Tuesday, 17 November 2015

سورة النساء آية 0059 - 00671 ت - تفسير الجامع لأحكام القرآن - تفسير القرطبي

* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 

فيه ثلاث مسائل:

الأولى ـ لما تقدّم إلى الولاة في الآية المتقدّمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدّم في هذه الآية إلى الرعيّة فأمر بطاعته جل وعز أوّلا، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. قال سهل: وإذا نهى السلطان العالِمَ أن يُفتي فَليس له أن يفتَى؛ فإن أفتى فهو عاصٍ وإن كان أميرا جائرا. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية؛ ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غَزَوْا، والحُكْمُ من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلّوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مُبتدِعة لم تجز الصلاة معهم إلاّ أن يُخافوا فيصلّى معهم تَقيّة وتعاد الصلاة.

قلت: رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حقٌ على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدّي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ } أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوُه قولُ الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. وحكي عن مُجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة. وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصّة. وروى سفيان بن عُيينة عن الحكم بن أَبَان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال: هن حرائر. فقلت بأي شيء؟ قال بالقرآن. قلت: بأي شيء في القرآن؟ قال قال الله تعالى: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } وكان عمر من أولي الأمر؛ قال: عَتقت ولو بسقْط. وسيأتي هذا المعنى مُبَيَّناً في سورة «الحَشْر» عند قوله تعالى:
وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }
[الحشر: 7] وقال ابن كَيْسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبّرون أمر الناس.

قلت: وأصح هذه الأقوال الأوّلُ والثاني؛ أما الأوّل فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } في عبدالله بن حُذافة بن قيس بن عَدِي السَّهْمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سَرِيّة.


قال أبو عمر: وكان في عبدالله بن حذافة دُعابةٌ معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّره على سَرِيّة فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا فلما أوقدوها أمرهم بالتقحُّم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟! وقال: " من أطاع أميري فقد أطاعنيفقالوا: ما آمَّنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار! فصوّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "قال الله تعالى:
وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ }
[
النساء: 29] وهو حديث صحيح الإسناد مشهور. وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم ابن ثَوْبان أن أبا سعيد الخُدْرِي قال: كان عبد الله بن حذافة بن قيس السَّهْمِي من أصحاب بَدْر وكانت فيه دُعابة وذكر الزبير قال: حدّثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الّليث بن سعد قال: بلغني أنه حلّ حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع. قال ابن وهب: فقلت لليث ليُضْحِكه؟ قال: نعم كانت فيه دُعابة. قال ميمون بن مَهران ومقاتل والكلبي: «أُولُو الأَمْرِ» أصحاب السّرايا. وأما القول الثاني فيدّل على صحته قوله تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ }. فأمر تعالى بردّ المتنازَع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبدالله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظّموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسَد دنياهم وأخراهم. وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع. وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحاً، فإن العقل لكل فضيلة أُسّ، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدّين أصلا وللدنيا عماداً، فأوجب الله التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدَبَّرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل. وروي هذا المعنى عن ابن عباس. وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر عليّ والأئمة المعصومون. ولو كان كذلك ما كان لقوله: { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } معنىً، بل كان يقول فردّوه إلى الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة. وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور. وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدّها وهي مخالفة الأمر. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتدّ. و «أولو» واحدهم «ذو» على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، كلّ واحد اسمُ الجمع ولا واحد له من لفظه.


وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد تقدّم.

الثانية ـ قوله تعالىٰ: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } أي تجادلتم واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويُذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة الحجج؛ ومنه الحديث: " وأنا أقول مالِي ينازعني القرآنوقال الأعشى:
نازعتهم قُضُبَ الرَّيحان مُتَّكِئاً
   
وقهوةً مُزّةً رَاوُوقها خضل
الخضل النبات الناعم والخضِيلة الروضة { فِي شَيْءٍ } أي من أمر دينكم. { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أي رُدّوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقَتادة، وهو الصحيح. ومن لم يَرَ هذا ٱختَلّ إيمانه؛ لقوله تعالىٰ { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }. وقيل: المعنى قولوا الَّله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الردّ. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التّمادِي في الباطل. والقول الأوّل أصح؛ لقول عليّ رضي الله عنه: ما عندنا إلاَّ ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فَهْمٌ أُعطِيَه رجل مسلم. ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خُصّ به هذه الأُمة والاستنباطُ الذي أعطِيهَا، ولكن تُضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب. قال أبو العالية: وذلك قوله تعالىٰ: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }. نعم، ما كان مِمّا استأثر الله بعلمه ولم يُطلِع عليه أحداً من خلقه فذلك الذي يُقال فيه: الله أعلم. وقد ٱستنبط عليّ رضي الله عنه مدّة أقلّ الْحَمْل ـ وهو ستة أشهر ـ من قوله تعالىٰ:
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }
[
الأحقاف: 15] وقولِه تعالىٰ:
وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }
[
البقرة: 233] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير. وفي قوله تعالىٰ: { عَلَى ٱلرَّسُولِ } دليل على أن سُنّته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويُمتثل ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: " ما نَهَيْتُكم عنه فٱجتنبوه وما أمرتكم به فٱفعلوا منه ما ٱستطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم وٱختلافُهم على أنبيائهمأخرجه مسلم. ورَوى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أَلْفِينَّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نَهَيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله ٱتّبعناهوعن العِرْبَاض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: " أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يَظُنّ أن الله لم يحرّم شيئاً إلاَّ ما في هذا القرآن ألاَ وإني والله قد أمَرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثروأخرجه الترمذيّ من حديث المِقْدام بن مَعْدِي كَرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قولُه تعالىٰ:
فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }
[
النور: 63] الآية. وسيأتي.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي ردّكم ما ٱختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التّنازُع. { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي مَرجِعاً؛ من آل يؤول إلى كذا أي صار. وقيل: من ألْتُ الشيء إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أَشكَلت بلفظ لا إشكال فيه؛ يُقال: أوّل الله عليك أمْرَك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم.