*
تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق
{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ }
عطف على نبذ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها، أو تتبعها
الشياطين من الجن، أو الإنس، أو منهما. { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي عهده،
وتتلو حكاية حال ماضية، قيل: كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب،
ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه
السلام حتى قيل: إن الجن يعلمون الغيب، وأن مُلْكَ سليمان تَمَّ بهذا العلم، وأنه
تُسَخَّرُ به الجن والإِنس والريح له. { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } تكذيب لمن زعم
ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبياً كان معصوماً منه. {
وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } باستعماله، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي و
{ لَكِنِ } بالتخفيف، ورفع { ٱلشَّيـٰطِينِ }. { يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }
إغواءً وإضلالاً، والجملة حال من الضمير، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله
بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في
الشرارة وخبث النفس. فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تميز الساحر عن
النبي والولي، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو
يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم، وتسميته سحراً عمل التجوز، أو لما فيه من الدقة
لأنه في الأصل لما خفي سببه. { وَمَا أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } عطف على السحر
والمراد بهما واحد، والعطف لتغاير الاعتبار، أو المراد به نوع أقوى منه، أو على ما
تتلو. وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس، وتمييزاً بينه وبين
المعجزة. وما روي أنهما مثلاً بشرين، وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها:
زهرة، فحملتهما على المعاصي والشرك، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن
اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر. وقيل: رجلان سميا
ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده قراءة الملكين بالكسر. وقيل: ما أنزل نفي معطوف على
ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة. { بِبَابِلَ } ظرف، أو حال من الملكين،
أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة. { هَـٰرُوتُ وَمَـٰرُوتُ }
عطف بيان للملكين، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة، ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى
الكسر لانصرفا. ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض، وما بينهما
اعتراض. وقرىء بالرفع على هما { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ }. { وَمَا يُعَلّمَانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } فمعناه
على الأول ما يعلمان أحداً حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن
تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه
والعمل به.
وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به. وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا. { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } الضمير لما دل عليه من أحد. { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما. { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات، بل بأمره تعالى وجعله. قرىء { بضاري } على الإضافة إلى أحد، وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف. { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } لأنهم يقصدون به العمل، أو لأن العلم يجر إلى العمل غالباً { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين. وفيه أن التحرز عنه أولى { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أي اليهود. { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى، والأظهر أن اللام لام الإبتداء علقت علموا عن العمل { مَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } نصيب { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } يحتمل المعنيين على ما مر. { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يتفكرون فيه، أو يعلمون قبحه على التعيين، أو حقية ما يتبعه من العذاب، والمثبت لهم أولاً على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم.