Friday, 20 November 2015

سورة الشورى آية 0011 - 01250 ت - تفسير فتح القدير - تفسير الشوكاني

* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق 

حـمۤ } * { عۤسۤقۤ } * { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ } * { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } *{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } * { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } * { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } * { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قوله: { حـم. عسق } قد تقدّم الكلام في أمثال هذه الفواتح، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع: { حـم عسق } ، ولم يقطع: { كۤهيعۤصۤ } ، فقال: لأنها سور أوّلها { حمۤ } ، فجرت مجرى نظائرها، فكأن { حمۤ } مبتدأ، و { عۤسۤقۤ } خبره، ولأنهما عدا آيتين. وأخواتهما مثل: { كۤهيعۤصۤ } ، و { المرۤ } ، و { المص } آية واحدة. وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في: { كۤهيعۤصۤ } ، وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في { حمۤ } ، فقيل معناها: حمۤ، أي: قضى كما تقدّم. وقيل: إن " ح " حلمه، و " م " مجده، و " ع " علمه، و " س " سناه، و " ق " قدرته، أقسم الله بها. وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدلّ عليه دليل، ولا جاءت به حجة، ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له، والحق ما قدّمناه لك في فاتحة سورة البقرة. وقيل: هما اسمان للسورة. وقيل: اسم واحد لها، فعلى الأوّل يكونان خبرين لمبتدأ محذوف، وعلى الثاني يكون خبراً لذلك المبتدأ المحذوف. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: (حمۤ * سقۤ).

{ كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله أي: مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد، والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة. وقيل: إن حمۤ عۤسۤقۤ، أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله: { كَذٰلِكَ } إليها. قرأ الجمهور: { يوحي } بكسر الحاء مبنياً للفاعل، وهو: الله. وقرأ مجاهد، وابن كثير، وابن محيصن بفتحها مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحى هو إليك، أو القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة أي: يوحى إليك هذا اللفظ، أو القرآن، أو مصدر يوحي، وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله العزيز الحكيم. وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظ، والمعنى، وقد تقدّم مثل هذا في قوله:
يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلأَصَالِ رِجَالٌ }
[النور: 36، 37]، وقرأ أبو حيوة، والأعمش، وأبان: «نوحي» بالنون، فيكون قوله: { ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } في محلّ نصب، والمعنى: نوحي إليك هذا اللفظ { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ } ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف، وهو ملك جميع ما في السماوات، والأرض لدلالته على كمال قدرته، ونفوذ تصرّفه في جميع مخلوقاته.

{ تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قرأ الجمهور: { تكاد } بالفوقية، وكذلك: (تتفطرن) قرؤوه بالفوقية مع تشديد الطاء.


وقرأ نافع، والكسائي، وابن وثاب يكاد (يتفطرن) بالتحتية فيهما، وقرأ أبو عمرو، والمفضل، وأبو بكر، وأبو عبيد: (يتفطرن) بالتحتية، والنون من الانفطار كقوله:
إِذَا ٱلسَّمَاء ٱنفَطَرَتْ }
[
الانفطار: 1]. والتفطر: التشقق. قال الضحاك، والسدّي: يتفطرن يتشققن من عظمة الله، وجلاله من فوقهنّ. وقيل: المعنى: تكاد كلّ واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولداً. وقيل: من فوقهنّ: من فوق الأرضين، والأوّل أولى. و " من " في { من فوقهنّ } لابتداء الغاية، أي: يبتدىء التفطر من جهة الفوق. وقال الأخفش الصغير: إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار، أي: من فوق جماعات الكفار، وهو بعيد جداً، ووجه تخصيص جهة الفوق: أنها أقرب إلى الآيات العظيمة، والمصنوعات الباهرة، أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى. { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي: ينزهونه عما لا يليق به، ولا يجوز عليه متلبسين بحمده. وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب، أي: يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل: معنى { بحمد ربهم }: بأمر ربهم قاله السدّي { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلأَرْضِ } من عباد الله المؤمنين كما في قوله:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ }
[
غافر: 7]، وقيل: الاستغفار منهم بمعنى: السعي فيما يستدعي المغفرة لهم، وتأخير عقوبتهم طمعاً في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين، وإن كانوا داخلين فيها دخولاً أوّلياً { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي: كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته، وأوليائه، أو لجميع عباده، فإن تأخير عقوبة الكفار، والعصاة نوع من أنواع مغفرته، ورحمته.

{
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي: أصناماً يعبدونها { ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي: يحفظ أعمالهم؛ ليجازيهم بها { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي: لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } أي: مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك، وقرآناً مفعول أوحينا؛ والمعنى: أنزلنا عليك قرآناً عربياً بلسان قومك كما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه { لّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } ، وهي: مكة، والمراد: أهلها { وَمَنْ حَوْلَهَا } من الناس، والمفعول الثاني محذوف، أي: لتنذرهم العذاب { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } أي: ولتنذر بيوم الجمع وهو: يوم القيامة، لأنه مجمع الخلائق. وقيل: المراد جمع الأرواح بالأجساد. وقيل: جمع الظالم، والمظلوم. وقيل: جمع العامل، والعمل { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك فيه. والجملة معترضة مقررة لما قبلها، أو صفة ليوم الجمع، أو حال منه { فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ } قرأ الجمهور برفع: { فريق } في الموضعين، إما على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور، وشاع الابتداء بالنكرة، لأن المقام مقام تفصيل، أو على أن الخبر مقدّر قبله، أي: منهم فريق في الجنة، ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع، أي: هم فريق في الجنة، وفريق في السعير.


وقرأ زيد بن علي: (فريقاً) بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة، أي: افترقوا حال كونهم كذلك، وأجاز الفراء، والكسائي النصب على تقدير؛ لتنذر فريقاً.

{
وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى، وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله: { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } في الدين الحق وهو: الإسلام { وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي: المشركون ما لهم من وليّ يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام، ومثل هذا قوله:
وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }
[
الأنعام: 35]، وقوله:
وَلَوْ شِئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا }
[
السجدة: 13]، وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم، فدبوا عليه من بعدهم، وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا، فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق، ويدور مع مدلولات النظم الشريف، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه، وتبرأ من التعصب قلبه، ولحمه، ودمه. وجملة: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } مستأنفة مقررّة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين، ولياً، ونصيراً، وأم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل المفيدة للانتقال، وبالهمزة المفيدة للإنكار، أي: بل أأتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ { فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِىُّ } أي: هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً، فإنه الخالق الرازق الضار النافع، وقيل: الفاء جواب شرط محذوف، أي: إن أرادوا أن يتخذوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ { وَهُوَ } أي: ومن شأنه أنه { يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي: يقدر على كل مقدور، فهو: الحقيق بتخصيصه بالألوهية، وإفراده بالعبادة.

{
وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } هذا عامّ في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه، ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحقّ من المبطل، ويتميز فريق الجنة، وفريق النار. قال الكلبي: وما اختلفتم فيه من شيء، أي: من أمر الدين، فحكمه إلى الله يقضي فيه. وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم، فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويمكن أن يقال: معنى حكمه إلى الله: أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يردّ إلى كتاب الله.


ومثله قوله:
فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ }
[
النساء: 59]، وقد حكم سبحانه بأن الدين هو: الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقاً إلاّ في الدار الآخرة، وعدهم الله بذلك يوم القيامة { ذٰلِكُمْ } الحاكم بهذا الحكم { ٱللَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت عليه في جميع أموري، لا على غيره، وفوّضته في كلّ شؤوني { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي: أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره.

{
فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة محضة، ويكون { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } معترضاً بين الصفة، والموصوف. وقرأ زيد بن عليّ: (فاطر) بالجرّ على أنه نعت للاسم الشريف في قوله: { إِلَى ٱللَّهِ } ، وما بينهما اعتراض، أو بدل من الهاء في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غيره على المدح. والفاطر: الخالق المبدع، وقد تقدّم تحقيقه { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي: خلق لكم من جنسكم نساء، أو المراد: حوّاء لكونها خلقت من ضلع آدم. وقال مجاهد: نسلاً بعد نسل { وَمِنَ ٱلأَنْعَـٰمِ أَزْوٰجاً } أي: وخلق للأنعام من جنسها إناثاً، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً من الذكور، والإناث، وهي: الثمانية التي ذكرها في الأنعام { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي: يبثكم، من الذرء وهو: البثّ، أو يخلقكم، وينشئكم، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين، والأنعام إلاّ أنه غلب فيه العقلاء، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل. وقيل: راجع إلى ما ذكر من التدبير، وقال الفراء، والزجاج، وابن كيسان: معنى يذرؤكم فيه: يكثركم به، أي: يكثركم بجعلكم أزواجاً؛ لأن ذلك سبب النسل. وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه، أي: في الزوج. وقيل: في البطن. وقيل: في الرحم. { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } المراد بذكر المثل هنا: المبالغة في النفي بطريق الكناية، فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود. وقيل: إن الكاف زائدة للتوكيد، أي: ليس مثله شيء. وقيل: إن مثل زائدة قاله ثعلب، وغيره كما في قوله:
فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ }
[
البقرة: 137] أي: بما آمنتم به، ومنه قول أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخيـ
   
ـل يغشاهم مطر منهمر
أي: كجذوع، والأوّل أولى، فإن الكناية باب مسلوك للعرب، ومهيع مألوف لهم، ومنه قول الشاعر:
ليس كمثل الفتى زهير
   
خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
   
وإن بات من ليلى على اليأس طاويا


وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم
   
فما كمثلهم في الناس من أحد
قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي. وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة، لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى: أن له مثلاً، وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل، فلمثله مثل، وهو: هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجاً مخرج الكناية، ومن فهم هذه الآية الكريمة حقّ فهمها، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } ، فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين، وشفاء الصدور، وانثلاج القلوب، فاقدر يا طالب الحقّ قدر هذه الحجة النيرة، والبرهان القويّ، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع، وتهشم بها رؤوساً من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه:
وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }
[
طه: 110]، فإنك حينئذٍ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام، وعلم أصول الدين:
ودع عنك نهبا صيح في حجراته
   
ولكن حديث ما حديث الرواحل
{ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي: خزائنهما، أو مفاتيحهما، وقد تقدّم تحقيقه في سورة الزمر، وهي: جمع إقليد، وهو: المفتاح جمع على خلاف القياس. قال النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السمٰوات، والأرض ذكر بعده البسط، والقبض، فقال: { يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } أي: يوسعه لمن يشاء من خلقه، ويضيقه على من يشاء { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء } من الأشياء { عَلِيمٌ } فلا تخفى عليه خافية، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع، ومعصية العاصي. فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير، وشرّ.

وقد أخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كتابان، فقال: " أتدرون ما هذان الكتابان؟قلنا: لا، إلاّ أن تخبرنا يا رسول الله، قال: للذي في يده اليمنى: " هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهمثم قال للذي في شماله: " هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً "


فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟، فقال: " سدّدوا، وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيّ عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أيّ عمل لهقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، فنبذهما، ثم قال: " فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة، وفريق في السعيرقال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح غريب. وروى ابن جرير طرفاً منه عن ابن عمرو موقوفاً عليه. قال ابن جرير: وهذا الموقوف أشبه بالصواب، قلت: بل المرفوع أشبه بالصواب. فقد رفعه الثقة، ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح، ويقوّي الرّفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء. قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده كتاب ينظر فيه قالوا: انظروا إليه كيف، وهو أميّ لا يقرأ، قال: فعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة، وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم، ولا ينقص منهموقال: " فريق في الجنة، وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد ".