنى البعث

{
يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } استهزاء. { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب.


{
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ } أي الكائن لا محالة. { أَلآَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فِى ٱلسَّاعَةِ } يجادلون فيها من المرية، أو من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. { لَفِى ضَلَـٰلِ بَعِيدٍ } عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

{
ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } بر بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. { يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } أي يرزقه كما يشاء فيخص كلاً من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. { وَهُوَ ٱلْقَوِىُّ } الباهر القدرة. { ٱلْعَزِيزُ } المنيع الذي لا يغلب.