*
تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق
يعنـي بقوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا
الشّياطِينُ } الفريق من أحبـار الـيهود وعلـمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه
بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله علـى موسى وراء ظهورهم، تـجاهلاً منهم وكفراً بـما
هم به عالـمون، كأنهم لا يعلـمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلـمون أنه
منزل من عنده علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه علـيهم فـي
العمل بـما فـيه، وآثروا السحر الذي تَلَتْه الشياطين فـي ملك سلـيـمان بن داود
فـاتبعوه وذلك هو الـخسار والضلال الـمبـين.
واختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بقوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ }. فقال بعضهم: عنى الله بذلك الـيهودَ الذين كانوا بـين ظهرانـيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بـمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بـالكتب التـي كان الناس اكتتبوها من الكهنة علـى عهد سلـيـمان. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } علـى عهد سلـيـمان. قال: كانت الشياطين تصعد إلـى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فـيستـمعون من كلام الـملائكة فـيـما يكون فـي الأرض من موت أو غيث أو أمر، فـيأتون الكهنة فـيخبرونهم، فتـحدّث الكهنة الناس فـيجدونه كما قالوا. حتـى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخـلوا فـيه غيره فزادوا مع كل كلـمة سبعين كلـمة. فـاكتتب الناس ذلك الـحديث فـي الكتب وفشا فـي بنـي إسرائيـل أن الـجنّ تعلـم الغيب. فبعث سلـيـمان فـي الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها فـي صندوق، ثم دفنها تـحت كرسيه، ولـم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: «لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين تعلـم الغيب إلا ضربت عنقه». فلـما مات سلـيـمان، وذهبت العلـماء الذين كانوا يعرفون أمر سلـيـمان، وخـلف بعد ذلك خَـلْفٌ، تـمثل الشيطان فـي صورة إنسان، ثم أتـى نفراً من بنـي إسرائيـل، فقال: هل أدلكم علـى كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم. قال: فـاحفروا تـحت الكرسي وذهب معهم فأراهم الـمكان. فقام ناحية، فقالوا له: فـادْنُ قال: لا ولكنـي هاهنا فـي أيديكم، فإن لـم تـجدوه فـاقتلونـي. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلـما أخرجوها قال الشيطان: إن سلـيـمان إنـما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا فـي الناس أن سلـيـمان كان ساحراً واتـخذت بنو إسرائيـل تلك الكتب. فلـما جاءهم مـحمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
واختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بقوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ }. فقال بعضهم: عنى الله بذلك الـيهودَ الذين كانوا بـين ظهرانـيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بـمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بـالكتب التـي كان الناس اكتتبوها من الكهنة علـى عهد سلـيـمان. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } علـى عهد سلـيـمان. قال: كانت الشياطين تصعد إلـى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فـيستـمعون من كلام الـملائكة فـيـما يكون فـي الأرض من موت أو غيث أو أمر، فـيأتون الكهنة فـيخبرونهم، فتـحدّث الكهنة الناس فـيجدونه كما قالوا. حتـى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخـلوا فـيه غيره فزادوا مع كل كلـمة سبعين كلـمة. فـاكتتب الناس ذلك الـحديث فـي الكتب وفشا فـي بنـي إسرائيـل أن الـجنّ تعلـم الغيب. فبعث سلـيـمان فـي الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها فـي صندوق، ثم دفنها تـحت كرسيه، ولـم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: «لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين تعلـم الغيب إلا ضربت عنقه». فلـما مات سلـيـمان، وذهبت العلـماء الذين كانوا يعرفون أمر سلـيـمان، وخـلف بعد ذلك خَـلْفٌ، تـمثل الشيطان فـي صورة إنسان، ثم أتـى نفراً من بنـي إسرائيـل، فقال: هل أدلكم علـى كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم. قال: فـاحفروا تـحت الكرسي وذهب معهم فأراهم الـمكان. فقام ناحية، فقالوا له: فـادْنُ قال: لا ولكنـي هاهنا فـي أيديكم، فإن لـم تـجدوه فـاقتلونـي. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلـما أخرجوها قال الشيطان: إن سلـيـمان إنـما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا فـي الناس أن سلـيـمان كان ساحراً واتـخذت بنو إسرائيـل تلك الكتب. فلـما جاءهم مـحمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } قالوا: إن الـيهود سألوا مـحمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله علـيه ما سألوه عنه فـيَخْصِمهم. فلـما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلـم بـما أنزل إلـينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جلّ وعزّ: { واتّبَعوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }. وإن الشياطين عمدوا إلـى كتاب فكتبوا فـيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تـحت مـجلس سلـيـمان، وكان سلـيـمان لا يعلـم الغيب، فلـما فـارق سلـيـمان الدنـيا استـخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس وقالوا: هذا علـم كان سلـيـمان يكتـمه ويحسد الناس علـيه. فأخبرهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الـحديث. فرجعوا من عنده، وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم.
وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمانَ } قال: لـما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَدّقاً لِـمَا مَعَهُمْ
{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ }
[البقرة: 101] الآية. قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتـى بلغ: { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الـيهود الذين كانوا علـى عهد سلـيـمان. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر علـى الـيهود علـى ملك سلـيـمان فـاتبعته الـيهود علـى ملكه يعنـي اتبعوا السحر علـى ملك سلـيـمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سلـيـمان بن داود علـيه السلام، فكتبوا أصناف السحر: من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا، فلـيفعل كذا وكذا. حتـى إذا صنعوا أصناف السحر، جعلوه فـي كتاب، ثم ختـموا علـيه بخاتـم علـى نقش خاتـم سلـيـمان، وكتبوا فـي عنوانه: «هذا ما كتب آصف بن برخيا الصدّيق للـملك سلـيـمان بن داود من ذخائر كنوز العلـم». ثم دفنوه تـحت كرسيه، فـاستـخرجته بعد ذلك بقايا بنـي إسرائيـل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلـما عثروا علـيه قالوا: ما كان سلـيـمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر فـي الناس وتعلـموه وعلـموه، فلـيس فـي أحد أكثر منه فـي يهود. فلـما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما نزل علـيه من الله سلـيـمان بن داود وعدّه فـيـمن عدّه من الـمرسلـين، قال من كان بـالـمدينة من يهود: ألا تعجبون لـمـحمد صلى الله عليه وسلم يزعم أن سلـيـمان بن داود كان نبـيّاً والله ما كان إلا ساحراً فأنزل الله فـي ذلك من قولهم علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانَ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } قال: كان حين ذهب ملك سلـيـمان ارتدّ فِئَامٌ من الـجنّ والإنس واتبعوا الشهوات.
فلـما رجع الله إلـى سلـيـمان ملكه، قام الناس علـى الدين كما كانوا. وإن سلـيـمان ظهر علـى كتبهم فدفنها تـحت كرسيه. وتوفـي سلـيـمان حِدْثان ذلك، فظهرت الـجنّ والإنس علـى الكتب بعد وفـاة سلـيـمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل علـى سلـيـمان أخفـاه منا. فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله:
{ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ }
[البقرة: 101-102] وهي الـمعازف واللعب وكلُّ شيء يصدّ عن ذكر الله.
والصواب من القول فـي تأويـل قوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } أن ذلك توبـيخ من الله لأحبـار الـيهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوّته وهم يعلـمون أنه لله رسول مرسل، وتأنـيب منه لهم فـي رفضهم تنزيـله، وهجرهم العمل به وهو فـي أيديهم يعلـمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتّبـاعهم واتّبـاع أوائلهم وأسلافهم ما تَلَتْهُ الشياطين فـي عهد سلـيـمان. وقد بـينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إلـيهم فـيـما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وإنـما اخترنا هذا التأويـل لأن الـمتبعة ما تلته الشياطين فـي عهد سلـيـمان وبعده إلـى أن بعث الله نبـيه بـالـحقّ وأمر السحر لـم يزل فـي الـيهود، ولا دلالة فـي الآية أن الله تعالـى أراد بقوله: { واتبعوا } بعضاً منهم دون بعض، إذ كان جائزاً فصيحاً فـي كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتبـاع أسلاف الـمخبر عنهم بقوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } إلـى أخلافهم بعدهم. ولـم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدلّ علـيه، فكان الواجب من القول فـي ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان من الـيهود داخـل فـي معنى الآية، علـى النـحو الذي قلنا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ }. يعنـي جل ثناؤه بقوله: { ما تَتْلُوا الشّياطِينُ }: الذي تتلو. فتأويـل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
واختلف فـي تأويـل قوله: { تَتْلُوا } فقال بعضهم: يعنـي بقوله: { تَتْلُوا } تـحدّث وتروى وتتكلـم به وتـخبر، نـحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلوا هذا القول تأويـلهم ذلك إلـى أن الشياطين هي التـي علـمت الناس السحر وروته لهم. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عمرو، عن مـجاهد فـي قول الله: { وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلـمة زادوا فـيها مائتـين مثلها، فأرسل سلـيـمان إلـى ما كتبوا من ذلك فجمعه.
فلـما توفـي سلـيـمان وجدته الشياطين فعلـمته الناس وهو السحر.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } من الكهانة والسحر وذكر لنا والله أعلـم أن الشياطين ابتدعت كتابـاً فـيه سحر وأمر عظيـم، ثم أفشوه فـي الناس وعلـموهم إياه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: قوله: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشياطِينُ } قال: نراه ما تـحدّث.
حدثنـي سَلْـم بن جنادة السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: انطلقت الشياطين فـي الأيام التـي ابتلـى فـيها سلـيـمان، فكتبت فـيها كُتبـاً فـيها سحر وكفر، ثم دفنوها تـحت كرسي سلـيـمان، ثم أخرجوها فقرءوها علـى الناس.
وقال آخرون: معنى قوله: { ما تَتْلُوا } ما تتبعه وترويه وتعمل به. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن عمرو العنقزي، قال: حدثنـي أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس: { تَتْلُوا } قال: تتبع.
حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن إبراهيـم، عن سفـيان الثوري، عن منصور، عن أبـي رزين مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين علـى عهد سلـيـمان بـاتبـاعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: «هو يتلو كذا» فـي كلام العرب معنـيان: أحدهما الاتبـاع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خـلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه:
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ }
[يونس: 30] يعنـي بذلك تتّبع. والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بـمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت:
نَبِـيٌّ يَرَى مَا لا
يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ
|
|
ويَتْلُو كِتابَ
اللَّهِ فـي كُلّ مَشْهَدِ
|
ولـم يخبرنا الله جل ثناؤه بأيّ معنى التلاوة كانت
تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر علـى عهد سلـيـمان بخبر يقطع العذر.
وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكون كانت متبعته
بـالعمل، ودارسته بـالرواية فـاتبعت الـيهود منهاجها فـي ذلك وعملت به وروته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمان }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } فـي ملك سلـيـمان وذلك أن العرب تضع «فـي» موضع «علـى» و«علـى» فـي موضع «فـي»، من ذلك قول الله جل ثناؤه:
{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }
[طه: 71] يعنـي به: علـى جذوع النـخـل، وكما قال: «فعلت كذا فـي عهد كذا وعلـى عهد كذا» بـمعنى واحد. وبـما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان فـي تأويـله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: { عَلَـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } يقول: فـي ملك سلـيـمان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمان }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } فـي ملك سلـيـمان وذلك أن العرب تضع «فـي» موضع «علـى» و«علـى» فـي موضع «فـي»، من ذلك قول الله جل ثناؤه:
{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }
[طه: 71] يعنـي به: علـى جذوع النـخـل، وكما قال: «فعلت كذا فـي عهد كذا وعلـى عهد كذا» بـمعنى واحد. وبـما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان فـي تأويـله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: { عَلَـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } يقول: فـي ملك سلـيـمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق فـي قوله: { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } أي فـي ملك سلـيـمان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } ولا خبر معنا قبلُ عن أحد أنه أضاف الكفر إلـى سلـيـمان، بل إنـما ذكر اتبـاع من اتبع من الـيهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفـي الكفر عن سلـيـمان بعقب الـخبر عن اتبـاع من اتبعت الشياطين فـي العمل بـالسحر وروايته من الـيهود؟ قـيـل: وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إلـيهم اتبـاع ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان من السحر والكفر من الـيهود، نسبوا ما أضافه الله تعالـى ذكره إلـى الشياطين من ذلك إلـى سلـيـمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علـمه وروايته، وأنه إنـما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والـجنّ والشياطين وسائر خـلق الله بـالسحر. فحسَّنوا بذلك من ركوبهم ما حرّم الله علـيهم من السحر لأَنْفُسَهم عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علـم له بـما أنزل الله فـي ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلـى سلـيـمان من سلـيـمان، وهو نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم منهم بشرٌ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولاً، وقالوا: بل كان ساحراً. فبرأ الله سلـيـمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلـى السحر والكفر لأسبـاب ادعوها علـيه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر بـاقـي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بـالسحر، متزينـين عند أهل الـجهل فـي عملهم ذلك بأن سلـيـمان كان يعمله. فنفـى الله عن سلـيـمان علـيه السلام أن يكون كان ساحراً أو كافراً، وأعلـمهم أنهم إنـما اتبعوا فـي عملهم السحر ما تلته الشياطين فـي عهد سلـيـمان، دون ما كان سلـيـمان يأمرهم من طاعة الله واتبـاع ما أمرهم به فـي كتابه الذي أنزله علـى موسى صلوات الله علـيه. ذكر الدلائل علـى صحة ما قلنا من الأخبـار والآثار:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير، قال: كان سلـيـمان يتتبع ما فـي أيدي الشياطين من السحر، فـيأخذه فـيدفنه تـحت كرسيه فـي بـيت خزانته. فلـم تقدر الشياطين أن يصلوا إلـيه، فدَنَتْ إلـى الإنس، فقالوا لهم: أتريدون العلـم الذي كان سلـيـمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم: قالوا: فإنه فـي بـيت خزانته وتـحت كرسيه. فـاستثارته الإنس فـاستـخرجوه فعملوا به. فقال أهل الـحجاز: كان سلـيـمان يعمل بهذا وهذا سحر.
فأنزل الله جل ثناؤه علـى لسان نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم براءة سلـيـمان، فقال: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } الآية، فأنزل الله براءة سلـيـمان علـى لسان نبـيه علـيهما السلام.
حدثنـي أبو السائب السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: كان الذي أصاب سلـيـمان بن داود فـي سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه علـيه، قال: فكان هوى سلـيـمان أن يكون الـحق لأهل الـجرادة فـيقضي لهم، فعوقب حين لـم يكن هواه فـيهم واحد. قال: وكان سلـيـمان بن داود إذا أراد أن يدخـل الـخلاء أو يأتـي شيئاً من نسائه أعطى الـجرادة خاتـمه. فلـما أراد الله أن يبتلـي سلـيـمان بـالذي ابتلاه به، أعطى الـجرادة ذات يوم خاتـمه، فجاء الشيطان فـي صورة سلـيـمان فقال لها: هاتـي خاتـمي فأخذه فلبسه، فلـما لبسه دانت له الشياطين والـجنّ والإنس. قال: فجاءها سلـيـمان فقال: هاتـي خاتـمي فقالت: كذبت لست بسلـيـمان. قال: فعرف سلـيـمان أنه بلاء ابتلـي به. قال: فـانطلقت الشياطين فكتبت فـي تلك الأيام كتبـا فـيها سحر وكفر ثم دفنوها تـحت كرسي سلـيـمان، ثم أخرجوها فقرءوها علـى الناس وقالوا: إنـما كان سلـيـمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرىء الناس من سلـيـمان وأكفروه، حتـى بعث الله مـحمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه: { وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } يعنـي الذي كتب الشياطين من السحر والكفر { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } فأنزل اللَّهُ جل وعزّ وعذره.
حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: ثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبـي مـجلز، قال: أخذ سلـيـمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خُـلِّـي عنه، فرأى الناس السجعَ والسحرَ وقالوا: هذا كان يعمل به سلـيـمان فقال الله جل ثناؤه: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
حدثنا أبو حميد، قال: ثنا جرير، عن حصين ابن عبد الرحمن، عن عمران بن الـحرث، قال: بـينا نـحن عند ابن عبـاس إذ جاءه رجل، فقال له ابن عبـاس: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أَيِّهِ؟ قال: من الكوفة. قال: فما الـخبر؟ قال: تركتهم يتـحدثون أن علـيًّا خارج إلـيهم. ففزع فقال: ما تقول لا أبـا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إنـي أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فـيأتـي أحدهم بكلـمة حقّ قد سمعها، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فـيشربها قلوب الناس فأطلع الله علـيها سلـيـمانَ فدفنها تـحت كرسيه. فلـما توفـي سلـيـمان بن داود قام شيطان بـالطريق فقال: ألا أدلكم علـى كنزه الـمـمَنَّع الذي لا كنز مثله؟ تـحت الكرسي.
فأخرجوه فقالوا: هذا سحر. فتناسخها الأمـم، حتـى بقاياهم ما يتـحدّث به أهل العراق. فأنزل الله عذر سلـيـمان: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمانُ ولَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا والله أعلـم أن الشياطين ابتدعت كتابـاً فـيه سحر وأمر عظيـم، ثم أفشوه فـي الناس وأعلـموهم إياه. فلـما سمع بذلك سلـيـمان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فتتبَّع تلك الكتب، فأتـى بها فدفنها تـحت كرسيه كراهية أن يتعلـمها الناس. فلـما قبض الله نبـيه سلـيـمان عمدت الشياطين فـاستـخرجوها من مكانها الذي كانت فـيه فعلـموها الناس، فأخبروهم أن هذا علـم كان يكتـمه سلـيـمان ويستأثر به. فعذر الله نبـيه سلـيـمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا }.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كتبت الشياطين كتبـاً فـيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تـحت كرسي سلـيـمان. فلـما مات سلـيـمان استـخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علـم كَتَـمَنَاهُ سلـيـمان. فقال الله جل وعزّ: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
حدثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، حدثنا الـحسين قال: عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } قال: كانت الشياطين تستـمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلـمة زادوا فـيها مثلها. وإن سلـيـمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تـحت كرسيه فلـما توفـي وجدته الشياطين فعلـمته الناس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن شهر بن حوشب، قال: لـما سُلب سلـيـمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر فـي غيبة سلـيـمان، فكتبت: من أراد أن يأتـي كذا وكذا فلـيستقبل الشمس ولـيقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فلـيستدبر الشمس ولـيقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: «هذا ما كتب آصف بن برخيا للـملك سلـيـمان بن داود من ذخائر كنوز العلـم»، ثم دفنته تـحت كرسيه. فلـما مات سلـيـمان قام إبلـيس خطيبـاً فقال: يا أيها الناس إن سلـيـمان لـم يكن نبـياً، وإنـما كان ساحراً، فـالتَـمِسُوا سحره فـي متاعه وبـيوته ثم دلهم علـى الـمكان الذي دفن فـيه، فقالوا: والله لقد كان سلـيـمان ساحراً، هذا سحره، بهذا تعبَّدَنا، وبهذا قهرَنا. فقال الـمؤمنون: بل كان نبـياً مؤمناً. فلـما بعث الله النبـيّ مـحمداً صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبـياء حتـى ذكر داود وسلـيـمان، فقالت الـيهود: انظروا إلـى مـحمد يخـلط الـحقّ بـالبـاطل، يذكر سلـيـمان مع الأنبـياء، وإنـما كان ساحراً يركب الريح. فأنزل الله عذر سلـيـمان: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلَّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنـي لـما ذكر سلـيـمان بن داود فـي الـمرسلـين، قال بعض أحبـار الـيهود: ألا تعجبون من مـحمد يزعم أن ابن داود كان نبـيًّا، والله ما كان إلا ساحراً فأنزل الله فـي ذلك من قولهم: { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا } أي بإتبـاعهم السحر وعملهم به { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبَـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ }.
قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا وتأويـل قوله: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } ما ذكرنا فتبـين أن فـي الكلام متروكاً ترك ذكره اكتفـاءً بـما ذكر منه، وأن معنى الكلام: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } من السحر { علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } فتضيفه إلـى سلـيـمان، { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ } فـيعمل بـالسحر { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.
وقد كان قتادة يتأوّل قوله: { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } علـى ما قلنا.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَان وَلَكِنَّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } يقول: ما كان عن مشورته، ولا عن رضا منه ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه.
وقد دللنا فـيـما مضى علـى اختلاف الـمختلفـين فـي معنى «تتلو»، وتوجيه من وجه ذلك إلـى أن «تتلوا» بـمعنى تلت، إذ كان الذي قبله خبراً ماضياً وهو قوله: { وَاتّبَعُوا } وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلـى خلاف ذلك. وبـيّنا فـيه وفـي نظيره الصواب من القول، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأما معنى قوله: { ما تَتْلُوا } فإنه بـمعنى الذي تتلو وهو السحر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } أي السحر.
قال أبو جعفر: ولعلّ قائلاً أن يقول: أَوَ ما كان السحر إلا أيام سلـيـمان؟ قـيـل له: بلـى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سلـيـمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن الـيهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان؟ قـيـل: لأنهم أضافوا ذلك إلـى سلـيـمان علـى ما قد قدمنا البـيان عنه، فأراد الله تعالـى ذكره تبرئة سلـيـمان مـما نَـحَلُوه وأضافوا إلـيه مـما كانوا وجدوه إما فـي خزائنه وإما تـحت كرسيه، علـى ما جاءت به الآثار التـي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الـخبر عْما كانت الـيهود اتبعته فـيـما تلته الشياطين أيام سلـيـمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالـية للسحر والكفر قبل ذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ }.
اختلف أهل العلـم فـي تأويـل «ما» التـي فـي قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } فقال بعضهم: معناه الـجحد وهي بـمعنى «لـم». ذكر من قال ذلك:.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: { وَما أُنْزِلَ عَلَـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } فإنه يقول: لـم ينزل الله السحر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنـي حكام عن أبـي جعفر، عن الربـيع بن أنس: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله علـيهما السحر.
فتأويـل الآية علـى هذا الـمعنى الذي ذكرناه عن ابن عبـاس والربـيع من توجيههما معنى قوله: { وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } إلـى: ولـم ينزل علـى الـملكين، واتبعوا الذي تتلوا الشياطين علـى ملك سلـيـمان من السحر، وما كفر سلـيـمان ولا أنزل الله السحر علـى الـملكين { ولكنَّ الشَّياطينَ كفرُوا يعلـمونَ الناسَ السحرَ } ببـابل هاروت وماروت، فـيكون حينئذ قوله: { ببـابل وهاروت وماروت } من الـمؤخر الذي معناه التقديـم.
فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديـم ذلك؟ قـيـل: وجه تقديـمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين علـى ملك سلـيـمان وما أنزل علـى الـملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلـمون الناس السحر ببـابل هاروت وماروت. فـيكون معنـيًّا بـالـملكين: جبريـل وميكائيـل لأن سحرة الـيهود فـيـما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر علـى لسان جبريـل وميكائيـل إلـى سلـيـمان بن داود. فأكذبها الله بذلك وأخبر نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريـل وميكائيـل لـم ينزلا بسحر قط، وبرأ سلـيـمان مـما نـحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلـم الناس ببـابل، وأن الذين يعلـمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فـيكون هاروت وماروت علـى هذا التأويـل ترجمة علـى الناس ورداً علـيهم.
وقال آخرون: بل تأويـل «ما» التـي فـي قوله: { وَما أُنْزلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } «الذي». ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: { وَما أُنْزِلَ عَلـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } كانا ملكين من الـملائكة فأهبطا لـيحكما بـين الناس. وذلك أن الـملائكة سخروا من أحكام بنـي آدم، قال: فحاكمت إلـيهما امرأة فحافـا لها، ثم ذهبـا يصعدان، فحيـل بـينهما وبـين ذلك وخُيِّراً بـين عذاب الدنـيا وعذاب الآخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا. قال معمر: قال قتادة: فكانا يعلـمان الناس السحر، فأخذ علـيهما أن لا يعلـما أحداً حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر.
حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } فهذا سحر آخر خاصموه به أيضاً يقول: خاصموه بـما أنزل علـى الـملكين وإن كلام الـملائكة فـيـما بـينهم إذا علـمته الإنس فصنع وعمل به كان سحراً.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } فـالسحر سحران: سحر تعلـمه الشياطين، وسحر يعلـمه هاروت وماروت.
حدثنـي الـمثنى قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } قال: التفريق بـين الـمرء وزوجه.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } فقرأ حتـى بلغ: { فَلا تَكْفُرْ } قال: الشياطين والـملكان يعلـمون الناس السحر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية علـى تأويـل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت الـيهود الذي تلت الشياطين فـي ملك سلـيـمان الذي أنزل علـى الـملكين ببـابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله، سنذكر ما روي من الأخبـار فـي شأنهما إن شاء الله تعالـى.
وقالوا: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم هل يجوز لـملائكته أن تعلـمه الناس؟ قلنا له: إن الله عزّ وجلّ قد أنزل الـخير والشرّ كله. وبـيَّن جميع ذلك لعبـاده، فأوحاه إلـى رسله وأمرهم بتعلـيـم خـلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم مـما يحرم علـيهم وذلك كالزنا والسرقة وسائر الـمعاصي التـي عَرَّفُهموها ونهاهم عن ركوبها، فـالسحر أحد تلك الـمعاصي التـي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها.
قالوا: لـيس فـي العلـم بـالسحر إثم، كما لا إثم فـي العلـم بصنعة الـخمر ونـحت الأصنام والطنابـير والـملاعب، وإنـما الإثم فـي عمله وتسويته.
قالوا: وكذلك لا إثم فـي العلـم بـالسحر، وإنـما الإثم فـي العمل به وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به.
قالوا: فلـيس فـي إنزال الله إياه علـى الـملكين ولا فـي تعلـيـم الـملكين من علـماه من الناس إثم إذا كان تعلـيـمهما من علّـماه ذلك بإذن الله لهما بتعلـيـمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر وإنـما الإثم علـى من يتعلـمه منهما ويعمل به، إذْ كان الله تعالـى ذكره قد نهاه عن تعلـمه والعمل به.
قالوا: ولو كان الله أبـاح لبنـي آدم أن يتعلـموا ذلك، لـم يكن من تعلـمه حَرِجا، كما لـم يكونا حَرِجَيْن لعلـمهما به، إذْ كان علـمهما بذلك عن تنزيـل الله إلـيهما.
وقال آخرون: معنى «ما» معنى «الذي»، وهي عطف علـى «ما» الأولـى، غير أن الأولـى فـي معنى السحر والآخرة فـي معنى التفريق بـين الـمرء وزوجه.
فتأويـل الآية علـى هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين فـي ملك سلـيـمان، والتفريق الذي بـين الـمرء وزوجه الذي أنزل علـى الـملكين ببـابل هاروت وماروت. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } وهما يعلّـمان ما يفرقون به بـين الـمرء وزوجه، وذلك قول الله جل ثناؤه: { وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا } وكان يقول: أما السحر فإنـما يعلـمه الشياطين، وأما الذي يعلـم الـملكان فـالتفريق بـين الـمرء وزوجه، كما قال الله تعالـى.
وقال آخرون: جائز أن تكون «ما» بـمعنى «الذي»، وجائز أن تكون «ما» بـمعنى «لـم». ذكر من قال ذلك.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي اللـيث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن مـحمد، وسأله رجل عن قول الله: { يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } فقال الرجل: يعلّـمان الناس ما أنزل علـيهما، أم يعلـمان الناس ما لـم ينزل علـيهما؟ قال القاسم: ما أُبـالـي أيتهما كانت.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: ثنا بشر بن عياض، عن بعض أصحابه، أن القاسم بن مـحمد سئل عن قول الله تعالـى ذكره: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } فقـيـل له: أنزل أو لـم ينزل؟ فقال: لا أبـالـي أيّ ذلك كان، إلاَّ أنـي آمنت به.
والصواب من القول فـي ذلك عندي قول من وجَّه «ما» التـي فـي قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } إلـى معنى «الذي» دون معنى «ما» التـي هي بـمعنى الـجحد. وإنـما اخترت ذلك من أجل أن «ما» إن وجهت إلـى معنى الـجحد، فتنفـي عن الـملكين أن يكونا منزلاً إلـيهما. ولـم يَخْـلُ الاسمان اللذان بعدهما أعنـي هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمة عنهما، أو بدلاً من الناس فـي قوله: { يعلّـمون النّاسَ السِّحْرَ } وترجمة عنهما. فإن جُعلا بدلاً من الـملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله: { وَما يُعَلِّـمانِ مِنْ أَحَدٍ حتـى يَقُولا إنَّـما نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ } لأنهما إذا لـم يكونا عالـمين بـما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه، فما الذي يَتَعَلَّـم منهما مَنْ يفرّق بـين الـمرء وزوجه؟
وبعد، فإن «ما» التـي فـي قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } إن كانت فـي معنى الـجحد عطفـاً علـى قوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ } فإن الله جل ثناؤه نفـى بقوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ } عن سلـيـمان أن يكون السحر من عمله، أو من علـمه أو تعلـيـمه. فإن كان الذي نفـى عن الـملكين من ذلك نظير الذي نفـى عن سلـيـمان منه، وهاروت وماروت هما الـملكان، فمن الـمتعلـم منه إذا ما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه؟ وعمن الـخبر الذي أخبر عنه بقوله: { وَما يُعَلِّـمَانِ مِنْ أحَدٍ حتـى يَقُولاَ إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ؟ } إن خطأ هذا القول لواضح بَـيِّنٌ. وإن كان قوله «هاروت وماروت» ترجمة عن الناس الذين فـي قوله: { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ } فقد وجب أن تكون الشياطين هي التـي تعلـم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنـما تعلـمت السحر من هاروت وماروت عن تعلـيـم الشياطين إياهما.
فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخـلو هاروت وماروت عند قائل هذه الـمقالة من أحد أمرين: إما أن يكونا مَلَكين، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بـالله والـمعصية له بنسبته إياهما إلـى أنهما يتعلـمان من الشياطين السحر ويعلـمانه الناس، وإصرارهما علـى ذلك ومقامهما علـيه أعظم مـما ذكر عنهما أنهما أتـياه من الـمعصية التـي استـحقا علـيها العقاب، وفـي خبر الله عزّ وجلّ عنهما أنهما لا يعلـمان أحداً ما يتعلـم منهما حتـى يقولا: { إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } ما يغنـي عن الإكثار فـي الدلالة علـى خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلـين من بنـي آدم فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلـم به والعمل من بنـي آدم لأنه إذا كان علـم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلـم، فـالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبـيـل إلـى الوصول إلـى الـمعنى الذي كان لا يوصل إلـيه إلا بهما وفـي وجود السحر فـي كل زمان ووقت أبـين الدلالة علـى فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بنـي آدم، لـم يعدما من الأرض منذ خـلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر فـي الناس. فـيدعي ما لا يخفـى بُطُولُهُ.
فإذا فسدت هذه الوجوه التـي دللنا علـى فسادها، فبـين أن معنى: { ما } التـي فـي قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ } بـمعنى «الذي»، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الـملكين ولذلك فتـحت أواخر أسمائهما، لأنهما فـي موضع خفض علـى الردّ علـى الـملكين، ولكنهما لـما كانا لا يجرّان فتـحت أواخر أسمائهما.
فإن التبس علـى ذي غبـاء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لـملائكة الله أن تعلـم الناس التفريق بـين الـمرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلـى الله تبـارك وتعالـى إنزال ذلك علـى الـملائكة؟ قـيـل له: إن الله جل ثناؤه عرّف عبـاده جَميعَ ما أمرهم به وجميعَ ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلـم منهم بـما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر علـى غير ذلك، لـما كان للأمر والنهي معنى مفهوم فـالسحر مـما قد نهى عبـاده من بنـي آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علـمه الـملكين اللذين سماهما فـي تنزيـله وجعلهما فتنة لعبـاده من بنـي آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لـمن يتعلـم ذلك منهما: { إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } لـيختبر بهما عبـاده الذين نهاهم عن التفريق بـين الـمرء وزوجه وعن السحر، فـيـمـحّص الـمؤمن بتركه التعلـم منهما، ويُخزي الكافر بتعلـمه السحر والكفر منهما، ويكون الـملكان فـي تعلـيـمهما من علّـما ذلك لله مطيعين، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعلـيـم ذلك من علـماه يعلـمان.
وقد عُبد من دون الله جماعةٌ من أولـياء الله، فلـم يكن ذلك لهم ضائرا إذْ لـم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والـمعبود عنه ناهٍ، فكذلك الـملكان غير ضائرهما سحر من سحر مـمن تعلـم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظَتهما له بقولهما: { إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } إذ كانا قد أدّيا ما أُمر به بقـيـلهما ذلك. كما:
حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الـحسن فـي قوله: { وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } إلـى قوله: { فَلاَ تَكْفُرْ } أُخِذَ علـيهما ذلك.
ذكر بعض الأخبـار التـي فـي بـيان الـملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الـملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه فـي قوله: { ببـابل }:
حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، قال: ثنا أبو شعبة العدوي فـي جنازة يونس بن جبـير أبـي غلاب، عن ابن عبـاس قال: إن الله أفرج السماء لـملائكته ينظرون إلـى أعمال بنـي آدم، فلـما أبصروهم يعملون الـخطايا، قالوا: يا ربّ هؤلاء بنو آدم الذي خـلقته بـيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلـمته أسماء كل شيء، يعملون بـالـخطايا. قال: أما إنكم لو كنتـم مكانهم لعملتـم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا، قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلـى الأرض. قال: فـاختاروا هارون وماروت، فـاهبطا إلـى الأرض، وأحلّ لهما ما فـيها من شيء غير أن لا يشركا بـالله شيئاً ولا يسرقا، ولا يزنـيا، ولا يشربـا الـخمر، ولا يقتلا النفس التـي حرّم الله إلا بـالـحقّ. قال: فما استـمرّا حتـى عرض لهما امرأة قد قُسم لها نصف الـحُسْنِ يقال لها «بـيذخت»، فلـما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بـالله وتشربـا الـخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنـم. فقالا: ما كنا لنشرك بـالله شيئاً. فقال أحدهما للآخر: ارجع إلـيها. فقالت: لا إلا أن تشربـا الـخمر فشربـا حتـى ثملا، ودخـل علـيهما سائل فقتلاه. فلـما وقعا فـيه من الشرّ، أفرج الله السماء لـملائكته، فقالوا: سبحانك كنت أعلـم قال: فأوحى الله إلـى سلـيـمان بن داود أن يخيّرهما بـين عذاب الدنـيا وعذاب الآخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا، فكُبِّلا من أكعبهما إلـى أعناقهما بـمثل أعناق البُخْت وجُعلا ببـابل.
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: ثنا حجاج، عن علـيّ بن زيد، عن أبـي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عبـاس أنهما قالا: لـما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الـملائكة علـيهم والأرض والسماء والـجبـال: ربنا ألا تهلكهم؟ فأوحى الله إلـى الـملائكة: إنـي لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتـم لفعلتـم أيضاً. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا.
فأوحى الله إلـيهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فـاختاروا هاروت وماروت، فـاهبطا إلـى الأرض وأُنزلت الزُّهَرَة إلـيهما فـي صورة امرأة من أهل فـارس، وكان أهل فـارس يسمونها «بـيذخت». قال: فوقعا بـالـخطيئة، فكانت الـملائكة يستغفرون للذين آمنوا.
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً }
[غافر: 7]. فلـما وقعا بـالـخطيئة استغفروا لـمن فـي الأرض:
{ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }
[الشورى: 5] فخُيرا بـين عذاب الدنـيا وعذاب الآخرة فـاختارا عذاب الدنـيا.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي الـحجاج، قال: ثنا حماد، عن خالد الـحذاء، عن عمرو بن سعيد، قال سمعت علـيًّاً يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميـلة من أهل فـارس، وإنها خاصمت إلـى الـملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلـماها الكلام الذي إذا تكلـم به يعرج به إلـى السماء. فعلـماها فتكلـمت فعرجت إلـى السماء فمُسِخت كوكبـاً.
حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: ثنا مؤمل بن إسماعيـل، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعاً، عن الثوري، عن مـحمد بن عقبة، عن سالـم، عن ابن عمر، عن كعب، قال: ذكرت الـملائكة أعمال بنـي آدم وما يأتون من الذنوب، فقـيـل لهم: اختاروا منكم اثنـين وقال الـحسن بن يحيى فـي حديثه: اختاروا ملكين فـاختاروا هاروت وماروت، فقـيـل لهما: إنـي أرسل إلـى بنـي آدم رُسُلاً، ولـيس بـينـي وبـينكم رسول، انزلا لا تشركا بـي شيئا، ولا تزنـيا، ولا تشربـا الـخمر قال كعب: فوالله ما أَمْسَيا من يومهما الذي أُهبطا فـيه إلـى الأرض، حتـى استكملا جميع ما نهيا عنه. وقال الـحسن بن يحيى فـي حديثه: فما استكملا يومهما الذي أُنزلا فـيه حتـى عملا ما حرم الله علـيهما.
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا معلـى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن الـمختار، عن موسى بن عقبة، قال: حدثنـي سالـم أنه سمع عبد الله يحدّث عن كعب الأحبـار، أنه حدث أن الـملائكة أنكروا أعمال بنـي آدم وما يأتون فـي الأرض من الـمعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتـم مكانهم أتـيتـم ما يأتون من الذنوب فـاختاروا منكم ملكين فـاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إنـي أرسل رسلـي إلـى الناس، ولـيس بـينـي وبـينكما رسول، انزلا إلـى الأرض، ولا تشركا بـي شيئاً، ولا تزنـيا فقال كعب: والذي نفس كعب بـيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فـيه حتـى أتـيا ما حرّم الله علـيهما.
حدثنـي موسى ابن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا علـى أهل الأرض فـي أحكامهم، فقـيـل لهما: إنـي أعطيت ابن آدم عشراً من الشهوات فبها يعصوننـي. قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لـحَكَمْنا بـالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فـاحكما بـين الناس فنزلا ببـابل دُنْبـاوند، فكانا يحكمان، حتـى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا.
فلـم يزالا كذلك حتـى أتتهما امرأة تـخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها واسمها بـالعربـية «الزُّهَرَة»، وبـالنبطية «بـيذخت»، واسمها بـالفـارسية «أناهيذ»، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبنـي. فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فـاستـحيـيت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله. فلـما جاءت تـخاصم زوجها ذكرا إلـيها نفسها، فقالت: لا حتـى تقضيا لـي علـى زوجي، فقضيا لها علـى زوجها. ثم واعدتهما خربة من الـخرب يأتـيانها فـيها، فأتـياها لذلك، فلـما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بـالذي أفعل حتـى تـخبرانـي بأيّ كلام تصعدان إلـى السماء؟ وبأيّ كلام تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلـمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقـيت مكانها، وجعلها الله كوكبـاً فكان عبد الله بن عمر كلـما رآها لعنها وقال: هذه التـي فتنت هاروت وماروت فلـما كان اللـيـل أرادا أن يصعدا فلـم يستطيعا فعرفـا الهلك، فخُيرا بـين عذاب الدنـيا والآخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا من عذاب الآخرة، فعلِّقا ببابل فجعلا يكلـمان الناس كلامَهما وهو السحر.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: لـما وقع الناس من بعد آدم فـيـما وقعوا فـيه من الـمعاصي والكفر بـالله، قالت الـملائكة فـي السماء: أي ربّ هذا العالـم إنـما خـلقتهم لعبـادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الـحرام وأكلِ الـمال الـحرام والسرقة والزنا وشرب الـخمر فجعلوا يدعون علـيهم ولا يعذرونهم. فقـيـل لهم: إنهم فـي غيب فلـم يعذروهم، فقـيـل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتـي فـاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلـى الأرض، وجعل بهما شهوات بنـي آدم، وأُمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئاً، ونُهيا عن قتل النفس الـحرام، وأكْل الـمال الـحرام، والسرقة والزنا وشرب الـخمر. فلبثا علـى ذلك فـي الأرض زماناً يحكمان بـين الناس بـالـحقّ، وذلك فـي زمان إدريس، وفـي ذلك الزمان امرأة حسنها فـي سائر الناس كحسن الزهرة فـي سائر الكواكب. وإنها أتت علـيهما فخضعا لها بـالقول، وأراداها علـى نفسها، وإنها أبت إلا أن يكونا علـى أمرها ودينها، وإنهما سألاها عن دينها التـي هي علـيه، فأخرجت لهما صنـماً وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا فـي عبـادة هذا. فذهبـا فصبرا ما شاء الله، ثم أتـيا علـيها فخضعا لها بـالقول وأراداها علـى نفسها. فقالت: لا إلا أن تكونا علـى ما أنا علـيه. فقالا: لا حاجة لنا فـي عبـادة هذا. فلـما رأت أنهما أبـيا أن يعبدا الصنـم، قالت لهما: اختارا إحدى الـخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنـم، أو تقتلا النفس، أو تشربـا الـخمر. فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهْوَنُ الثلاثة شرب الـخمر.
فسقتهما الـخمر، حتـى إذا أخذت الـخمر فـيهما وقعا بها، فمرّ بهما إنسان وهما فـي ذلك، فخشيا أن يفشي علـيهما فقتلاه. فلـما أن ذهب عنهما السكر عرفـا ما وقعا فـيه من الـخطيئة وأرادا أن يصعدا إلـى السماء فلـم يستطيعا، فَحِيـلَ بـينهما وبـين ذلك، وكشف الغطاء بـينهما وبـين أهل السماء. فنظرت الـملائكة إلـى ما وقعا فـيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلـموا أن من كان فـي غيب فهو أقلّ خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لـمن فـي الأرض. وإنهما لـما وقعا فـيـما وقعا فـيه من الـخطيئة، قـيـل لهما: اختارا عذاب الدنـيا أو عذاب الآخرة فقالا: أما عذاب الدنـيا فإنه ينقطع وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فـاختارا عذاب الدنـيا، فجُعلا ببـابل، فهما يعذّبـان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالـح، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلـما كان من آخر اللـيـل قال: يا نافع انظر طلعت الـحمراء قالها مرّتـين أو ثلاثاً. ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبـاً ولا أهلاً قلت: سبحان الله نـجم مسخر سامع مطيع؟ قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قال لـي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الـمَلاَئِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبّ كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَـى بَنِـي آدَمَ فِـي الـخَطايا والذُّنُوبِ؟ قال: إنـي ابْتَلَـيْتُهُمْ وَعافَـيْتُكُمْ. قالُوا: لَوْ كُنّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ. قالَ: فـاخْتارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ قالَ: فَلَـمْ يألُوا أنْ يَخْتارُوا، فـاخْتارُوا هارُوتَ وَمارُوتَ "
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الـملائكة عجبت من ظلـم بنـي آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبـينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان فـي الأرض بـين بنـي آدم فـاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: عجبتـما من بنـي آدم ومن ظلـمهم ومعصيتهم، وإنـما تأتـيهم الرسل والكتب من وراءَ وراءَ، وأنتـما لـيس بـينـي وبـينكما رسول، فـافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما. ثم نزلا علـى ذلك لـيس أحد لله أطوع منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بـين بنـي آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الـملائكة، وينزلان حين يصبحان فـيحكمان فـيعدلان. حتـى أُنزلت علـيهما الزهرة فـي أحسن صورة امرأة تـخاصم، فقضيا علـيها. فلـما قامت وجد كل واحد منهما فـي نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدتُ؟ قال: نعم، فبعثا إلـيها أن ائتـينا نَقْضِ لك. فلـما رجعت قالا لها وقضيا لها: ائتـينا فأتتهما، فكشفـا لها عن عورتهما. وإنـما كانت شهوتهما فـي أنفسهما ولـم يكونا كبنـي آدم فـي شهوة النساء ولذّتها. فلـما بلغا ذلك واستـحلاّه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلـما أمسيا عرجا فرُدَّا ولـم يؤذن لهما ولـم تـحملهما أجنـحتهما فـاستغاثا برجل من بنـي آدم، فأتـياه فقالا: ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير فـي السماء.
فوعدهما يوماً وغداً يدعو لهما. فدعا لهما فـاستـجيب له، فخُيِّرا بـين عذاب الدنـيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما لصاحبه فقالا: نعلـم أن أنواع عذاب الله فـي الآخرة كذا وكذا فـي الـخـلد ومع الدنـيا سبع مرات مثلها. فـامرا أن ينزلا ببـابل، فثَمَّ عذابهما. وزُعم أنهما معلقان فـي الـحديد مطويان يصفّقان بأجنـحتهما.
قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: «وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلِكَيْنِ» يعنـي به رجلـين من بنـي آدم. وقد دللنا علـى خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الـحجة علـى خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقرّاء الأمصار، وكفـى بذلك شاهداً علـى خطئها. وأما قوله { بِبـابِلَ } فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويـل فـيها، فقال بعضهم: إنها بـابل دنبـاوند.
حدثنـي بذلك موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي.
وقال بعضهم: بل ذلك بـابل العراق. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن أبـي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة فـي قصة ذكرتها عن امرأة قدمت الـمدينة، فذكرت أنها صارت فـي العراق ببـابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلـمت منهما السحر.
واختلف فـي معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتـى يخيـل إلـى الـمسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد، فـيخيـل إلـيه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فـيثبته بخلاف ما هو علـى حقـيقته. وكراكب السفـينة السائرة سيراً حثـيثاً يخيـل إلـيه أن ما عاين من الأشجار والـجبـال سائر معه. قالوا: فكذلك الـمسحور ذلك صفته، يحسب بعد الذي وصل إلـيه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به علـى حقـيقته. كالذي:
حدثنـي أحمد بن الولـيد، وسفـيان بن وكيع قالا: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما سُحِرَ كان يُخَيَّـلُ إلـيه أنه يفعل الشيء ولـم يفعله.
حدثنا ابن وكيع، قال: اثنا ابن نـمير، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بنـي زُرَيْق يقال له لبـيد بن الأعصم، حتـى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيـل إلـيه أنه يفعل الشيء وما يفعله.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: كان عروة بن الزبـير وسعيد بن الـمسيب يحدثان: أن يهود بنـي زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها فـي بئر حزم حتـى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر بصره ودله الله علـى ما صنعوا.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى بئر حزم التـي فـيها العقد فـانتزعها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سَحَرَتْنِـي يَهُودُ بَنِـي زُرَيْقٍ "
وأنكر قائل هذه الـمقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره علـى قلب شيء عن حقـيقته، واستسخار شيء من خـلق الله إلا نظير الذي يقدر علـيه من ذلك سائر بنـي آدم، أو إنشاء شيء من الأجسام سوى الـمخاريق والـخدع الـمتـخيـلة لأبصار الناظرين بخلاف حقائقها التـي وصفنا. وقالوا: لو كان فـي وُسْع السحرة إنشاء الأجسام وقلب لـحقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لـم يكن بـين الـحقّ والبـاطل فَصْل، ولـجاز أن تكون جميع الـمـحسوسات مـما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفـي وصف الله جل وعزّ سحرة فرعون بقوله:
{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ }
[طه: 66]. وفـي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيـل إلـيه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة علـى بطول دعوى الـمدعين: أن الساحر ينشىء أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذّر استسخاره علـى غيره من بنـي آدم. كالـموات والـجماد والـحيوان، وصحة ما قلنا.
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحوّل الإنسان حماراً، وأن يسحر الإنسان والـحمار وينشىء أعياناً وأجساماً. واعتلّوا فـي ذلك بـما:
حدثنا به الربـيع بن سلـيـمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبـي الزناد، قال: حدثنـي هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علـيَّ امرأةٌ من أهل دومة الـجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك، تسأله عن شيء دخـلت فـيه من أمر السحر ولـم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختـي، فرأيتها تبكي حين لـم تـجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيشفـيها، كانت تبكي حتـى إنـي لأرحمها، وتقول: إنـي لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لـي زوج فغاب عنـي، فدخـلت علـيّ عجوز فشكوت ذلك إلـيها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتـيك، فلـما كان اللـيـل جاءتنـي بكلبـين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلـم يكن كشيء حتـى وقـفنا ببـابل، فإذا برجلـين معلقـين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلـم السحر؟ فقالا: إما نـحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبـيت وقلت: لا، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التّنور فبُولـي فـيه فذهبت ففزعت فلـم أفعل، فرجعت إلـيهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئاً؟ قلت: لـم أر شيئاً، فقالا لـي: لـم تفعلـي، ارجعي إلـى بلادك ولا تكفري فأبـيت، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التنور فبولـي فـيه فذهبت، فـاقشعررت وخفت.
ثم رجعت إلـيهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لـم أر شيئاً، فقالا: كذبت لـم تفعلـي، ارجعي إلـى بلادك ولا تكفري، فإنك علـى رأس أمرك فأبـيت، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التنور فبولـي فـيه فذهبت إلـيه فبلت فـيه، فرأيت فـارساً متقنعاً بحديد خرج منـي حتـى ذهب فـي السماء وغاب عنـي حتـى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: فـارساً متقنعاً خرج منـي فذهب فـي السماء حتـى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيـمانك خرج منك اذهبـي فقلت للـمرأة: والله ما أعلـم شيئاً وما قالا لـي شيئاً، فقالت: بلـى، لن تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمـح فـابذري فبذرت، فقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلـي فأحقلت، ثم قلت: أفركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: أطحنـي فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت. فلـما رأيت أنـي لا أريد شيئاً إلا كان سقط فـي يدي وندمت والله يا أمّ الـمؤمنـين، والله ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً.
قال أهل هذه الـمقالة بـما وصفنا واعتلوا بـما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر علـى فعل ما ادّعى أنه يقدر علـى فعله ما قدر أن يفرّق بـين الـمرء وزوجه، قالوا: وقد أخبر الله تعالـى ذكره عنهم أنهم يتعلـمون من الـملكين ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، وذلك لو كان علـى غير الـحقـيقة وكان علـى وجه التـخيـيـل والـحسبـان، لـم يكن تفريقا علـى صحة، وقد أخبر الله تعالـى ذكره عنهم أنهم يفرّقون علـى صحة. وقال آخرون: بل السحر أخذ بـالعين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وما يُعَلِّـمانِ مِنْ أحَدٍ حتـى يَقُولا إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }.
وتأويـل ذلك: وما يعلـم الـملكان أحداً من الناس الذي أنزل علـيهما من التفريق بـين الـمرء وزوجه حتـى يقولا له: إنـما نـحن بلاء وفتنة لبنـي آدم فلا تكفر بربك. كما:
حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: إذا أتاهما يعنـي هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنـما نـحن فتنة. فإن أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبُلْ علـيه. فإذا بـال علـيه خرج منه نور يسطع حتـى يدخـل السماء، وذلك الإيـمان وقـيـل شيء أسود كهيئة الدخان حتـى يدخـل فـي مسامعه وكل شيء منه، فلذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علـماه السحر. فذلك قول الله: { وَما يُعَلِّـمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتـى يَقُولا إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والـحسن: { حتـى يَقُولا إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال: أخذ علـيهما أن لا يعلِّـما أحداً حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: كانا يعلـمان الناس السحر، فأخذ علـيهما أن لا يعلـما أحداً حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، قال: قال غير قتادة: أخذ علـيهما أن لا يعلـما أحداً حتـى يتقدما إلـيه فـيقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الـحسن، قال: أخذ علـيهما أن يقولا ذلك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخذ الـميثاق علـيهما أن لا يعلـما أحداً حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر، لا يجترىء علـى السحر إلا كافر. وأما الفتنة فـي هذا الـموضع، فإن معناها الاختبـار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر.
وَقَدْ فُتِنَ النّاسُ
فـي دِينِهِمْ
|
|
وخَـلَّـى ابنُ
عَفّـانَ شَرّا طَوِيلاَ
|
ومنه قوله: فتنت الذهبَ فـي النار: إذا امتـحنتها
لتعرف جودتها من رداءتها، أفتنها فتنة وفُتوناً. كما:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ } أي بلاء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ }.
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا } خبر مبتدأ عن الـمتعلـمين من الـملكين ما أنزل علـيهما، ولـيس بجواب لقوله: { وَمَا يُعَلِّـمَانِ مِنْ أَحَدٍ } بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع، فقـيـل: فـيتعلـمون.
فمعنى الكلام إذا: وما يعلـمان من أحد حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة. فـيأبون قبول ذلك منهما فـيتعلـمون منهما ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه.
وقد قـيـل: إن قوله: { فَـيَتَعَلّـمُونَ } خبر عن الـيهود معطوف علـى قوله: { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وجعلوا ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم.
والذي قلنا أشبه بتأويـل الآية لأن إلـحاق ذلك بـالذي يـلـيه من الكلام ما كان للتأويـل وجه صحيح أَوْلـى من إلـحاقه بـما قد حيـل بـينه وبـينه من معترض الكلام. والهاء والـميـم والألف من قوله: { مِنْهُمَا } من ذكر الـملكين. ومعنى ذلك: فـيتعلـم الناس من الـملكين الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه. و«ما» التـي مع «يفرّقون» بـمعنى «الذي». وقـيـل معنى ذلك: السحر الذي يفرّقون به، وقـيـل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم فـي ذلك فـيـما مضى قبل. وأما الـمرء فإنه بـمعنى رجل من أسماء بنـي آدم، والأنثى منه الـمرأة يوحد ويثنى، ولا تـجمع ثلاثيه علـى صورته، يقال منه: هذا امرؤ صالـح، وهذان امرآن صالـحان، ولا يقال: هؤلاء امرءو صدق، ولكن يقال: هؤلاء رجال صدق، وقوم صدق. وكذلك الـمرأة توحد وتثنى ولا تـجمع علـى صورتها، يقال: هذه امرأة وهاتان امرأتان، ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن هؤلاء نسوة.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { إنَّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ } أي بلاء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ }.
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا } خبر مبتدأ عن الـمتعلـمين من الـملكين ما أنزل علـيهما، ولـيس بجواب لقوله: { وَمَا يُعَلِّـمَانِ مِنْ أَحَدٍ } بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع، فقـيـل: فـيتعلـمون.
فمعنى الكلام إذا: وما يعلـمان من أحد حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة. فـيأبون قبول ذلك منهما فـيتعلـمون منهما ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه.
وقد قـيـل: إن قوله: { فَـيَتَعَلّـمُونَ } خبر عن الـيهود معطوف علـى قوله: { وَلَكِنَّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّـمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وجعلوا ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم.
والذي قلنا أشبه بتأويـل الآية لأن إلـحاق ذلك بـالذي يـلـيه من الكلام ما كان للتأويـل وجه صحيح أَوْلـى من إلـحاقه بـما قد حيـل بـينه وبـينه من معترض الكلام. والهاء والـميـم والألف من قوله: { مِنْهُمَا } من ذكر الـملكين. ومعنى ذلك: فـيتعلـم الناس من الـملكين الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه. و«ما» التـي مع «يفرّقون» بـمعنى «الذي». وقـيـل معنى ذلك: السحر الذي يفرّقون به، وقـيـل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم فـي ذلك فـيـما مضى قبل. وأما الـمرء فإنه بـمعنى رجل من أسماء بنـي آدم، والأنثى منه الـمرأة يوحد ويثنى، ولا تـجمع ثلاثيه علـى صورته، يقال منه: هذا امرؤ صالـح، وهذان امرآن صالـحان، ولا يقال: هؤلاء امرءو صدق، ولكن يقال: هؤلاء رجال صدق، وقوم صدق. وكذلك الـمرأة توحد وتثنى ولا تـجمع علـى صورتها، يقال: هذه امرأة وهاتان امرأتان، ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن هؤلاء نسوة.
وأما الزوج، فإن أهل الـحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بـمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالـى ذكره:
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }
[الأحزاب: 37] وتـميـم وكثـير من قـيس وأهل نـجد يقولون: هي زوجته، كما قال الشاعر:
وَإنَّ الّذِي يَـمْشِي
يُحَرِّشُ زَوْجَتِـي
|
|
كماشٍ إلـى أُسْدِ
الشّرَى يَسْتَبِـيـلُها
|
فإن قال قائل: وكيف يفرّق الساحر بـين الـمرء
وزوجه؟ قـيـل: قد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى السحر تـخيـيـل الشيء إلـى الـمرء
بخلاف ما هو به فـي عينه وحقـيقته بـما فـيه الكفـاية لـمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك
صحيحاً بـالذي استشهدنا علـيه، فتفريقه بـين الـمرء وزوجه تـخيـيـله بسحره إلـى كل
واحد منهما شخصَ الآخر علـى خلاف ما هو به فـي حقـيقته من حُسْن وجمال حتـى يقبحه
عنده فـينصرف بوجهه ويعرض عنه حتـى يحدث الزوج لامرأته فراقا، فـيكون الساحر مفرقا
بـينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بـينهما. وقد دللنا فـي غير موضع من
كتابنا هذا علـى أن العرب تضيف الشيء إلـى مسببه من أجل تسببه وإن لـم يكن بـاشر
فعل ما حدث عن السبب، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع فكذلك تفريق الساحر
بسحره بـين الـمرء وزوجه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قاله عدد من أهل التأويـل. ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وتفريقهما أن يُؤَخِّذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغِّض كلّ واحد منهما إلـى صاحبه.
وأما الذين أبوا أن يكون الـملكان يعلـمان الناس التفريق بـين الـمرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويـل قوله: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا } إلـى «فـيتعلـمون» مكان ما علـماهم ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، كقول القائل: لـيت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا. كما قال الشاعر:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وتفريقهما أن يُؤَخِّذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغِّض كلّ واحد منهما إلـى صاحبه.
وأما الذين أبوا أن يكون الـملكان يعلـمان الناس التفريق بـين الـمرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويـل قوله: { فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا } إلـى «فـيتعلـمون» مكان ما علـماهم ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، كقول القائل: لـيت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا. كما قال الشاعر:
جَمَعْتَ مِنَ الـخَيْرَاتِ
وَطْبـا وعُلْبَةً
|
|
وَصرّا الأخلافِ
الـمُزَّمَـمة البُزْلِ
|
وَمِنْ كُلّ أخْلاقِ
الكِرَامِ نَـمِيـمَةً
|
|
وَسَعْيا علـى الـجارِ
الـمُـجاوِرِ بـالنَّـجْلِ
|
يريد بقوله: «جمعت من الـخيرات»، مكان خيرات
الدنـيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنـيئة. ومنه قول الآخر:
صَلَدَتْ صَفَـاتُكَ
أنْ تَلِـينَ حُيُودُها
|
|
وَوَرِثْتَ مِنْ سَلَفِ
الكِرَامِ عُقُوقَا
|
يعنـي ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بـاذْنِ اللَّهِ }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } وما الـمتعلـمون من الـملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، بضارّين بـالذي تعلـموه منهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه من أحد من الناس، إلاّ من قد قضى الله علـيه أن ذلك يضرّه فأما من دفع الله عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقَـى، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بـاذْنِ اللَّهِ }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } وما الـمتعلـمون من الـملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، بضارّين بـالذي تعلـموه منهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه من أحد من الناس، إلاّ من قد قضى الله علـيه أن ذلك يضرّه فأما من دفع الله عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقَـى، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه.
وللإذن فـي كلام العرب أوجه: منها الأمر علـى غير وجه الإلزام، وغير جائز أن يكون منه قوله: { وَما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإذْنِ اللَّهِ } لأن الله جل ثناؤه قد حرّم التفريق بـين الـمرء وحلـيـلته بغير سحر فكيف به علـى وجه السحر علـى لسان الأمة. ومنها التـخـلـية بـين الـمأذون له والمخلى بـينه وبـينه. ومنها العلـم بـالشيء، يقال منه: قد أذنت بهذا الأمر، إذا علـمت به، آذنَ به إذْنا ومنه قول الـحطيئة:
ألا يا هِنْدُ إنْ
جَدَّدْتِ وَصْلاً
|
|
وَإلاَّ فأْذَنِـينِـي
بـانْصِرَامِ
|
يعنـي فأعلـمينـي. ومنه قوله جل ثناؤه: {
فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ } وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: { وَما
هُمْ بِضَارّينَ } بـالذي تعلـموا من الـملكين من أحد إلا بعلـم الله. يعنـي
بـالذي سبق له فـي علـم الله أنه يضرّه. كما:
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان فـي قوله: { ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } قال: بقضاء الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَيَتَعَلّـمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ }.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: { وَيَتَعَلّـمُونَ } أي الناس الذين يتعلـمون من الـملكين، ما أنزل علـيهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، يتعلـمون منهما السحر الذي يضرّهم فـي دينهم ولا ينفعهم فـي معادهم. فأما فـي العاجل فـي الدنـيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } الفريق الذين لـما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لـما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلـمون، { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } فقال جل ثناؤه: لقد علـم النابذون من يهود بنـي إسرائيـل كتابـي وراء ظهورهم تـجاهلاً منهم، التاركون العمل بـما فـيه، من اتّبـاعك يا مـحمد واتّبـاع ما جئت به، بعد إنزالـي إلـيك كتابـي مصدقاً لـما معهم، وبعد إرسالك إلـيهم بـالإقرار بـما معهم وما فـي أيديهم، الـمؤثرون علـيه اتبـاع السحر الذي تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان، والذي أنزل علـى الـملكين ببـابل هاروت وماروت لـمن اشترى السحر بكتابـي الذي أنزلته علـى رسولـي فآثره علـيه ماله فـي الآخرة من خلاق. كما:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يقول: قد علـم ذلك أهل الكتاب فـي عهد الله إلـيهم أن الساحر لا خَلاقَ له عند الله يوم القـيامة.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَن اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } يعنـي الـيهود، يقول: لقد علـمت الـيهود أن من تعلـمه أو اختاره ما له فـي الآخرة من خلاق.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان فـي قوله: { ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاَّ بإذْنِ اللَّهِ } قال: بقضاء الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَيَتَعَلّـمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ }.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: { وَيَتَعَلّـمُونَ } أي الناس الذين يتعلـمون من الـملكين، ما أنزل علـيهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، يتعلـمون منهما السحر الذي يضرّهم فـي دينهم ولا ينفعهم فـي معادهم. فأما فـي العاجل فـي الدنـيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } الفريق الذين لـما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لـما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلـمون، { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ } فقال جل ثناؤه: لقد علـم النابذون من يهود بنـي إسرائيـل كتابـي وراء ظهورهم تـجاهلاً منهم، التاركون العمل بـما فـيه، من اتّبـاعك يا مـحمد واتّبـاع ما جئت به، بعد إنزالـي إلـيك كتابـي مصدقاً لـما معهم، وبعد إرسالك إلـيهم بـالإقرار بـما معهم وما فـي أيديهم، الـمؤثرون علـيه اتبـاع السحر الذي تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان، والذي أنزل علـى الـملكين ببـابل هاروت وماروت لـمن اشترى السحر بكتابـي الذي أنزلته علـى رسولـي فآثره علـيه ماله فـي الآخرة من خلاق. كما:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يقول: قد علـم ذلك أهل الكتاب فـي عهد الله إلـيهم أن الساحر لا خَلاقَ له عند الله يوم القـيامة.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَن اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } يعنـي الـيهود، يقول: لقد علـمت الـيهود أن من تعلـمه أو اختاره ما له فـي الآخرة من خلاق.
وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } لـمن اشترى ما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: قد علـمت يهود أن فـي كتاب الله فـي التوراة أن من اشترى السحر وترك دين الله ما له فـي الآخرة من خَلاق، فـالنار مثواه ومأواه.
وأما قوله: { لَـمَنِ اشْتَرَاهُ } فإن «من» فـي موضع رفع، ولـيس قوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا } بعامل فـيها لأن قوله: { عَلِـمُوا } بـمعنى الـيـمين فلذلك كانت فـي موضع رفع، لأن الكلام بـمعنى: والله لـمن اشترى السحر ما له فـي الآخرة من خلاق. ولكون قوله: { قَدْ عَلِـمُوا } بـمعنى الـيـمين حققت بلام الـيـمين، فقـيـل: { لَـمَنِ اشُتَرَاهُ } كما يقال: أُقسم لَـمَنْ قام خير مـمن قعد، وكما يقال: قد علـمت لعمرو خير من أبـيك. وأما «من» فهو حرف جزاء. وإنـما قـيـل «اشتراه» ولـم يقل «يشتروه»، لدخول لام القسم علـى «من»، ومن شأن العرب إذا أحدثت علـى حرف الـجزاء لام القسم أن لا ينطقوا فـي الفعل معه إلا ب«فعل» دون «يفعل» إلا قلـيلاً كراهية أن يحدثوا علـى الـجزاء حادثاً وهو مـجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: { لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يُخْرُجُونَ مَعَهُمْ } وقد يجوز إظهار فعله بعده علـى «يفعل» مـجزوما، كما قال الشاعر:
لَئِنْ تَكُ قَدْ
ضَاقَتْ عَلَـيْكُمْ بُـيُوتِكُمْ
|
|
لَـيَعْلَـمُ ربـي أنَّ
بَـيْتِـيَ وَاسِعُ
|
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { ما لَهُ
فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فقال بعضهم: الـخلاق فـي هذا الـموضع: النصيب. ذكر
من قال ذلك:
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يقول: من نصيب.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } من نصيب.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: ثنا وكيع، قال سفـيان: سمعنا فـي: { وَمَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أنه ما له فـي الآخرة من نصيب.
وقال بعضهم: الـخَلاق ههنا: الـحجة. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: { وَمَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: لـيس له فـي الآخرة حجة.
وقال آخرون: الـخلاق: الدين. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: لـيس له دين.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يقول: من نصيب.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } من نصيب.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: ثنا وكيع، قال سفـيان: سمعنا فـي: { وَمَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أنه ما له فـي الآخرة من نصيب.
وقال بعضهم: الـخَلاق ههنا: الـحجة. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: { وَمَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: لـيس له فـي الآخرة حجة.
وقال آخرون: الـخلاق: الدين. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: لـيس له دين.
وقال آخرون: الـخلاق ههنا: القِوَام. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس: { مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال: قِوَام.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى الـخلاق فـي هذا الـموضع: النصيب وذلك أن ذلك معناه فـي كلام العرب. ومنه قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: " لَـيُؤَيِّدَنَّ اللَّهُ هَذَا الدّينَ بأقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ " يعنـي لا نصيب لهم ولا حظّ فـي الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبـي الصلت:
يَدْعُونَ بِـالوَيْـلِ
فِـيها لا خَلاَقَ لَهُمْ
|
|
إِلاَّ سَرَابِـيـلَ
مِنْ قِطْرٍ وأغْلالِ
|
يعنـي بذلك: لا نصيب لهم ولا حظّ إلا السرابـيـل
والأغلال.
فكذل قوله: { مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } ما له فـي الدار الآخرة حظّ من الـجنة من أجل أنه لـم يكن له إيـمان ولا دين ولا عمل صالـح يجازي به فـي الـجنة ويثاب علـيه، فـيكون له حظّ ونصيب من الـجنة. وإنـما قال جل ثناؤه: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فوصفه بأنه لا نصيب له فـي الآخرة، وهو يعنـي به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التـي نفـى من أجلها أن يكون لهم فـي الآخرة نصيب علـى مراده من الـخير، وأنه إنـما يعنـي بذلك أنه لا نصيب لهم فـيها من الـخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فـيها نصيبـاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ }.
قال أبو جعفر رحمه الله: قد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى شروا: بـاعوا فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما بـاع به نفسه من تعلـم السحر لو كان يعلـم سوء عاقبته. كما:
حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } يقول: بئس ما بـاعوا به أنفسهم.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } وقد قال قَبْلُ: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فكيف يكونون عالـمين بأن من تعلـم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بـالسحر أنفسهم؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بـالـجهل بـما هم موصوفون بـالعلـم به، ولكن ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم، وإنـما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلـمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلـمون، ولقد علـموا لـمن اشتراه ما له فـي الآخرة من خلاق. فقوله: { لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } ذمّ من الله تعالـى ذكره فعل الـمتعلـمين من الـملكين التفريق بـين الـمرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بـالسحر عِوَضاً عن دينهم الذي به نـجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بـيعهم، إذ كان قد يتعلـم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه.
فكذل قوله: { مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } ما له فـي الدار الآخرة حظّ من الـجنة من أجل أنه لـم يكن له إيـمان ولا دين ولا عمل صالـح يجازي به فـي الـجنة ويثاب علـيه، فـيكون له حظّ ونصيب من الـجنة. وإنـما قال جل ثناؤه: { ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فوصفه بأنه لا نصيب له فـي الآخرة، وهو يعنـي به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التـي نفـى من أجلها أن يكون لهم فـي الآخرة نصيب علـى مراده من الـخير، وأنه إنـما يعنـي بذلك أنه لا نصيب لهم فـيها من الـخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فـيها نصيبـاً.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ }.
قال أبو جعفر رحمه الله: قد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى شروا: بـاعوا فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما بـاع به نفسه من تعلـم السحر لو كان يعلـم سوء عاقبته. كما:
حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } يقول: بئس ما بـاعوا به أنفسهم.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } وقد قال قَبْلُ: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فكيف يكونون عالـمين بأن من تعلـم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بـالسحر أنفسهم؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بـالـجهل بـما هم موصوفون بـالعلـم به، ولكن ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم، وإنـما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلـمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلـمون، ولقد علـموا لـمن اشتراه ما له فـي الآخرة من خلاق. فقوله: { لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } ذمّ من الله تعالـى ذكره فعل الـمتعلـمين من الـملكين التفريق بـين الـمرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بـالسحر عِوَضاً عن دينهم الذي به نـجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بـيعهم، إذ كان قد يتعلـم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه.
ثم عاد إلـى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلـمون: { وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمانَ، وما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ }. فأخبر عنهم أنهم قد علـموا أن من اشترى السحر ما له فـي الآخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله علـى علـم منهم بها، ويكفرون بـالله ورسله، ويؤثرون اتبـاع الشياطين، والعمل بـما أحدثته من السحر علـى العمل بكتابه ووحيه وتنزيـله، عناداً منهم وبغياً علـى رسله، وتعديّاً منهم لـحدوده، علـى معرفة منهم بـما لـمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب، فذلك تأويـل قوله.
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يعنـي به الشياطين، وأن قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } يعنـي به الناس. وذلك قول لـجميع أهل التأويـل مخالف وذلك أنهم مـجمعون علـى أن قوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمَنِ اشْتَرَاهُ } معنـيٌّ به الـيهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دلّ علـيه التنزيـل، لأن الآيات قبل قوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمَنِ اشْتَرَاهُ } وبعد قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } جاءت من الله بذمّ الـيهود، وتوبـيخهم علـى ضلالهم، وذمًّا لهم علـى نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علـمهم بخطأ فعلهم. فقوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أحد تلك الأخبـار عنهم.
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: { وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } فنفـى عنهم العلـم هم الذين وصفهم الله بقوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } وإنـما نفـى عنهم جل ثناؤه العلـم بقوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } بعد وصفه إياهم بأنهم قد علـموا بقوله: { وَلَقَدْ عَلِـمُوا } من أجل أنهم لـم يعملوا بـما علـموا، وإنـما العالـم العامل بعلـمه، وأما إذا خالف عمله علـمه فهو فـي معانـي الـجهال. قال: وقد يقال للفـاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالـماً: لو علـمت لأقصرت كما قال كعب بن زهير الـمزنـي، وهو يصف ذئبـا وغرابـاً تبعاه لـينالا من طعامه وزاده:
إذَا حَضَرَانِـي
قُلْتُ لَوْ تَعْلَـمَا نِهِ
|
|
ألـم تَعْلَـمَا أنـي
مِنَ الزَّادِ مُرْمِلُ
|
فأخبر أنه قال لهما: لو تعلـمانه، فنفـى عنهما
العلـم. ثم استـخبرهما فقال: ألـم تعلـما. قالوا: فكذلك قوله: { وَلَقَدْ
عَلِـمُوا لـمنِ اشْتَرَاهُ } و: { لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } وهذا تأويـل وإن
كان له مخرج ووجهٌ فإنه خلاف الظاهر الـمفهوم بنفس الـخطاب. أعنـي بقوله: {
وَلَقَدْ عَلِـمُوا } وقوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ } وإنـما هو استـخراج.
وتأويـل القرآن علـى الـمفهوم الظاهر الـخطاب دون الـخفـيّ البـاطن منه، حتـى
تأتـي دلالة من الوجه الذي يجب التسلـيـم له بـمعنى خلاف دلـيـله الظاهر الـمتعارف
فـي أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن، أَوْلَـى.