Sunday, 23 August 2015

سورة الفاتحة آية 0007 - 00606 ت - تفسير مفاتيح الغيب التفسير الكبير - تفسير الرازي



* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الفصل الثاني
في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط
المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة
ولنتكلم في قولنا: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } فنقول: أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل، وأما الباء في قوله «بالله» فهي باء الإلصاق، وهي نوع من أنواع حروف الجر، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف. وأما قولنا «الله» فهو اسم معين: إما من أسماء الأعلام، أو من الأسماء المشتقة، على اختلاف القولين فيه، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم، وقد ثبت في العلوم العقلية، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس، لأن الجنس جزء من ماهية النوع، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة، فقولنا: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولاً، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها، ثم بعد الفراغ منه لا بدّ من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم، وإلى الاسم المشتق، وإلى اسم الجنس، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة { ٱللَّهِ } اسم علم، أو اسم مشتق، وبتقدير أن يكون مشتقاً فهو مشتق من ماذا؟ ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها، وأيضاً يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق، ثم يذكر بعده أقسام الفعل، ومن جملتها الفعل المضارع، ويذكر حده وخواصه وأقسامه، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا «أعوذ» على التخصيص، وأيضاً يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جداً.
ثم نقول: والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول: الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة، فيجب البحث أيضاً عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها، وأيضاً فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة، وهي: الكلام، والقول، واللفظ، واللغة، والعبارة، فيجب البحث عن كل واحد منها، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة، أو من الألفاظ المتباينة، وبتقدير أن تكون ألفاظاً متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل.
ثم نقول: والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول: لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف، فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت، وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس، وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفساً على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه، وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة، ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين، وأما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له؟ وأيضاً لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت، وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس، ويجب أيضاً البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح.
ثم نقول: والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع، وأما الألوان والأضواء فهي
وأما قوله جل جلاله { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فما أجل هذه المقامات،وأعظم مراتب هذه الدرجات! ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادىء هذه الحالات،فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السوره مشتملة على مباحث لا نهاية لها،وأسرار لاغاية لها، وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة،كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين. كيفيات محسوسة بحاسة البصر، والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق، وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة، فهل يصح أن يقال: هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية، وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا؟.
ثم نقول: والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور، فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا؟.
ثم نقول: والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف، ومقولة الكم، ومقولة النسبة عرض، فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه، وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه.
ثم نقول: والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود، فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم، وهي كيفية وقوع الموجود على الواجب والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب.
ثم نقول: والمرتبة العاشرة أن نقول: لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود؟ ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم، وأيضاً فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم، ولا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلاً لغيره، فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلاً للمعلوم، وجب أن يكون غير المعلوم معلوماً، فحينئذٍ يكون المقابل للمعلوم معلوماً، وذلك محال.
واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها، ولا يحيط عقله بأقل القليل منها، فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة.
الفصل الثالث
في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط
المسائل الكثيرة من هذه السورة
اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها، ثم إذا حكينا فيها مثلاً شبهات خمسة فكل واحد منها أيضاً مسألة مستقلة بنفسها، ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة الثلاثة أيضاً مسائل ثلاثة، وإذا قلنا مثلاً: الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجهاً، وفصلنا تلك الوجوه، فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة، وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير، فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة، وإذا وقفت على هذه الدقيقة فنقول: إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور، والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم، والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن، والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض، والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة، والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف ـ عظم الخطب، واتسع الباب، ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } ونرجو من فضل الله العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم.
الكتاب الأول
في العلوم المستنبطة من قوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
اعلم أن العلوم المستنبطة من هذه الكلمة نوعان: أحدهما: المباحث المتعلقة باللغة والإعراب والثاني: المباحث المتعلقة بعلم الأصول والفروع.
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، وفيه أبواب.
الباب الأول
في المباحث المتعلقة بالكلمة، وما يجري مجراها، وفيه مسائل
المسألة الأولى: اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق، ثم إن الاشتقاق على نوعين: الاشتقاق الأصغر، والاشتقاق الأكبر، أما الاشتقاق الأصغر فمثل اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر، ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه، وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة، فنقول: أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب، كقولنا: «من» وقلبه «نم» وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا: «حمد» وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التقديرات الثلاث فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا: «عقرب، وثعلب» وهي تقبل أربعة وعشرين وجهاً من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات، وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجهاً، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا: «سفرجل» وهي تقبل مائة وعشرين نوعاً من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجهاً على ما سبق تقريره، وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه فاضرب العدد الفوقاني في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني، والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف، أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة، وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة، أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جداً، وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة.
وأيضاً الكلمات الثلاثية قلما يوجد فيها ما يكون جميع تقاليبها الممكنة معتبرة. بل يكون في الأكثر بعضها مستعملاً وبعضها مهملاً، ومع ذلك فإن القدر الممكن منه هو الغاية القصوى في تحقيق الكلام في المباحث اللغوية.
المسألة الثالثة: في تفسير الكلمة: اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة، خمسة منها معتبرة، وواحدة ضائع، فالأول: «ك ل م» فمنه الكلام، لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه، وأيضاً يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى، ومنه الكلم للجرح، وفيه شدة، والكلام ما غلظ من الأرض، وذلك لشدته، الثاني: «ك م ل» لأن الكامل أقوى من الناقص، والثالث: «ل ك م» ومعنى الشدة في اللكم ظاهر، والرابع: «م ك ل» ومنه «بئر مكول» إذا قل مائها، وإذا كان كذلك كان ورودها مكروهاً فيحصل نوع شدة عند ورودها، الخامس: «م ل ك» يقال «ملكت العجين» إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوى، ومنه «ملك الإنسان» لأنه نوع قدرة، و «أملكت الجارية» لأن بعلها يقدر عليها.
المسألة الرابعة: لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها «كلمة»، ومنها يقال: «كلمة الشهادة»، ويقال: «الكلمة الطيبة صدقة»، ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز، وذلك لوجهين، الأول: أن المركب إنما يتركب من المفردات، فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقاً لاسم الجزء على الكل، والثاني: أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيهاً بالمفرد في تلك الوجوه، والمشابهة سبب من أسباب حسن المجاز، فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب.
المسألة الخامسة: لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين: أحدهما: يقال لعيسى كلمة الله، إما لأنه حدث بقوله: «كن» أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك، والثاني: أنه تعالى سمى أفعاله كلمات، كما قال تعالى في الآية الكريمة:
قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـٰتِ رَبّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى }
[الكهف: 109] والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم والله أعلم.
المسألة السادسة في القول: هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة، فالأول: «ق و ل» فمنه القول؛ لأن ذلك أمر سهل على اللسان، الثاني: «ق ل و» ومنه القلو وهو حمار الوحش، وذلك لخفته في الحركة ومنه «قلوت البر والسويق» فهما مقلوان، لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة، ومنه القلولي، وهو الخفيف الطائش، والثالث: «و ق ل» الوقل الوعل، وذلك لحركته، ويقال «توقل في الجبل» إذا صعد فيه، والرابع: «و ل ق» يقال: ولق يلق إذا أسرع، وقرىء
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ }
[النور: 15] أي: تخفون وتسرعون، والخامس: «ل و ق» كما جاء في الحديث " لا آكل الطعام إلا ما لوق لي " أي: أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح، ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل، والسادس: «ل ق و» ومنه اللقوة وهي العقاب، قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها، ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش، واللقوة الناقة السريعة اللقاح.
المسألة السابعة: قال ابن جني رحمه الله تعالى: اللغة فعلة من لغوت أي: تلكمت، وأصلها لغوة ككرة وقلة فإن لاماتها كلها واوات، بدليل قولهم كروت بالكرة وقاوت بالقلة، وقيل فيه لغى يلغى إذا هذا، ومنه قوله تعالى:
وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً }
[الفرقان: 72] قلت: إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره ههنا، وهو حاصل فيه، فالأول: «ل غ و» ومنه اللغة ومنه أيضاً الكلام اللغو، والعمل اللغو، والثاني: «ل و غ» ويبحث عنه، والثالث: «غ ل و» ومنه يقال: لفلان غلو في كذا، ومنه الغلوة، والرابع: «غ و ل» ومنه قوله تعالى:
لاَ فِيهَا غَوْلٌ }
[الصافات: 47] والخامس: «و غ ل» ومنه يقال: فلان أوغل في كذا والسادس: «و ل غ» ومنه يقال: ولغ الكلب في الإناء، ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه.
المسألة الثامنة في اللفظ: وأقول: أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز، وذلك لأنها إنما تحدث عنه إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج يحبسه في المحابس المعينة، ثم يزيل ذلك الحبس، فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه، والحاصل أن اللفظ هو: الرمي، وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين: الأول: أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه، وذلك هو الإخراج، واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات، فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب، والثاني: أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيهاً بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج، والمشابهة إحدى أسباب المجاز.
المسألة التاسعة، العبارة: وتركيبها من «ع ب ر» وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال، فالأول: «ع ب ر» ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر؛ وأيضاً كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع، ومنه العبرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج، ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب. ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل بواسطته من أحد طرفي البحر إلى الثاني، ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة، والثاني: «ع ر ب» ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف ومنه «فلان أعرب في كلامه» لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولاً فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان، والثالث: «ب ر ع» ومنه «فلان برع في كذا» إذا تكامل وتزايد، الرابع: «ب ع ر» ومنه البعر لكونه منتقلاً من الداخل إلى الخارج، الخامس: «ر ع ب» ومنه يقال للخوف رعب لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حال أخرى، والسادس: «ر ب ع» ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها.
الفرق بين الكلمة والكلام:
المسألة العاشرة: قال أكثر النحوين: الكلمة غير الكلام، فالكلمة هي اللفظة المفردة، والكلام هو الجملة المفيدة، وقال أكثر الأصوليين إنه لا فرق بينهما، فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب، وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين، وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاماً مشعراً بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة، وذكر كلمات أخرى إلا أنها في غاية الضعف، أما الأصوليون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه، الأول: أن العقلاء قد اتفقوا على أن الكلام ما يضاد الخرس والسكوت، والتكلم بالكلمة الواحدة يضاد الخرس والسكوت، فكان كلاماً، الثاني: أن اشتقاق الكلمة من الكلم، وهو الجرح والتأثير، ومعلوم أن من سمع كلمة واحدة فإنه يفهم معناها، فههنا قد حصل معنى التأثير، فوجب أن يكون كلاماً، والثالث: يصح أن يقال: إن فلاناً تكلم بهذه الكلمة الواحدة، ويصح أن يقال أيضاً: أنه ما تكلم إلا بهذه الكلمة الواحدة، وكل ذلك يدل على أن الكلمة الواحدة كلام، وإلا لم يصح أن يقال تكلم بالكلمة الواحدة، الرابع: أنه يصح أن يقال تكلم فلان بكلام غير تام، وذلك يدل على أن حصول الإفادة التامة غير معتبر في اسم الكلام.
مسألة فقهية في الطلاق:
المسألة الحادية عشرة: تفرع على الاختلاف المذكور مسألة فقهية، وهي أولى مسائل أيمان «الجامع الكبير» لمحمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وهي أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن كلمتك فأنت طالق ثلاث مرات، قالوا: إن ذكر هذا الكلام في المرة الثانية طلقت طلقة واحدة، وهل تنعقد هذه الثانية طلقة؟ قال أبو حنيفة وصاحباه: تنعقد، وقال زفر: لا تنعقد، وحجة زفر أنه لما قال في المرة الثانية إن كلمتك فعند هذا القدر من الكلام حصل الشرط، لأن اسم الكلام اسم لكل ما أفاد شيئاً، سواء أفاد فائدة تامة أو لم يكن كذلك وإذا حصل الشرط حصل الجزاء، وطلقت عند قوله إن كلمتك، فوقع تمام قوله: «أنت طالق» خارج تمام ملك النكاح، وغير مضاف إليه، فوجب أن لا تنعقد، وحجة أبي حنيفة أن الشرط ـ وهو قوله إن كلمتك ـ غير تام، والكلام اسم للجملة التامة، فلم يقع الطلاق إلا عند تمام قوله إن كلمتك فأنت طالق، وحاصل الكلام أنا إن قلنا إن اسم الكلام يتناول الكلمة الواحدة كان القول قول زفر، وإن قلنا إنه لا يتناول إلا الجملة فالقول قول أبي حنيفة ومما يقوي قول زفر أنه لو قال في المرة الثانية «إن كلمتك» وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله: «فأنت طالق» طلقت، لولا أن هذا القدر كلام وإلا لما طلقت، ومما يقوي قول أبي حنيفة أنه لو قال: «كلما كلمتك فأنت طالق» ثم ذكر هذه الكلمة في المرة الثانية فكلمة «كلما» توجب التكرار فلو كان التكلم بالكلمة الواحدة كلاماً لوجب أن يقع عليه الطلقات الثلاث عند قوله في المرة الثانية: «كلما كلمتك» وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله: «فأنت طالق» لأن هذا المجموع مشتمل على ذكر الكلمات الكثيرة، وكل واحد منها يوجب وقوع الطلاق وأقول: لعل زفر يلتزم ذلك.
المسألة الثانية عشرة: محل الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وزفر ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا قال: «إن كلمتك فأنت طالق» أما لو قال: «إن تكلمت بكلمة فأنت طالق» أو قال: «إن نطقت» أو قال: «إن تلفظت بلفظة» أو قال: «إن قلت قولاً فأنت طالق» وجب أن يكون الحق في جميع هذه المسائل قول زفر قولاً واحداً، والله أعلم.
هل يطلق الكلام على المهمل:
المسألة الثالثة عشرة: لفظ الكلمة والكلام هل يتناول المهمل أم لا؟ منهم من قال يتناوله لأنه يصح أن يقال الكلام منه مهمل ومنه مستعمل، ولأنه يصح أن يقال تكلم بكلام غير مفهوم، ولأن ا لمهمل يؤثر في السمع فيكون معنى التأثير والكلام حاصلاً فيه، ومنهم من قال الكلمة والكلام مختصان بالمفيد، إذ لو لم يعتبر هذا القيد لزم تجويز تسمية أصوات الطيور بالكلمة والكلام.
هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاماً:
المسألة الرابعة عشرة: إذا حصلت أصوات متركبة تركيبًا يدل على المعاني إلا أن ذلك التركيب كان تركيباً طبيعياً لا وضعياً فهل يسمى مثل تلك الأصوات كلمة وكلاماً؟ مثل أن الإنسان عند الراحة أو الوجع قد يقول أخ، وعند السعال قد يقول أح أح، فهذه أصوات مركبة، وحروف مؤلفة، وهي دالة على معانٍ مخصوصة، لكن دلالتها على مدلولاتها بالطبع لا بالوضع، فهل تسمى أمثالها كلمات؟ وكذلك صوت القطا يشبه كأنه يقول قطا، وصوت اللقلق يشبه كأنه يقول لق لق، فأمثال هذه الأصوات هل تسمى كلمات؟ اختلفوا فيه، وما رأيت في الجانبين حجة معتبرة، وفائدة هذا البحث تظهر فيما إذا قال: إن سمعت كلمة فعبدي حر، فهل يترتب الحنث والبر على سماع هذه الألفاظ أم لا؟.
المسألة الخامسة عشرة: قال ابن جني: لفظ القول يقع على الكلام التام، وعلى الكلمة الواحدة، على سبيل الحقيقة، أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة، ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة، أما تركيب الكلام فيفيد التأثير، وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة؛ إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة، ومما يقوي ذلك قول الشاعر: ـ
سمى نطقها بمجرد القاف قولاً.
المسألة السادسة عشرة: قال أيضاً إن لفظ القول يصح جعله مجازاً عن الاعتقادات والآراء، كقولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، أي: يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن صحة رؤية الله تعالى فقال: لا تجوز رؤيته، فتقول: هذا قول المعتزلة، ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف، وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازاً عنه.
يستعمل القول في غير النطق:
المسألة السابعة عشرة: لفظ قال قد يستعمل في غير النطق، قال أبو النجم: ـ
قالت له الطير تقدم راشدا   إنك لا ترجع إلا حامدا
وقال آخر: ـ
وقالت له العينان سمعاً وطاعة   وحدرتا كالدر لما يثقب
وقال: ـ
امتلأ الحوض وقال: قطني   مهلاً رويداً قد ملأت بطني
ويقال في المثل: قال الجدار للوتد لم تشقني، قال: سل من يدقني، فإن الذي ورايى ما خلاني ورايى، ومنه قوله تعالى:
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[النحل: 40] وقوله تعالى:
فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
[فصلت: 11].
المسألة الثامنة عشرة: الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات، أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول، واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر: أما القرآن فقوله تعالى:
وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ }
[المنافقون: 1] وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمداً رسول الله وكانوا صادقين فيه، فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس، ولقائل أن يقول: لا نسلم أنهم ما كانوا كاذبين في القول اللساني، قوله: «أخبروا أن محمداً رسول الله» قلنا: لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمداً رسول الله، لأنهم كانوا قالوا:
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }
[المنافقون: 1] والشهادة لا تحصل إلا مع العلم، وهم ما كانوا عالمين به، فثبت أنهم كانوا كاذبين، فيما أخبروا عنه بالقول اللساني، وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة: كنت قد زورت في نفسي كلاماً فسبقني إليه أبو بكر، وأما الشاعر فقول الأخطل: ـ
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما   جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما اللذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم، وأيضاً الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ، ومن أصحابنا من قال: اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني.
المسألة التاسعة عشرة: هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث، قال الله تعالى:
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ }
[الطور: 34] والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه، فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضاً أن يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني، والله أعلم.
المسألة العشرون: ههنا ألفاظ كثيرة، فأحدها: الكلمة، وثانيها: الكلام، وثالثها: القول، ورابعها: اللفظ، وخامسها: العبارة، وسادسها: الحديث، وقد شرحناها بأسرها، وسابعها: النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه، وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها، وبتقدير حصول المباينة فما الفرق.
المسألة الحادية والعشرون: في حد الكلمة، قال الزمخشري في أول «المفصل»: الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع. وهذا التعريف ليس بجيد، لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع، فهذا التعريف غلط، لأنها دالة على أمرين: حدث وزمان وكذا القول في أسماء الأفعال، كقولنا: مه، وصه، وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ، فغلط وجعله صفة للمعنى.
اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه:
المسألة الثانية والعشرون: اللفظ إما أن يكون مهملاً، وهو معلوم، أو مستعملاً وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء من المعاني ألبتة، وهذا هو اللفظ المفرد كقولنا فرس وجمل، وثانيها: أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء أصلاً حين هو جزؤه أما باعتبار آخر فإنه يحصل لأجزائه دلالة على المعاني، كقولنا: «عبد الله» فإنا إذا اعتبرنا هذا المجموع اسم علم لم يحصل لشيء من أجزائه دلالة على شيء أصلاً، أما إذا جعلناه مضافاً ومضافاً إليه فإنه يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على شيء آخر، وهذا القسم نسميه بالمركب، وثالثها: أن يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على مدلول آخر على جميع الاعتبارات، وهو كقولنا: «العالم حادث، والسماء كرة، وزيد منطلق» وهذا نسميه بالمؤلف.
المسموع المقيد وأقسامه:
المسألة الثالثة والعشرون: المسموع المفيد ينقسم إلى أربعة أقسام: لأنه إما أن يكون اللفظ مؤلفاً والمعنى مؤلفاً كقولنا: «الإنسان حيوان، وغلام زيد» وإما أن يكون المسموع مفرداً والمعنى مفرداً، وهو كقولنا: «الوحدة» و «النقطة» بل قولنا: «الله» سبحانه وتعالى، وإما أن يكون اللفظ مفرداً والمعنى مؤلفاً وهو كقولك: «إنسان» فإن للفظ مفرد والمعنى ماهية مركبة من أمور كثيرة، وإما أن يكون اللفظ مركباً والمعنى مفرداً، وهو محال.
المسألة الرابعة والعشرون: الكلمة هي اللفظة المفردة الدالة بالاصطلاح على معنى، وهذا التعريف مركب من قيود أربعة: فالقيد الأول: كونه لفظاً، والثاني: كونه مفرداً، وقد عرفتهما، والثالث: كونه دالاً وهو احتراز عن المهملات، والرابع: كونه دالاً بالاصطلاح وسنقيم الدلالة على أن دلالات الألفاظ وضعية لا ذاتية.
المسألة الخامسة والعشرون: قيل: الكلمة صوت مفرد دال على معنى بالوضع: قال أبو علي بن سينا في كتاب «الأوسط»: وهذا غير جائز لأن الصوت مادة واللفظ جنس، وذكر الجنس أولى من ذكر المادة، وله كلمات دقيقة في الفرق بين المادة والجنس، ومع دقتها فهي ضعيفة قد بينا وجه ضعفها في العقليات، وأقول: السبب عندي في أنه لا يجوز ذكر الصوت أن الصوت ينقسم إلى صوت الحيوان وإلى غيره، وصوت الإنسان ينقسم إلى ما يحدث من حلقه وإلى غيره، والصوت الحادث من الحلق ينقسم إلى ما يكون حدوثه مخصوصاً بأحوال مخصوصة مثل هذه الحروف، وإلى ما لا يكون كذلك مثل الأصوات الحادثة عند الأوجاع والراحات والسعال وغيرها، فالصوت جنس بعيد، واللفظ جنس قريب، وإيراد الجنس القريب أولى من الجنس البعيد.
المسألة السادسة والعشرون: قالت المعتزلة: الشرط في كون الكلمة مفيدة أن تكون مركبة من حرفين فصاعداً، فنقضوه بقولهم: «ق» و «ع» وأجيب عنه بأنه مركب في التقدير فإن الأصل أن يقال: «قي» و «عي» بدليل أن عند التثنية يقال: «قيا» و «عيا» وأجيب عن هذا الجواب بأن ذلك مقدر، أما الواقع فحرف واحد، وأيضاً نقضوه بلام التعريف وبنون التنوين وبالإضافة فإنها بأسرها حروف مفيدة، والحرف نوع داخل تحت جنس الكلمة، ومتى صدق النوع فقد صدق الجنس، فهذه الحروف كلمات مع أنها غير مركبة.
المسألة السابعة والعشرون: الأولى أن يقال: كل منطوق به أفاد شيئاً بالوضع فهو كلمة وعلى هذا التقدير يدخل فيه المفرد والمركب، وبقولنا: منطوق به، يقع الاحتراز عن الخط والإشارة.
دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية:
المسألة الثامنة والعشرون: دلالة الألفاظ على مدلولاتها ليست ذاتية حقيقية، خلافاً لعباد.
لنا أنها تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة، والذاتيات لا تكون كذلك، حجة عباد أنه لو لم تحصل مناسبات مخصوصة بين الألفاظ المعينة والمعاني المعينة وإلا لزم أن يكون تخصيص كل واحد منها بمسماه ترجيحاً للممكن من غير مرجح، وهو محال، وجوابنا أنه ينتقض باختصاص حدوث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده، وإلا لم يرجح، ويشكل أيضاً باختصاص كل إنسان باسم علمه المعين.
المسألة التاسعة والعشرون: وقد يتفق في بعض الألفاظ كونه مناسباً لمعناه مثل تسميتهم القطا بهذا الاسم، لأن هذا اللفظ يشبه صوته، وكذا القول في اللقلق، وأيضاً وضعوا لفظ «الخضم» لأكل الرطب نحو البطيخ والقثاء، ولفظ «القضم» لأكل اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها، لأن حرف الخاء يشبه صوت أكل الشيء الرطب وحرف القاف يشبه صوت أكل الشيء اليابس، ولهذا الباب أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في «الخصائص».
اللغة إلهام:
المسألة الثلاثون: لا يمكننا القطع بأن دلالة الألفاظ توقيفية، ومنهم من قطع به، واحتج فيه بالعقل والنقل: أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول، فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقاً بوضع آخر لا إلى نهاية، وهو محال، فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف الله تعالى، وأما النقل فقوله تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا }
[البقرة: 31] وأجيب عن الأول بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة؟ وعن الثاني لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام؟ وأيضاً لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام، ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام.
المسألة الحادية والثلاثون: لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح، خلافاً للمعتزلة، واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضرورياً كان العلم بالموصوف أيضاً ضرورياً، فلو خلق الله تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم بالله ضرورياً وذلك يقدح في صحة التكليف، وأجيب عنه بأنه لِمَ لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يخلق علماً ضرورياً في القلب بأن واضعاً وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى؟ وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال.
المسألة الثانية والثلاثون: لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وأن تكون كلها اصطلاحية، وأن يكون بعضها توقيفياً وبعضها اصطلاحياً.
المسألة الثالثة والثلاثون: اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئاً، لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى، والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفاداً من ذلك اللفظ لزم الدور. وهو محال، وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى، وحينئذٍ يندفع الدور.
المسألة الرابعة والثلاثون: والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب؛ لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية، أما التركيبات فعقلية، فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات، فظهر الفرق.
اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي
المسألة الخامسة والثلاثون: للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال: الألفاظ تدل على المعاني، لأن المعاني هي التي عناها العاني، وهي أمور ذهنية، والدليل على ما ذكرناه من وجهين: الأول: أنا إذا رأينا جسماً من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة، فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيراً قلنا إنه طير، فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان، فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان الخارجة، الثاني: أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديماً حادثاً معاً، وهو محال، أما إذا قلنا إنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين الحكمين من هذين الإنسانين، وذلك لا يتناقض.
المسألة السادسة والثلاثون: لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ، لأن الماهيات غير متناهية، وما لا نهاية له لا يكون مشعوراً به على التفصيل، وما لا يكون مشعوراً به امتنع وضع الاسم بإزائه.
المسألة السابعة والثلاثون: كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم، كان وضع اللفظ بإزائه أولى، مثل صيغ الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملاً، والمانع زائلاً، وإذا كان الداعي قوياً والمانع زائلاً، كان الفعل به واجب الحصول.
المسألة الثامنة والثلاثون: المعنى الذي يكون خفياً عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور، مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلاً من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد، أما الذي يقول به بعض المتكلمين ـ وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال ـ فهو أمر خفي لا يتصوره إلا الخواص من الناس، وإذا كان كذلك وجب أن يقال: الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسماً لنفس العالمية، والقدرة اسماً للقادرية، لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية.
المعنى اسم للصورة الذهنية:
المسألة التاسعة والثلاثون في المعنى: المعنى اسم للصورة الذهنية لا للموجودات الخارجية لأن المعنى عبارة عن الشيء الذي عناه العاني وقصده القاصد، وذاك بالذات هو الأمور الذهنية، وبالعرض الأشياء الخارجية، فإذا قيل: أن القائل أراد بهذا اللفظ هذا المعنى، فالمراد أنه قصد بذكر ذلك اللفظ تعريف ذلك الأمر المتصور.
المسألة الأربعون: قد يقال في بعض المعاني: إنه لا يمكن تعريفها بالألفاظ، مثل أنا ندرك بالضرورة تفرقة بين الحلاوة المدركة من النبات والحلاوة المدركة من الطبرزذ، فيقال: إنه لا سبيل إلى تعريف هذه التفرقة بحسب اللفظ، وأيضاً ربما اتفق حصول أحوال في نفس بعض الناس ولا يمكنه تعريف تلك الحالة بحسب التعريفات اللفظية، إذا عرفت هذا فنقول: أما القسم الأول: فالسبب فيه أن ما به يمتاز حلاوة النبات من حلاوة الطبرزذ ما وضعوا له في اللغة لفظة معينة، بل لا يمكن ذكرها إلا على سبيل الإضافة، مثل أن يقال حلاوة النبات وحلاوة الطبرزذ، فلما لم توضع لتلك التفرقة لفظة مخصوصة لا جرم لا يمكن تعريفها باللفظ، ولو أنهم وضعوا لها لفظة لقد كان يمكن تعريفها باللفظ على ذلك التقدير، وأما القسم الثاني: وهو أن الإنسان إذا أدرك من نفسه حالة مخصوصة وسائر الناس ما أدركوا تلك الحالة المخصوصة استحال لهذا المدرك وضع لفظ لتعريفه، لأن السامع ما لم يعرف المسمى أولاً لم يمكنه أن يفهم كون هذا اللفظ موضوعاً له، فلما لم يحصل تصور تلك المعاني عند السامعين امتنع منهم أن يتصوروا كون هذه الألفاظ موضوعة لها، فلا جرم امتنع تعريفها، أما لو فرضنا أن جماعة تصوروا تلك المعاني ثم وضعوا لها ألفاظاً مخصوصة فعلى هذا التقدير كان يمكن تعريف تلك الأحوال بالبيانات اللفظية ـ فهكذا يجب أن يتصور معنى ما يقال إن كثيراً من المعاني لا يمكن تعريفها بالألفاظ.
الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني:
المسألة الحادية والأربعون: في الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني: وهي أن الإنسان خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع مهماته فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه التوسل به إلى الاستعانة بالغير، ولا بدّ لذلك التعريف من طريق، والطرق كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء، إلا أن أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت، والأصوات عند تقطيعاتها أسباب لحدوث الحروف المختلفة، وهذه المعاني تحصل من غير كلفة ومعونة بخلاف الكتابة والإشارة وغيرهما، والثاني: أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في الحال، فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي، والثالث: أن الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف الكثيرة، وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات تكاد أن تصير غير متناهية، فإذا جعلنا لكل واحد من المعاني واحداً من تلك الكلمات توزعت الألفاظ على المعاني من غير التباس واشتباه، ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق، فلهذه الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة، بأن أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ.
لذاته معرفة الحق:
المسألة الثانية والأربعون: كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وجوهر النفس في أصل الخلقة عار عن هذين الكمالين، ولا يمكنها اكتساب هذه الكمالات إلا بواسطة هذا البدن، فصار تخليق هذا البدن مطلوباً لهذه الحكمة، ثم إن مصالح هذا البدن ما كانت تتم إلا إذا كان القلب ينبوعًا للحرارة الغريزية، ولما كانت هذه الحرارة قوية احتاجت إلى الترويح لأجل التعديل، فدبر الخالق الرحيم الحكيم هذا المقصود بأن جعل للقلب قوة انبساط بها يجذب الهواء البارد من خارج البدن إلى نفسه، ثم إذا بقي ذلك الهواء في القلب لحظة تسخن واحتد وقويت حرارته، فاحتاج القلب إلى دفعه مرة أخرى، وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج، فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفساً، والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل، فوقع تخليق البدن في المرتبة الثانية من المطلوبية، ووقع تخليق القلب وجعله منبعاً للحرارة الغريزية في المرتبة الثالثة، ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح في المرتبة الرابعة، ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق في المرتبة الخامسة، ووقع صرف ذلك الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت في المرتبة السادسة، ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع في المرتبة السابعة مادة للصوت، وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، وحينئذٍ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة، ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها، ثم أودع في هذا النطق والكلام حكماً عالية وأسراراً باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية.
الكلام اللساني:
المسألة الثالثة والأربعون: ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر، ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاماً أيضاً، وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة، بل أمراً وضعياً اصطلاحياً، والتحقيق في هذا الباب: أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات، وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلماً بهذه الحروف مجرد كونه فاعلاً لها لهذا الغرض المخصوص، وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات.
الكلام النفسي والذهني:
المسألة الرابعة والأربعون: لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب، والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر، قالت المعتزلة: صيغة «إفعل» لفظة موضوعة لإرادة الفعل، وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر لفلاني كذا وكذا، وقال أصحابنا: الطلب النفساني مغاير للإرادة، والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد، أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، وهذا متفق عليه، ولكن لم يرد منه الإيمان، ولو أراده لوقع، ويدل عليه وجهان: الأول: أن قدرة الكافر إن كانت موجبة للكفر كان خالق تلك القدرة مريداً للكفر، لأن مريد العلة مريد للمعلول، وإن كانت صالحة للكفر والإيمان امتنع رجحان أحدهما على الآخر إلا بمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يكون مجموع القدرة مع الداعية موجباً للكفر، ومريد العلة مريد للمعلول، فثبت أنه تعالى مريد الكفر من الكافر، والثاني: أنه تعالى عالم بأن الكافر يكفر وحصول هذا العلم ضد لحصول الإيمان، والجمع بين الضدين محال، والعالم بكون الشيء ممتنع الوقوع لا يكون مريداً له، فثبت أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، وثبت أنه لا يريد منه الإيمان فوجب أن يكون مدلول أمر الله تعالى فعل شيء آخر سوى الإرادة، وذلك هو المطلوب، وأما بيان أن الحكم الذهني مغاير للاعتقاد والعلم فالدليل عليه أن القائل إذا قال: العالم قديم فمدلول هذا االلفظ هو حكم هذا القائل بقدم العالم، وقد يقول القائل بلسانه هذا مع أنه يعتقد أن العالم ليس بقديم، فعلمنا أن الحكم الذهني حاصل، والاعتقاد غير حاصل، فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد.
مدلولات الألفاظ:
المسألة الخامسة والأربعون: مدلولات الألفاظ قد تكون أشياء مغايرة للألفاظ: كلفظة السماء والأرض، وقد تكون مدلولاتها أيضاً ألفاظاً كقولنا: اسم، وفعل، وحرف، وعام، وخاص، ومجمل، ومبين، فإن هذه الألفاظ أسماء ومسمياتها أيضاً ألفاظ.
طرق معرفة اللغة:
المسألة السادسة والأربعون: طريق معرفة اللغات إما العقل وحده وهو محال، وإما النقل المتواتر أو الآحاد وهو صحيح، وإما ما يتركب عنهما: كما إذا قيل: ثبت بالنقل جواز إدخال الاستثناء على صيغة من، وثبت بالنقل أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فيه، فيلزم من مجموعهما بحكم العقل كون تلك الصيغة موضوعة للعموم، وعلى هذا الطريق تعويل الأكثرين في إثبات أكثر اللغات، وهو ضعيف، لأن هذا الاستدلال إنما يصح لو قلنا إن واضع تينك المقدمتين وجب أن يكون معترفاً بهذه الملازمة، وإلا لزم التناقض، لكن الواضع للغات لو ثبت أنه هو الله تعالى وجب تنزيهه عن المناقضة، أما لو كان هو الناس لم يجب ذلك ولما كان هذا الأصل مشكوكاً كان ذلك الدليل مثله.
من اللغة ما بلغنا بالتواتر:
المسألة السابعة والأربعون: اللغات المنقولة إلينا بعضها منقول بالتواتر، وبعضها منقول بالآحاد، وطعن بعضهم في كونها متواترة فقال: أشهر الألفاظ هو قولنا «الله»، وقد اختلفوا فيها فقيل: إنها ليست عربية بل هي عبرية، وقيل: إنها اسم علم، وقيل: إنها من الأسماء المشتقة، وذكروا في اشتقاقها وجوهاً عشرة، وبقي الأمر في هذه الاختلافات موقوفاً إلى الآن وأيضاً فلفظة الإيمان والكفر قد اختلفوا فيهما اختلافاً شديداً، وكذا صيغ الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، مع أنها أشد الألفاظ شهرة، وإذا كان الحال كذلك في الأظهر الأقوى فما ظنك بما سواها؟ والحق أن ورود هذه الألفاظ في أصول هذه الموارد معلوم بالتواتر، فأما ماهياتها واعتباراتها فهي التي اختلفوا فيها، وذلك لا يقدح في حصول التواتر في الأصل.
المسألة الثامنة والأربعون: منهم من سلم حصول التواتر في بعض هذه الألفاظ في هذا الوقت، إلا أنه زعم أن حال الأدوار الماضية غير معلوم، فلعل النقل ينتهي في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد، وليس لقائل أن يقول: لو وقع ذلك لاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، لأن هذه المقدمة إن صحت فإنما تصح في الوقائع العظيمة. وأما التصرفات في الألفاظ فهي وقائع حقيرة، والحق أن العلم الضروري حاصل بأن لفظ السماء والأرض والجدار والدار كان حالها وحال أشباهها في الأزمنة الماضية كحالها في هذا الزمان.
المسألة التاسعة والأربعون: لا شك أن أكثر اللغات منقول بالأحاد، ورواية الواحد إنما تفيد الظن عند اعتبار أحوال الرواة وتصفح أحوالهم بالجرح والتعديل، ثم إن الناس شرطوا هذه الشرائط في رواة الأحاديث، ولم يعتبروها في رواة اللغات، مع أن اللغات تجري مجرى الأصول للأحاديث، ومما يؤكد هذا السؤال أن الأدباء طعن بعضهم في بعض بالتجهيل تارة وبالتفسيق أخرى، والعداوة الحاصلة بين الكوفيين والبصريين مشهورة، ونسبة أكثر المحدثين أكثر الأدباء إلى ما لا ينبغي مشهورة، وإذا كان كذلك صارت رواياتهم غير مقبولة وبهذا الطريق تسقط أكثر اللغات عن درجات القبول، والحق أن أكثر اللغات قريب من التواتر، وبهذا الطريق يسقط هذا الطعن.
دلالة الألفاظ على معانيها ظنية:
المسألة الخمسون: دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل الإعرابات والتصريفات، مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحاداً ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأيضاً فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل، وعدم الإجمال، وعدم التخصيص، وعدم المعارض العقلي، فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز، ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض، والموقوف على الظن أولى أن يكون ظناً، والله أعلم.
الباب الثاني
في المباحث المستبنطة من الصوت والحروف وأحكامها، وفيه مسائل
كيفية حدوث الصوت:
المسألة الأولى: ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع، وأقول: إن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به، بل هذا الذي ذكره إن كان ولا بدّ فهو إشارة إلى سبب حدوثه، لا إلى تعريف ماهيته.
الصوت ليس بجسم:
المسألة الثانية: يقال إن النظَّام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم، وأبطلوه بوجوه: منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت، ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولاً وثانياً وليس الصوت كذلك، ومنها أن الجسم باقٍ والصوت ليس كذلك، وأقول: النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم، إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول أنه عين ذلك الهواء.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة، وهو باطل؛ لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة، والصوت ليس كذلك، وقيل: الصوت نفس القرع أو القلع، وقيل إنه تموج الحركة، وكل ذلك باطل؛ لأن هذه الأحوال مبصرة، والصوت غير مبصر، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قيل سببه القريب تموج الهواء، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه، بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئاً فشيئاً لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون، وأما سبب التموج فإمساس عنيف، وهو القرع، أو تفريق عنيف، وهو القلع، ويرجع في تحقيق هذا إلى «كتبنا العقلية».
حد الحرف:
المسألة الخامسة: قال الشيخ الرئيس في حد الحرف: إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزاً في المسموع.
حروف المد واللين:
المسألة السادسة: الحروف إما مصوتة، وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين، ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها، أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت، وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء، وهي لا توجد إلا في «الآن» الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله، وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان، وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات، وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات، وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف، وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها، ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر، ثم هذه على قسمين: منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر، وإن كانت زمانية بحسب الحس، مثل الحاء والخاء، فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آتي الوجود في نفس الأمر، لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفاً واحداً زمانياً، ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين، فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمراره.
المسألة السابعة: الحرف لا بدّ وأن يكون إما ساكناً أو متحركاً، ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه، لأنهما من صفات الأجسام، بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص.
المسألة الثامنة: الحركات أبعاض المصوتات، والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات، ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا.
المسألة التاسعة: الصامت سابق على المصوت المقصور الذي يسمى بالحركة، بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت، فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور، وهو محال.
الكلام حادث لا قديم:
المسألة العاشرة: الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديماً لوجهين: الأول: أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث، لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث، والثاني: أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة، لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معاً لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة، واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل: أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها، والماهيات لا تقبل الزوال ولا العدم، فكانت قديمة، وأما النقل فهو أن كلام الله قديم، وكلام الله ليس إلا هذه الحروف، فوجب القول بقدم هذه الحروف، أما أن كلام الله قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص، فلو لم يكن كلام الله قديماً لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصاً ثم صار فيما لا يزال كاملاً، وذلك بإجماع المسلمين باطل، وإنما قلنا إن كلام الله تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه: أحدها: قوله تعالى:
وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }
[التوبة: 6] ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف، فدل هذا على أن هذه الحروف كلام الله، وثانيها: أن من حلف على سماع كلام الله تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف، وثالثها: أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله " فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر. والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي، فيلزمكم قدم الكل، وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلاً.
وصف كلام الله تعالى بالقدم:
المسألة الحادية عشرة: إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز، وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبنى الأَيمان على العرف، وإذا قلنا: كلام الله قديم، لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات.
وإذا قلنا: كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له؟ وإذا قلنا: كلام الله سور وآيات، عنينا به هذه الحروف، وإذا قلنا: كلام الله فصيح، عنينا به هذه الألفاظ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ.
الأصوات التي نقرأ بها ليست كلام الله:
المسألة الثانية عشرة: زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى، وهذا باطل، لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان، وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح، وزعموا أنها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى، وغير زائلة عنه، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى، ولا فرق بين القولين، إلا أن النصارى قالوا: بهذا القول في حق عيسى وحده، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب.
المسألة الثالثة عشرة: قالت الكرامية: الكلام اسم للقدرة على القول، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم، وإن لم يكن في الحال مشتغلاً بالقول، وأيضاً فضد الكلام هو الخرس، لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول، وإذا ثبت هذا فهم يقولون: إن كلام الله تعالى قديم، بمعنى أن قدرته على القول قديمة، أما القول فإنه حادث، هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه.
خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن:
المسألة الرابعة عشرة: قالت الحشوية للأشعرية: إن كان مرادكم من قولكم: «إن القرآن قديم» هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديماً، لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبراً عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديماً بهذا التفسير، وإن كان المراد من كونه قديماً وجهاً آخر سوى ذلك فلا بدّ من بيانه.
والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقاً بجميع المخبرات، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال.
واعلم أنا لا نقول: إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذباً، والكذب في كلام الله محال، لأنه تعالى لما أخبر أن أقواماً أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذباً، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص، والأخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص، وهو على الله محال. واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.
الباب الثالث
في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين: الأول: أن الكلمة إما أن يصح الأخبار عنها وبها، وهي الاسم، وإما أن لا يصح الأخبار عنها، لكن يصح الأخبار بها، وهي الفعل، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ولا بها، وهو الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الأخبار عنهما، وعلى أن الاسم يصح الأخبار عنه، فلنذكر البحثين في مسألتين.
الكلمة اسم وفعل وحرف:
المسألة الثانية: اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الأخبار عنهما، قالوا: لأنه لا يجوز أن يقال: ضرب قتل، ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، وأيضاً فإنه لا يصح أن يقال: جدار سماء، ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الأخبار عنه وبه، لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، فكذا ههنا، ثم قيل، الذي يدل على صحة الأخبار عن الفعل والحرف وجوه: الأول: أنا إذا أخبرنا عن «ضرب يضرب أضرب» بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً، وليس كذلك، وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبراً عنه، فإن قالوا: المخبر عنه بهذا الخبر هو هذه الصيغ، وهي أسماء قلنا: هذا السؤال ركيك، لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسماً، فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال، وقد أبطلناه، الثاني: إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم، الثالث: أن قولنا: «الفعل لا يخبر عنه» إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه، وذلك متناقض، فإن قالوا: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ، فنقول: قد أجبنا على هذا السؤال، فإنا نقول: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسماً فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه، وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه.
الرابع: الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها، وكل ما كان كذلك صح الأخبار عنه بكونه ممتازاً عن غيره، فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز، الخامس: الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص، وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة، فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلاً على المعنى، وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولاً لتلك الصيغة، فهذه سؤالات صعبة في هذا المقام.
المسألة الثالثة: طعن قوم في قولهم: «الاسم ما يصح الأخبار عنه» بأن قالوا: لفظة «أين وكيف وإذا» أسماء مع أنه لا يصح الأخبار عنها، وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا: «الاسم ما جاز الأخبار عنه» أردنا به ما جاز الأخبار عن معناه، ويصح الأخبار عن معنى إذا لأنك إذا قلت: آتيك إذا طلعت الشمس، كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس، والوقت يصح الأخبار عنه، بدليل أنك تقول: طاب الوقت، وأقول هذا العذر ضعيف، لأن «إذا» ليس معناه الوقت فقط، بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفاً لشيء آخر، والوقت حال ما جعل ظرفاً لحادث آخر فإنه لا يمكن الأخبار عنه ألبتة، فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته إسماً وجب كونه اسماً، فنقول: هذا باطل، لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسماً وجب أن يكون الفعل اسماً، لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر، وهو اسم، ولما كان هذا باطلاً فكذا ما قالوه.
المسألة الرابعة: في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول: الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية أو لا يكون، والثاني: هو الحرف، أما الأول: فإما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه، وهو الفعل، أو لا يدل وهو الاسم، وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل.
تعريف الاسم:
المسألة الخامسة في تعريف الاسم: الناس ذكروا فيه وجوهاً، التعريف الأول: أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عن معناه، واعلم أن صحة الأخبار عن ماهية الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود، والأشكال عليه من وجهين: الأول: أن الفعل والحرف يصح الأخبار عنهما، والثاني: أن «إذا وكيف وأين» لا يصح الأخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين.
التعريف الثاني: أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً، واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عنه.
والتعريف الثالث: أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع، وهذا أيضاً رسم، لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية، وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين: أحدهما: المبنيات، فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف، ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب، والثاني: أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابهاً للاسم، وهذا التعريف أيضاً ضعيف.
التعريف الرابع: قال الزمخشري في «المفصل»: الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران. واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه: الأول: أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع، ثم ذكر فيما كتب من حواشي «المفصل» أنه إنما وجب ذكر اللفظ لأنا لو قلنا: «الكلمة هي الدالة على المعنى» لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك، مع أنها ليست أسماء. والثاني: أن الضمير في قوله: «في نفسه» إما أن يكون عائداً إلى الدال، أو إلى المدلول، أو إلى شيء ثالث، فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم، فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله، وهذا عبث، ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل، فإنه لفظ يدل على مدلوله، وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى، وذلك يقتضي كون الشيء حاصلاً في نفسه، وهو محال، فإن قالوا معنى كونه حاصلاً في نفسه أنه ليس حاصلاً في غيره، فنقول: فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب، فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها.
التعريف الخامس: أن يقال: الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى، وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة فإن قالوا: لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا؟ قلنا: لأنا جعلنا اللفظ جنساً للكلمة، والكلمة جنس للاسم، والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد، وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل: إنه باطل طرداً وعكساً، أما الطرد فمن وجوه. الأول: أن كل ما كان معلوماً فإنه لا بدّ وأن يكون مستقلاً بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره، وإذا كان تصوره في نفسه متقدماً على تصوره مع غيره كان مستقلاً بالمعلومية، الثاني: أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية، وذلك استقلال. الثالث: أن النحويين اتفقوا على أن «الباء» تفيد الإلصاق، و «من» تفيد التبعيض، فمعنى الإلصاق إن كان مستقلاً بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلاً بالمعلومية فيصير الحرف اسماً، وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقبل بالمعلومية، فيصير الاسم حرفاً، وأما العكس فهو أن قولنا:«كم وكيف ومتى وإذا» وما الاستفهامية والشرطية كلها أسامٍ مع أن مفهوماتها غير مستقلة، وكذلك الموصولات.
الثالث: أن قولنا: «من غير دلالة على زمان ذلك المعنى» يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم والاصطباح وبالاغتباق، والجواب عن السؤال الأول: أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا: «كتبت بالقلم» فنريد بالاستقلال هذا القدر. فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان، ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه. وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان، والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن المسمى، والذي يدل على ما تقدم قولهم: اغتبق يغتبق، فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق.
علامات الاسم:
المسألة السادسة: علامات الاسم إما أن تكون لفظية أو معنوية، فاللفظية إما أن تحصل في أول الاسم، وهو حرف تعريف، أو حرف جر، أو في حشوه كياء التصغير، وحرف التكسير، أو في آخره كحرفي التثنية والجمع. وأما المعنوية فهي كونه موصوفاً، وصفة، وفاعلاً، ومفعولاً، ومضافاً إليه، ومخبراً عنه، ومستحقاً للإعراب بأصل الوضع.
تعريفات الفعل:
المسألة السابعة: ذكروا للفعل تعريفات: التعريف الأول: قال سيبويه إنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول.
التعريف الثاني: أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف، فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر، ويمتنع استناد شيء آخر إليها.
التعريف الثالث: قال الزمخشري: الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان، وهو ضعيف لوجهين: الأول: أنه يجب أن يقال: «كلمة دالة على اقتران حدث بزمان» وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه: أحدها: أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل، أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال، لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة. وثانيها: أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة، وثالثها: أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد. الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك.
التعريف الرابع: الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين، وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب، وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمراً ثابتاً كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدمياً مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم، وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر، وإنما قلنا في زمان معين احترازاً عن الأسماء.
واعلم أن في هذه القيود مباحثات: القيد الأول: هو قولنا: «يدل على ثبوت المصدر لشيء» فيه إشكالات: الأول: أنا إذا قلنا خلق الله العالم فقولنا خلق إما أن يدل على ثبوت الخلق لله سبحانه وتعالى أو لا يدل، فإن لم يدل بطل ذلك القيد، وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايراً للمخلوق، وهو إن كان محدثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل، وإن كان قديماً لزم قدم المخلوق. والثاني: إنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل؟ فإن لم يدل بطل هذا القيد، وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلاً لشيء غيره، وذلك الغير يجب أن يكون حاصلاً في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له، فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقاً بحصول آخر إلى غير النهاية، وهو محال. والثالث: إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية، وذلك محال، لأن العدم والفناء نفي محض فكيف يعقل حصولهما لغيرهما والرابع: إن على تقدير أن يكون الوجود زائداً على الماهية فإنه يصدق قولنا: «إنه حصل الوجود لهذه الماهية» فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية، وهو محال، وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا: حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء، وإلا لزم أن يكون الوجود زائداً على الماهية، ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية.
وأما القيد الثاني: وهو قولنا: «في زمان معين» ففيه سؤالات أحدها: أنا إذا قلنا: «وجد الزمان» أو قلنا: «فني الزمان» فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر، ولزم التسلسل، فإن قالوا: يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعاً في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب، قلنا: الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوماً كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب، ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلاً وكذباً، وثانيها: أنا إذا قلنا: كان العالم معدوماً في الأزل، فقولنا: كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل، وهو محال، فإن قالوا: ذلك الزمان مقدر لا محقق، قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال، وإن لم يطابق كان كذباً، ولزم فساد الحد، وثالثها: أنا إذا قلنا: كان الله موجوداً في الأزل، فهذا يقتضي كون الله زمانياً، وهو محال، ورابعها: أنه ينتقض بالأفعال الناقصة، فإن كان الناقصة إما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل: فإن دلت كان تاماً لا ناقصاً، لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاماً تاماً لا ناقصاً، وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلاً، وخامسها: أنه يبطل بأسماء الأفعال، فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين، والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين، وسادسها: أن اسم الفاعل يتناول إما الحال وإما الاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة، فهو دال على الزمان المعين، والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا: «الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء» والثلاثة المذكورة على قولنا «الفعل يدل على الزمان» فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم، سواء كان حقاً أو باطلاً، وأما قوله: «يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة» قلنا: الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقاً، إلا أن الاسم الذي يسند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا: كان الشيء، بمعنى حدث وحصل، وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا: كان زيد منطلقاً، فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضاً الحدوث والوقوع، إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب، والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين، لا جرم وجب ذكرهما ههنا، فكما أن قولنا: كان زيد، معناه أنه حصل ووجد، فكذا قولنا: كان زيد منطلقاً، معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق؛ وهذا بحث عميق عجيب دقيق غفل الأولون عنه، وقوله: «خامساً: يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال» قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلاً دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة، وقوله: «سادساً: اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال» قلنا: لا نسلم، بدليل أنهم قالوا: إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل، وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل.
المسألة الثامنة: الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية، أو لا يكون، وهذا الأخير هو الحرف، فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي، ثم نقول: والمستقل بالمعلومية إما أن يدل على الزمان المعين لذلك المسمى، أو لا يدل، والذي لا يدل هو الاسم، فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي، وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية.
هل يدل الفعل على الفاعل المبهم:
المسألة التاسعة: إذا قلنا: ضرب، فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين، بحسب هذا اللفظ، فإن قالوا: هذا محال، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب، الثاني: أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين، وإلا لزم التناقض، ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل، لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه، والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد، وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لإسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر، بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاماً ولا محتملاً للتصديق والتكذيب، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
المسألة العاشرة: قالوا الحرف ما جاء لمعنى في غيره، وهذه لفظ مبهم، لأنهم إن أرادوا معنى الحرف أن الحرف ما دل على معنى يكون المعنى حاصلاً في غيره وحالاً في غيره لزمهم أن تكون أسماء الأعراض والصفات كلها حروفاً، وإن أرادوا به أنه الذي دل على معنى يكون مدلول ذلك اللفظ غير ذلك المعنى فهذا ظاهر الفساد، وإن أرادوا به معنى ثالثاً فلا بد من بيانه.
المسألة الحادية عشرة: التركيبات الممكنة من هذه الثلاثة ستة: الاسم مع الاسم، وهو الجملة الحاصلة من المبتدأ والخبر، والاسم مع الفعل، وهو الجملة الحاصلة من الفعل والفاعل وهاتان الجملتان مفيدتان بالاتفاق، وأما الثالث ـ وهو الاسم مع الحرف ـ فقيل: إنه يفيد في صورتين.
الصورة الأولى: قولك: «يا زيد» فقيل: ذلك إنما أفاد لأن قولنا يا زيد في تقدير أنادي واحتجوا على صحة قولهم بوجهين: الأول: أن لفظ يا تدخله الأمالة ودخول الأمالة لا يكون إلا في الاسم أو الفعل، والثاني: أن لام الجر تتعلق بها فيقال: «يالزيد» فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر، ولو لم يكن قولنا يا قائمة مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر، لأن الحرف لا يدخل على الحرف، ومنهم من أنكر أن يكون يا بمعنى أنادي واحتج عليه بوجوه: الأول: إن قوله أنادي إخبار عن النداء، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون قولنا أنادي زيداً مغايراً لقولنا يا زيد، الثاني: أن قولنا أنادي زيداً كلام محتمل للتصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها، الثالث: أن قولنا يا زيد ليس خطاباً إلا مع المنادى، وقولنا أنادي زيداً غير مختص بالمنادى. الرابع: أن قولنا يا زيد يدل على حصول النداء في الحال، وقولنا أنادي زيداً لا يدل على اختصاصه بالحال، الخامس: أنه يصح أن يقال أنادي زيداً قائماً، ولا يصح أن يقال يا زيد قائماً، فدلت هذه الوجوه الخمسة على حصول التفرقة بين هذين اللفظين.
الصورة الثانية: قولنا: «زيد في الدار» فقولنا زيد مبتدأ والخبر هو ما دل عليه قولنا في إلا أن المفهوم من معنى الظرفية قد يكون في الدار أو في المسجد، فأضيفت هذه الظرفية إلى الدار لتتميز هذه الظرفية عن سائر أنواعها، فإن قالوا: هذا الكلام إنما أفاد لأن التقدير زيد استقر في الدار وزيد مستقر في الدار، فنقول: هذا باطل، لأن قولنا استقر معناه حصل في الاستقرار فكان قولنا فيه يفيد حصولاً آخر؛ وهو أنه حصل فيه حصول ذلك الاستقرار وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال، ثبت أن قولنا زيد في الدار كلام تام ولا يمكن تعليقه بفعل مقدر مضمر.
المسألة الثانية عشرة: الجملة المركبة إما أن تكون مركبة تركيباً أولياً أو ثانوياً، أما المركبة تركيباً أولياً فهي الجملة الإسمية أو الفعلية، والأشبه أن الجملة الإسمية أقدم في الرتبة من الجملة الفعلية لأن الاسم بسيط والفعل مركب، والبسيط مقدم على المركب، فالجملة الإسمية يجب أن تكون أقدم من الجملة الفعلية، ويمكن أن يقال: بل الفعلية أقدم؛ لأن الاسم غير أصيل في أن يسند إلى غيره، فكانت الجملة الفعلية أقدم من الجملة الإسمية، وأما المركبة تركيباً ثانوياً فهي الجملة الشرطية كقولك: «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» لأن قولك: «الشمس طالعة» جملة وقولك: «النهار موجود» جملة أخرى، ثم أدخلت حرف الشرط في إحدى الجملتين، وحرف الجزاء في الجملة الأخرى، فحصل من مجموعهما جملة واحدة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الرابع
في تقسيمات الاسم إلى أنواعه، وهي من وجوه:
أنواع الاسم:
التقسيم الأول: إما أن يكون نفس تصور معناه مانعاً من الشركة، أو لا يكون، فإن كان الأول، فإما أن يكون مظهراً، وهو العلم، وإما أن يكون مضمراً، وهو معلوم، وأما إذا لم يكن مانعاً من الشركة فالمفهوم منه: إما أن يكون ماهية معينة، وهو أسماء الأجناس، وإما أن يكون مفهومه أنه شيء ما موصوف بالصفة الفلانية، وهو المشتق، كقولنا أسود، فإن مفهومه أنه شيء ماله سواد. فثبت بما ذكرناه أن لاسم جنس تحته أنواع ثلاثة: أسماء الأعلام، وأسماء الأجناس، والأسماء المشتقة، فلنذكر أحكام هذه الأقسام.
أحكام الأعلام:
النوع الأول: أحكام الأعلام، وهي كثيرة: الحكم الأول: قال المتكلمون: اسم العلم لا يفيد فائدة أصلاً، وأقول: حق أن العلم لا يفيد صفة في المسمى. وأما ليس بحق أنه لا يفيد شيئاً، وكيف وهو يفيد تعريف تلك الذات المخصوصة؟ الحكم الثاني: اتفقوا على أن الأجناس لها أعلام، فقولنا: «أسد» اسم جنس لهذه الحقيقة؛ وقولنا: «أسامة» اسم علم لهذه الحقيقة، وكذلك قولنا: «ثعلب» اسم جنس لهذه الحقيقة، وقولنا: «ثعالة» اسم علم لها وأقول: الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس من وجهين: الأول: إن اسم العلم هو الذي يفيد الشخص المعين من حيث إنه ذلك المعين، فإذا سمينا أشخاصاً كثيرين باسم زيد فليس ذلك لأجل أن قولنا: «زيد» موضوع لإفادة القدر المشترك بين تلك الأشخاص، بل لأجل أن لفظ زيد وضع لتعريف هذه الذات من حيث أنها هذه، ولتعريف تلك من حيث إنها تلك على سبيل الاشتراك، إذا عرفت هذا فنقول: إذا قال الواضع: وضعت لفظ أسامة لإفادة ذات كل واحد من أشخاص الأسد بعينها من حيث هي هي على سبيل الاشتراك اللفظي، كان ذلك علم الجنس، وإذا قال: وضعت لفظ الأسد لإفادة الماهية التي هي القدر المشترك بين هذه الأشخاص فقط من غير أن يكون فيها دلالة على الشخص المعين، كان هذا اسم الجنس، فقد ظهر الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس.
الثاني: أنهم وجدوا أسامة اسماً غير منصرف وقد تقرر عندهم أنه ما لم يحصل في الاسم شيآن لم يخرج عن الصرف، ثم وجدوا في هذا اللفظ التأنيث، ولم يجدوا شيئاً آخر سوى العلمية، فاعتقدوا كونه علماً لهذا المعنى.
الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام:
الحكم الثالث: اعلم أن الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام أنه ربما اختص نوع بحكم واحتج إلى الأخبار عنه بذلك الحكم الخاص، ومعلوم أن ذلك الأخبار على سبيل التخصيص غير ممكن إلا بعد ذكر المخبر عنه على سبيل الخصوص، فاحتج إلى وضع الأعلام لهذه الحكمة.
الحكم الرابع: أنه لما كانت الحاجات المختلفة تثبت لأشخاص الناس فوق ثبوتها لسائر الحيوانات، لا جرم كان وضع الأعلام للأشخاص الإنسانية أكثر من وضعها لسائر الذوات.
العلم اسم ولقب وكنية:
الحكم الخامس: في تقسيمات الأعلام، وهي من وجوه: الأول: العلم إما أن يكون اسماً كإبراهيم وموسى وعيسى، أو لقباً كإسرائيل، أو كنية كأبي لهب. واعلم أن هذا التقسيم يتفرع عليه أحكام: الحكم الأول: الشيء إما أن يكون له الاسم فقط، أو اللقب فقط، أو الكنية فقط، أو الاسم مع اللقب، أو الاسم مع الكنية، أو اللقب مع الكنية، واعلم أن سيبويه أفرد أمثلة الأقسام المذكورة من تركيب الكنية والاسم، وهي ثلاثة: أحدها: الذي له الاسم والكنية كالضبع، فإن اسمها حضاجر، وكنيتها أم عامر، وكذلك يقال للأسد أسامة وأبو الحارث، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين، وللعقرب شبوة وأم عريط. وثانيها: أن يحصل له الاسم دون الكنية كقولنا قثم لذكر الضبع، ولا كنية له. وثالثها: الذي حصلت له الكنية ولا اسم له، كقولنا للحيوان المعين أبو براقش. الحكم الثالث: الكنية قد تكون بالإضافات إلى الآباء، وإلى الأمهات، وإلى البنين، وإلى البنات، فالكنى بالآباء كما يقال للذئب أبو جعدة للأبيض، وأبو الجون، وأما الأمهات فكما يقال للداهية أم حبو كرى، وللخمر أم ليلى، وأما البنون فكما يقال للغراب ابن دأية، وللرجل الذي يكون حاله منكشفاً ابن جلا، وأما البنات فكما يقال لصدى ابنة الجبل، وللحصاة بنت الأرض. الحكم الرابع: الإضافة في الكنية قد تكون مجهولة النسب نحو ابن عرس وحمار قبان وقد تكون معلومة النسب نحو ابن لبون وبنت لبون وابن مخاض وبنت مخاض، لأن الناقة /إذا ولدت ولداً ثم حمل عليها بعد ولادتها فإنها لا تصير مخاضاً إلا بعد سنة، والمخاض الحامل المقرب، فولدها إن كان ذكراً فهو ابن مخاض، وإن كان أنثى فهي بنت مخاض، ثم إذا ولدت وصار لها لبن صارت لبوناً فأضيف الولد إليها بإضافة معلومة.
الحكم الخامس: إذا اجتمع الاسم واللقب: فالاسم إما أن يكون مضافاً أو لا، فإن لم يكن مضافاً أضيف الاسم إلى اللقب يقال هذا سعيد كرز وقيس بطة، لأنه يصير المجموع بمنزلة الاسم الواحد، وأما إن كان الاسم مضافاً فهم يفردون اللقب فيقولون هذا عبد الله بطة.
السرفي وضع الكنية.
الحكم السادس: المقتضى لحصول الكنية أمور: أحدها: الأخبار عن نفس الأمر كقولنا أبو طالب، فإنه كني بابنه طالب، وثانيها: التفاؤل والرجا كقولهم أبو عمرو لمن يرجو ولداً يطول عمره، وأبو الفضل لمن يرجو ولداً جامعاً للفضائل: وثالثها: الإيماء إلى الضد كأبي يحيـى للموت، ورابعها: أن يكون الرجل إنساناً مشهوراً وله أب مشهور فيتقارضان الكنية فإن يوسف كنيته أبو يعقوب ويعقوب كنيته أبو يوسف، وخامسها: اشتهار الرجل بخصلة فيكنى بها إما بسبب اتصافه بها أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد.
التقسيم الثاني للأعلام:
التقسيم الثاني للأعلام: العلم إما أن يكون مفرداً كزيد، أو مركباً من كلمتين لا علاقة بينهما كبعلبك، أو بينهما علاقة وهي: أما علاقة الإضافة كعبد الله وأبي زيد، أو علاقة الإسناد وهي إما جملة إسمية أو فعلية، ومن فروع هذا الباب أنك إذا جعلت جملة اسم علم لم تغيرها ألبتة، بل تتركها بحالها مثل تأبط شراً وبرق نرحه.
التقسيم الثالث للأعلام:
التقسيم الثالث: العلم إما أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، أما المنقول فإما أن يكون منقولاً عن لفظ مفيد أو غير مفيد، والمنقول من المفيد إما أن يكون منقولاً عن الاسم، أو الفعل أو الحرف، أو ما يتركب منها، أما المنقول عن الاسم فإما أن يكون عن اسم عين: كأسد وثور، أو عن اسم معنى: كفضل ونصر، أو صفة حقيقية: كالحسن، أو عن صفة إضافية كالمذكور والمردود، والمنقول عن الفعل إما أن يكون منقولاً عن صيغة الماضي كشمر، أو عن صيغة المضارع كيحيـى، أو عن الأمر كاطرقا، والمنقول عن الحرف كرجل سميته بصيغة من صيغ الحروف، وأما المنقول عن المركب من هذه الثلاثة فإن كان المركب مفيداً فهو المذكور في التقسيم، وإن كان غير مفيد فهو يفيد، وأما المنقول عن صوت فهو مثل تسمية بعض العلوية بطباطبا، وأما المرتجل فقد يكون قياساً مثل عمران وحمدان فإنهما من أسماء الأجناس مثل سرحان وندمان، وقد يكون شاذاً قلما يوجد له نظير مثل محبب وموهب.
التقسيم الرابع للأعلام:
التقسيم الرابع: الأعلام إما أن تكون للذوات أو المعاني، وعلى التقديرين فإما أن يكون العلم علم الشخص، أو علم الجنس، فههنا أقسام أربعة، وقبل الخوض في شرح هذه الأقسام فيجب أن تعلم أن وضع الأعلام للذوات أكثر من وضعها للمعاني، لأن أشخاص الذوات هي التي يتعلق الغرض بالأخبار عن أحوالها على سبيل التعيين، أما أشخاص الصفات فليست كذلك في الأغلب. ولنرجع إلى أحكام الأقسام الأربعة، فالقسم الأول: العلم للذوات والشرط فيه أن يكون المسمى مألوفاً للواضع، والأصل في المألوفات الإنسان، لأن مستعمل أسماء الأعلام هو الإنسان، وإلف الشيء بنوعه أتم من إلفه بغير نوعه، وبعد الإنسان الأشياء التي يكثر احتياج الإنسان إليها وتكثر مشاهدته لها، ولهذا السبب وضعوا أعوج ولاحقاً علمين لفرسين، وشذقما وعليا لفحلين، وضمران لكلب، وكساب لكلبة، وأما الأشياء التي لا يألفها الإنسان فقلما يضعون الأعلام لأَشخاصها، أما القسم الثاني: فهو علم الجنس للذوات، وهو مثل أسامة للأسد، وثعالة للثعلب، وأما القسم الثالث: فهو وضع الأعلام للأفراد المعينة من الصفات؛ وهو مفقود لعدم الفائدة، وأما القسم الرابع: فهو علم الجنس للمعاني، والضابط فيه أنا إذا رأينا حصول سبب واحد من الأسباب التسعة المانعة من الصرف ثم منعوه الصرف علمنا أنهم جعلوه علماً لما ثبت أن المنع من الصرف لا يحصل إلا عند اجتماع سببين، وذكر ابن جني أمثلة لهذا الباب، وهي تسميتهم التسبيح بسبحان، والغدو بكيسان، لأنهما غير منصرفين، فالسبب الواحد ـ وهو الألف والنون ـ حاصل. ولا بدّ من حصول العلمية ليتم السببان.
التقسيم الخامس للأعلام:
التقسيم الخامس للأعلام: اعلم أن اسم الجنس قد ينقلب اسم علم. كما إذا كان المفهوم من اللفظ أمراً كلياً صالحاً لأن يشترك فيه كثيرون. ثم إنه في العرف يختص بشخص بعينه، مثل «النجم» فإنه في الأصل اسم لكل نجم، ثم اختص في العرف بالثريا، وكذلك «السماك» اسم مشتق من الارتفاع ثم اختص بكوكب معين.
الباب الخامس
في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة، وهي كثيرة:
أحكام اسم الجنس:
أما أحكام أسماء الأجناس فهي أمور: الحكم الأول: الماهية قد تكون مركبة، وقد تكون بسيطة، وقد ثبت في العقليات أن المركب قبل البسيط في الجنس، وأن البسيط قبل المركب في الفصل، وثبت بحسب الاستقراء أن قوة الجنس سابقة على قوة الفصل في الشدة والقوة، فوجب أن تكون أسماء الماهيات المركبة سابقة على أسماء الماهيات البسيطة.
الحكم الثاني في اسم الجنس:
الحكم الثاني: أسماء الأجناس سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقة، لأن الاسم المشتق متفرع على الاسم المشتق منه، فلو كان اسمه أيضاً مشتقاً لزم إما التسلسل أو الدور، وهما محالان، فيجب الانتهاء في الاشتقاقات إلى أسماء موضوعة جامدة، فالموضوع غني عن المشتق والمشتق محتاج إلى الموضوع، فوجب كون الموضوع سابقاً بالرتبة على المشتق، ويظهر بهذا أن هذا الذي يعتاده اللغويون والنحويون من السعي البليغ في أن يجعلوا كل لفظ مشتقاً من شيء آخر سعي باطل وعمل ضائع.
الحكم الثالث في اسم الجنس:
الحكم الثالث: الموجود إما واجب وإما ممكن، والمكن إما متحيز أو حال في المتحيز؛ أو لا متحيز ولا حال في المتحيز أما هذا القسم الثالث فالشعور به قليل، وإنما يحصل الشعور بالقسمين الأولين، ثم إنه ثبت بالدليل أن المتحيزات متساوية في تمام ذواتها، وأن الاختلاف بينها إنما يقع بسبب الصفات القائمة بها، فالأسماء الواقعة على كل واحد من أنواع الأجسام يكون المسمى بها مجموع الذات مع الصفات المخصوصة القائمة بها، هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب.
وأما أحكام الأسماء المشتقة فهي أربعة: الحكم الأول: ليس من شرط الاسم المشتق أن تكون الذات موصوفة بالمشتق منه، بدليل أن المعلوم مشتق من العلم، مع أن العلم غير قائم بالمعلوم. وكذا القول في المذكور والمرئي والمسموع، وكذا القول في اللائق والرامي. الحكم الثاني: شرط صدق المشتق حصول المشتق منه في الحال، بدليل أن من كان كافراً ثم أسلم فإنه يصدق عليه أنه ليس بكافر. وذلك يدل على أن بقاء المشتق منه شرط في صدق الاسم المشتق. الحكم الثالث: المشتق منه إن كان ماهية مركبة لا يمكن حصول أجزائها على الاجتماع، مثل الكلام والقول والصلاة، فإن الاسم المشتق إنما يصدق على سبيل الحقيقة عند حصول الجزء الأخير من تلك الأجزاء. الحكم الرابع: المفهوم من الضارب أنه شيء ماله ضرب، فأما أن ذلك الشيء جسم أو غيره فذلك خارج عن المفهوم لا يعرف إلا بدلالة الالتزام.
الباب السادس
في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني، وذكر الأحكام المفرعة
على هذين القسمين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ الأعراب وجهان: أحدهما: أن يكون مأخوذاً من قولهم: «أعرب عن نفسه» إذا بين ما في ضميره، فإن الإعراب إيضاح المعنى، والثاني: أن يكون أعرب منقولاً من قولهم: «عربت معدة الرجل» إذا فسدت، فكان المراد من الإعراب إزالة الفساد ورفع الإبهام، مثل أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته.
المسألة الثانية: إذا وضع لفظ الماهية وكانت تلك الماهية مورداً لأحوال مختلفة وجب أن يكون اللفظ مورداً لأَحوال مختلفة لتكون الأحوال المختلفة اللفظية دالة على الأحوال المختلفة المعنوية، كما أن جوهر اللفظ لما كان دالاً على أصل الماهية كان اختلاف أحواله دالاً على اختلاف الأحوال المعنوية، فتلك الأحوال المختلفة اللفظية الدالة على الأحوال المختلفة المعوية هي الإعراب.
المسألة الثالثة: الأفعال والحروف أحوال عارضة للماهيات، والعوارض لا تعرض لها عوارض أخرى، هذا هو الحكم الأكثري، وإنما الذي يعرض لها الأحوال المختلفة هي الذوات، والألفاظ الدالة عليها هي الأسماء، فالمستحق للإعراب بالوضع الأول هو الأسماء.
المسألة الرابعة: إنما اختص الإعراب بالحرف الأخير من الكلمة لوجهين: الأول: أن الأحوال العارضة للذات لا توجد إلا بعد وجود الذات، واللفظ لا يوجد إلا بعد وجود الحرف الأخير منه، فوجب أن تكون العلامات الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية لا تحصل إلا بعد تمام الكلمة. الثاني: أن اختلاف حال الحرف الأول والثاني من الكلمة للدلالة على اختلاف أوزان الكلمة، فلم يبق لقبول الأحوال الإعرابية إلا الحرف الأخير من الكلمة.
المسألة الخامسة: الإعراب ليس عبارة عن الحركات والسكنات الموجودة في أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات والإعراب غير موجود فيها بل الإعراب عبارة عن استحقاقها لهذه الحركات بسبب العوامل المحسوسة، وذلك الاستحقاق معقول لا محسوس، والإعراب حاجة معقولة لا محسوسة.
المسألة السادسة: إذا قلنا في الحرف: إنه متحرك أو ساكن، فهو مجاز، لأن الحركة والسكون من صفات الأجسام، والحرف ليس بجسم، بل المراد من حركة الحرف صوت مخصوص يوجد عقيب التلفظ بالحرف، والسكون عبارة عن أن يوجد الحرف من غير أن يعقبه ذلك الصوت المخصوص المسمى بالحركة.
المسألة السابعة: الحركات إما صريحة أو مختلسة، والصريحة إما مفردة أو غير مفردة فالمفردة ثلاثة وهي: الفتحة، والكسرة، والضمة، وغير المفردة ما كان بين بين، وهي ستة لكل واحدة قسمان، فللفتحة ما بينها وبين الكسرة أو ما بينها وبين الضمة، وللكسرة ما بينها وبين الضمة أو ما بينها وبين الفتحة، والضمة على هذا القياس، فالمجموع تسعة. وهي أما مشبعة أو غير مشبعة، فهي ثمانية عشر، والتاسعة عشرة المختلسة، وهي ما تكون حركة وإن لم يتميز في الحس لها مبدأ، وتسمى الحركة المجهولة، وبها قرأ أبو عمرو
فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ }
[البقرة: 54] مختلسة الحركة من بارئكم وغير ظاهرة بها.
المسألة الثامنة: لما كان المرجع بالحركة والسكون في هذا الباب إلى أصوات مخصوصة لم يجب القطع بانحصار الحركات في العدد المذكور، قال ابن جني اسم المفتاح بالفارسية ـ وهو كليد ـ لا يعرف أن أوله متحرك أو ساكن، قال: وحدثني أبو علي قال: دخلت بلدة فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل، فتعجبت منها وأقمت هناك أياماً فتكلمت أيضاً بها، فلما فارقت تلك البلدة نسيتها.
المسألة التاسعة: الحركة الإعرابية متأخرة عن الحرف تأخراً بالزمان، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال وأمثالها إنما تحدث في آخر زمان حبس النفس وأول إرساله، وذلك آن فاصل ما بين الزمانين غير منقسم، والحركة صوت يحدث عند إرسال النفس، ومعلوم أن ذلك الآن متقدم على ذلك الزمان فالحرف متقدم على الحركة.
الثاني: أن الحروف الصلبة لا تقبل التمديد، والحركة قابلة للتمديد، فالحرف والحركة لا يوجدان معاً لكن الحركة لا تتقدم على الحرف، فبقي أن يكون الحرف متقدماً على الحركة.
المسألة العاشرة: الحركات أبعاض من حروف المد واللين، ويدل عليه وجوه، الأول: أن حروف المد واللين قابلة للزيادة والنقصان، وكل ما كان كذلك فله طرفان، ولا طرف لها في النقصان إلا هذه الحركات، الثاني: أن هذه الحركات إذا مددناها ظهرت حروف المد واللين فعلمنا أن هذه الحركات ليست إلا أوائل تلك الحروف، الثالث: لو لم تكن الحركات أبعاضاً لهذه الحروف لما جاز الاكتفاء بها لأنها إذا كانت مخالفة لها لم تسد مسدها فلم يصح الاكتفاء بها منها بدليل استقراء القرآن والنثر والنظم، وبالجملة فهب أن إبدال الشيء من مخالفه القريب منه جائز إلا أن إبدال الشيء من بعضه أولى، فوجب حمل الكلام عليه.
الابتداء بالساكن:
المسألة الحادية عشرة: الابتداء بالحرف الساكن محال عند قوم، وجائز عند آخرين، لأن الحركة عبارة عن الصوت الذي يحصل التلفظ به بعد التلفظ بالحرف، وتوقيف الشيء على ما يحصل بعده محال.
المسألة الثانية عشرة: أثقل الحركات الضمة، لأنها لا تتم إلا بضم الشفتين، ولا يتم ذلك إلا بعمل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفة، وأما الكسرة فإنه يكفي في تحصيلها العضلة الواحدة الجارية، ثم الفتحة يكفي فيها عمل ضعيف لتلك العضلة، وكما دلت هذه المعالم التشريحية على ما ذكرناه فالتجربة تظهره أيضاً، واعلم أن الحال فيما ذكرناه يختلف بحسب أمزجة البلدان، فإن أهل أذربيجان يغلب على جميع ألفاظهم إشمام الضمة، وكثير من البلاد يغلب على لغاتهم إشمام الكسرة والله أعلم.
المسألة الثالثة عشرة: الحركات الثلاثة مع السكون إن كانت إعرابية سميت بالرفع والنصب والجر أو الخفض والجزم، وإن كانت بنائية سميت بالفتح والضم والكسر والوقف.
المسألة الرابعة عشرة: ذهب قطرب إلى أن الحركات البنائية مثل الإعرابية، والباقون خالفوه، وهذا الخلاف لفظي، فإن المراد من التماثل إن كان هو التماثل في الماهية فالحس يشهد بأن الأمر كذلك وإن كان المراد حصول التماثل في كونها مستحقة بحسب العوامل المختلفة فالعقل يشهد أنه ليس كذلك.
المسألة الخامسة عشرة: من أراد أن يتلفظ بالضمة فإنه لا بدّ له من ضم شفتيه أولاً ثم رفعهما ثانياً، ومن أراد التلفظ بالفتحة فإنه لا بدّ له من فتح الفم بحيث تنتصب الشفة العليا عند ذلك الفتح، ومن أراد التلفظ بالكسرة فإنه لا بدّ له من فتح الفم فتحاً قوياً والفتح القوي لا يحصل إلا بانجرار اللحى الأسفل وانخفاضه، فلا جرم يسمى ذلك جراً وخفضاً وكسراً لأن انجرار القوي يوجب الكسر، وأما الجزم فهو القطع.
وأما أنه لم سمي وقفاً وسكوناً فعلته ظاهرة.
المسألة السادسة عشرة: منهم من زعم أن الفتح والضم والكسر والوقف أسماء للأحوال البنائية، كما أن الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية، ومنهم من جعل الأربعة الأول: أسماء تلك الأحوال سواء كانت بنائية أو إعرابية، وجعل الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية، فتكون الأربعة الأولى بالنسبة إلى الأربعة الثانية كالجنس بالنسبة إلى النوع.
المسألة السابعة عشر: أن سيبويه يسميها بالمجاري، ويقول: هي ثمانية وفيه سؤالان: الأول: لم سمى الحركات بالمجاري فإن الحركة نفسها الجري، والمجرى موضع الجري، فالحركة لا تكون مجرى؟ وجوابه أنا بينا أن الذي يسمى ههنا بالحركة فهو في نفسه ليس بحركة إنما هو صوت يتلفظ به بعد التلفظ بالحرف الأول، فالمتكلم لما انتقل من الحرف الصامت إلى هذا الحرف فهذا الحرف المصوت إنما حدث لجريان نفسه وامتداده، فلهذا السبب صحت تسميته بالمجرى. السؤال الثاني: قال المازني: غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة. والمبني لا يزول عن حاله، فلم يجز تسميته بالمجاري، بل كان الواجب أن يقال: المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية. والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج، ولا تحرك عند الوقف، فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقاً.
المسألة الثامنة عشرة: الإعراب اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل: بحركة أو حرف تحقيقاً أو تقديراً، أما الاختلاف فهو عبارة عن موصوفية آخر تلك الكلمة بحركة أو سكون بعد أن كان موصوفاً بغيرها، ولا شك أن تلك الموصوفية حالة معقولة لا محسوسة فلهذا المعنى قال عبد القاهر النحوي: الإعراب حالة معقولة لا محسوسة، وأما قوله: «باختلاف العوامل» فاعلم أن اللفظ الذي تلزمه حالة واحدة أبداً هو المبني، وأما الذي يختلف آخره فقسمان: أحدهما: أن لا يكون معناه قابلاً للأحوال المختلفة كقولك: «أخذت المال من زيد» فتكون «من» ساكنة، ثم تقول: «أخذت المال من الرجل» فتفتح النون، ثم تقول «أخذت المال من ابنك» فتكون مكسورة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة إلا أنه ليس بإعراب، لأن المفهوم من كلمة «من» لا يقبل الأحوال المختلفة في المعنى، وأما القسم الثاني: وهو الذي يختلف آخر الكلمة عند اختلاف أحوال معناهاـ فذلك هو الإعراب.
المسألة التاسعة عشرة: أقسام الإعراب ثلاثة: الأول: الإعراب بالحركة، وهي في أمور ثلاثة: أحدها: الاسم الذي لا يكون آخره حرفاً من حروف العلة، سواء كان أوله أو وسطه معتلاً أو لم يكن، نحو رجل، ووعد، وثوب، وثانيها: أن يكون آخر الكلمة واواً أو ياءً ويكون ما قبله ساكناً، فهذا كالصحيح في تعاقب الحركات عليه، تقول: هذا ظبي وغزو ومن هذا الباب المدغم فيهما كقولك: كرسي وعدو لأن المدغم يكون ساكناً فسكون الياء من كرسي والواو من عدو كسكون الباء من ظبي والزاي من غزو، وثالثها: أن تكون الحركة المتقدمة على الحرف الأخير من الكلمة كسرة وحينئذٍ يكون الحرف الأخير ياء، وإذا كان آخر الكلمة ياء قبلها كسرة كان في الرفع والجر على صورة واحدة وهي السكون، وأما في النصب فإن الياء تحرك بالفتحة قال الله تعالى:
أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ }
[الأحقاف: 31] القسم الثاني من الإعراب: ما يكون بالحرف، وهو في أمور ثلاثة: أحدها: في الأسماء الستة مضافة، وذلك جاءني أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال، ورأيت أباه ومررت بأبيه، وكذا في البواقي، وثانيها: «كلا» مضافاً إلى مضمر، تقول: جاءني كلاهما ومررت بكليهما ورأيت كليهما، وثالثها: التثنية والجمع، تقول: جاءني مسلمان ومسلمون ورأيت مسلمين ومسلمين ومررت بمسلمين ومسلمين. والقسم الثالث: الإعراب التقديري، وهو في الكلمة التي يكون آخرها ألفاً وتكون الحركة التي قبلها فتحة، فإعراب هذه الكلمة في الأحوال الثلاثة على صورة واحدة تقول: هذه رحا ورأيت رحا ومررت برحا.
أصول الإعراب:
المسألة العشرون: أصل الإعراب أن يكون بالحركة، لأنا ذكرنا أن الأصل في الإعراب أن يجعل الأحوال العارضة للفظ دلائل على الأحوال العارضة للمعنى، والعارض للحرف هو الحركة لا الحرف الثاني، وأما الصور التي جاء إعرابها بالحروف فذلك للتنبيه على أن هذه الحروف من جنس تلك الحركات.
أنواع الاسم المعرب:
المسألة الحادية والعشرون: الاسم المعرب، ويقال له المتمكن نوعان: أحدهما: ما يستوفي حركات الإعراب والتنوين، وهو المنصرف والأمكن، والثاني: ما لا يكون كذلك بل يحذف عنه الجر والتنوين ويحرك بالفتح في موضع الجر إلا إذا أضيف أو دخله لام التعريف، ويسمى غير المنصرف، والأسباب المانعة من الصرف تسعة فمتى حصل في الاسم اثنان منها أو تكرر سبب واحد فيه امتنع من الصرف، وهي: العلمية، والتأنيث اللازم لفظاً ومعنى، ووزن الفعل الخاص به أو الغالب عليه، والوصفية، والعدل، والجمع الذي ليس على زنة واحدة، والتركيب، والعجمة في الأعلام خاصة، والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث.
سبب منع الصرف:
المسألة الثانية والعشرون: إنما صار اجتماع اثنين من هذه التسعة مانعاً من الصرف، لأن كل واحد منها فرع، والفعل فرع عن الاسم، فإذا حصل في الاسم سببان من هذه التسعة صار ذلك الاسم شبيهاً بالفعل في الفرعية، وتلك المشابهة تقتضي منع الصرف، فهذه مقدمات أربع:
المقدمة الأولى: في بيان أن كل واحد من هذه التسعة فرع، أما بيان أن العلمية فرع فلأن وضع الاسم للشيء لا يمكن إلا بعد صيرورته معلوماً، والشيء في الأصل لا يكون معلوماً ثم يصير معلوماً وأما أن التأيث فرع فبيانه تارة بحسب اللفظ وأخرى بحسب المعنى: أما بحسب اللفظ فلان كل لفظة وضعت لماهية فإنها تقع على الذكر من تلك الماهية بلا زيادة وعلى الأنثى بزيادة علامة التأنيث، وأما بحسب المعنى فلأن الذكر أكمل من الأنثى، والكامل مقصود بالذات، والناقص مقصود بالعرض، وأما أن الوزن الخاص بالفعل أو الغالب عليه فرع فلأن وزن الفعل فرع للفعل، والفعل فرع للاسم، وفرع الفرع فرع وأما أن الوصف فرع فلأن الوصف فرع عن الموصوف، وأما أن العدل فرع فلأن العدول عن لاشيء إلى غيره مسبوق بوجود ذلك الأصل وفرع عليه، وأما أن الجمع الذي ليس على زنته واحد فرع فلان ذلك الوزن فرع على وجود الجمع، لأنه لا يوجد إلا فيه، والجمع فرع على الواحد لأن الكثرة فرع على الوحدة، وفرع الفرع فرع، وبهذا الطريق يظهر أن التركيب فرع، وأما أن المعجمة فرع فلأن تكلم كل طائفة بلغة أنفسهم أصل وبلغة غيرهم فرع، وأما أن الألف والنون في سكران وأمثاله يفيدان الفرعية فلأن الألف والنون زائدان على جوهر الكلمة، والزائد فرع، فثبت بما ذكرنا أن هذه الأسباب التسعة توجب الفرعية.
المقدمة الثانية: في بيان أن الفعل فرع، والدليل عليه أن الفعل عبارة عن اللفظ الدال على وقوع المصدر في زمان معين، فوجب كونه فرعاً على المصدر.
المقدمة الثالثة: أنه لما ثبت ما ذكرناه ثبت أن الاسم الموصوف بأمرين من تلك الأمور التسعة يكون مشابهاً للفعل في الفرعية ومخالفاً له في كونه اسماً في ذاته، والأصل في الفعل عدم الإعراب كما ذكرنا، فوجب أن يحصل في مثل هذا الاسم أثران بحسب كل واحد من الاعتبارين المذكورين، وطريقه أن يبقى إعرابها من أكثر الوجوه، ويمنع من إعرابها من بعض الوجوه، ليتوفر على كل واحد من الاعتبارين ما يليق به.
المسألة الثالثة والعشرون: إنما ظهر هذا الأثر في منع التنوين والجر لأجل أن التنوين يدل على كمال حال الاسم، فإذا ضعف الاسم بحسب حصول هذه الفرعية أزيل عنه ما دل على كمال حاله، وأما الجر فلأن الفعل يحصل فيه الرفع والنصب، وأما الجر فغير حاصل فيه فلما صارت الأسماء مشابهة للفعل لا جرم سلب عنها الجر الذي هو من خواص الأسماء.
المسألة الرابعة والعشرون: هذه الأسماء بعد أن سلب عنها الجر إما أن تترك ساكنة في حال الجر أو تحرك، والتحريك أولى، تنبيهاً على أن المانع من هذه الحركة عرضي لا ذاتي، ثم النصب أول الحركات لأنا رأينا أن النصب حمل على الجر في التثنية والجمع السالم، فلزم هنا حمل الجر على النصب تحقيقاً للمعارضة.
المسألة الخامسة والعشرون: اتفقوا على أنه إذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف كقوله: مررت بالأحمر، والمساجد، وعمركم، ثم قيل: السبب فيه أن الفعل لا تدخل عليه الألف واللام والإضافة فعند دخولهما على الاسم خرج الاسم عن مشابهة الفعل، قال عبد القاهر: هذا ضعيف؛ لأن هذه الأسماء إنما شابهت الأفعال لما حصل فيها من الوصفية ووزن الفعل، وهذه المعاني باقية عند دخول الألف واللام والإضافة فيها فبطل قولهم: إنه زالت المشابهة وأيضاً فحروف الجر والفاعلية والمفعولية من خواص الأسماء ثم إنها تدخل على الأسماء مع أنها تبقي غير منصرفة، والجواب عن الأول: أن الإضافة ولام التعريف من خواص الأسماء فإذا حصلتا في هذه الأسماء فهي وإن ضعفت في الإسمية بسبب كونها مشابهة للفعل إلا أنها قويت بسبب حصول خواص الأسماء فيها، إذا عرفت هذا فنقول: أصل الإسمية يقتضي قبول الإعراب من كل الوجوه، إلا أن المشابهة للفعل صارت معارضة للمقتضى، فإذا صار هذا المعارض معارضاً بشيء آخر ضعف المعارض، فعاد المقتضي عاملاً عمله، وأما السؤال الثاني فجوابه: أن لام التعريف والإضافة أقوى من الفاعلية والمفعولية لأن لام التعريف والإضافة يضادان التنوين، والضدان متساويان في القوة فلما كان التنوين دليلاً على كمال القوة فكذلك الإضافة وحرف التعريف.
المسألة السادسة والعشرون: لو سميت رجلاً بأحمر لم تصرفه، بالاتفاق، لاجتماع العلمية ووزن الفعل، أما إذا نكرته فقال سيبويه: لا أصرفه، وقال الأخفش: أصرفه. واعلم أن الجمهور يقولون في تقرير مذهب سيبويه على ما يحكى أن المازني قال: قلت للأخفش: كيف قلت مررت بنسوة أربع فصرفت مع وجود الصفة ووزن الفعل؟ قال: لأن أصله الإسمية فقلت: فكذا لا تصرف أحمر اسم رجل إذا نكرته لأن أصله الوصفية، قال المازني: فلم يأتِ الأخفش بمقنع، وأقول: كلام المازني ضعيف، لأن الصرف ثبت على وفق الأصل في قوله: «مررت بنسوة أربع» لأنه يكفي عود الشيء إلى حكم الأصل أدنى سبب، بخلاف المنع من الصرف؛ فإنه على خلاف الأصل فلا يكفي فيه إلا السبب القوي، وأقول: الدليل على صحة مذهب سيبويه أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف، أما المقدمة الأولى فهي إنما تتم بتقرير ثلاثة أشياء: الأول: ثبوت وزن الفعل وهو ظاهر، والثاني: الوصفية، والدليل عليه أن العلم إذا نكر صار معناه الشيء الذي يسمى بذلك الاسم. فإذا قيل: «رب زيد رأيته» كان معناه رب شخص مسمى باسم زيد رأيته، ومعلوم أن كون الشخص مسمى بذلك الاسم صفة لا ذات، والثالث: أن الوصفية أصلية، والدليل عليه أن لفظ الأحمر حين كان وصفاً معناه الاتصاف بالحمرة، فإذا جعل علماً ثم نكر كان معناه كونه مسمى بهذا الاسم، وكونه كذلك صفة إضافية عارضة له، فالمفهومان اشتركا في كون كل واحد منهما صفة إلا أن الأول يفيد صفة حقيقية والثاني يفيد صفة إضافية، والقدر المشترك بينهما كونه صفة، فثبت بما ذكرنا أن حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف لما ذكرناه.
فإن قيل: يشكل ما ذكرتم بالعلم الذي ما كان وصفاً فإنه عند التنكير ينصرف مع أنه عند التنكير يفيد الوصفية بالبيان الذي ذكرتم.
قلنا إنه وإن صار عند التنكير وصفاً إلا أن وصفيته ليست أصلية لأنها ما كانت صفة قبل ذلك بخلاف الأحمر فإنه كان صفة قبل ذلك، والشيء الذي يكون في الحال صفة مع أنه كان قبل ذلك صفة كان أقوى في الوصفية مما لا يكون كذلك، فظهر الفرق.
واحتج الأخفش بأن المقتضى للصرف قائم وهو الاسمية، والعارض الموجود لا يصح معارضاً، لأنه علم منكر والعلم المنكر موصوف بوصف كونه منكراً، والموصوف باقٍ عند وجود الصفة، فالعلمية قائمة في هذه الحالة، والعلمية تنافي الوصفية، فقد زالت الوصفية فلم يبق سوى وزن الفعل والسبب الواحد لا يمنع من الصرف، والجواب: أنا بينا بالدليل العقلي أن العلم إذا جعل منكراً صار وصفاً في الحقيقة فسقط هذا الكلام.
المسألة السابعة والعشرون: قال سيبويه: السبب الواحد لا يمنع الصرف، خلافاً للكوفيين، حجة سيبويه أن المقتضى للصرف قائم، وهو الإسمية، والسببان أقوى من الواحد فعند حصول السبب الواحد وجب البقاء على الأصل. وحجة الكوفيين قولهم المقدم، وقد قيل أيضاً: ـ
وما كان حصن ولاحابس   يفوقان مرداس في مجمع
وجوابه أن الرواية الصحيحة في هذا البيت: يفوقان شيخي في مجمع.
المسألة الثامنة والعشرون: قال سيبويه: ما لا ينصرف يكون في موضع الجر مفتوحاً واعترضوا عليه بأن الفتح من باب البناء، وما لا ينصرف غير مبني، وجوابه أن الفتح اسم لذات الحركة من غير بيان أنها إعرابية أو بنائية.
المسألة التاسعة والعشرون: إعراب الأسماء ثلاثة: الرفع، والنصب، والجر، وكل واحد منها علامة على معنى، فالرفع علم الفاعلية، والنصب علم المفعولية، والجر علم الإضافة وأما التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبوعات.
سر ارتفاع الفاعل وانتصاب المفعول:
المسألة الثلاثون: السبب في كون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً والمضاف إليه مجرراً وجوه: ـ
الأول: أن الفاعل واحد، والمفعول أشياء كثيرة، لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين، وإلى ثلاثة، ثم يتعدى أيضاً إلى المفعول له، وإلى الظرفين، وإلى المصدر والحال، فلما كثرت المفاعيل اختير لها أخف الحركات وهو النصب، ولما قل الفاعل اختير له أثقل الحركات وهو الرفع، حتى تقع الزيادة في العدد مقابلة للزيادة في المقدار فيحصل الاعتدال.
الثاني: أن مراتب الموجودات ثلاثة: مؤثر لا يتأثر وهو الأقوى، وهو درجة الفاعل ومتأثر لا يؤثر وهو الأضعف، وهو درجة المفعول، وثالث يؤثر باعتبار ويتأثر باعتبار وهو المتوسط، وهو درجة المضاف إليه، والحركات أيضاً ثلاثة: أقواها الضمة وأضعفها الفتحة وأوسطها الكسرة، فألحقوا كل نوع بشبيهه، فجعلوا الرفع الذي هو أقوى الحركات للفاعل الذي هو أقوى الأقسام، والفتح الذي هو أضعف الحركات للمفعول الذي هو أضعف الأقسام والجر الذي هو المتوسط للمضاف إليه الذي هو المتوسط من الأقسام.
الثالث: الفاعل مقدم على المفعول: لأن الفعل لا يستغني عن الفاعل، وقد يستغني عن المفعول، فالتلفظ بالفاعل يوجد والنفس قوية، فلا جرم أعطوه أثقل الحركات عند قوة النفس، وجعلوا أخف الحركات لما يتلفظ به بعد ذلك.
أنواع المرفوعات وأصلها:
المسألة الحادية والثلاثون: المرفوعات سبعة: الفاعل، والمبتدأ، وخبره، واسم كان، واسم ما ولا المشبهتين بليس، وخبرإن، وخبر لا النافية للجنس، ثم قال الخليل الأصل في الرفع الفاعل، والبواقي مشبهة به، وقال سيبويه: الأصل هو المبتدأ، والبواقي مشبهة به، وقال الأخفش: كل واحد منهما أصل بنفسه، واحتج الخليل بأن جعل الرفع إعراباً للفاعل أولى من جعله إعراباً للمبتدأ، والأولوية تقتضي الأولية: بيان الأول: أنك إذا قلت: «ضرب زيد بكر» بإسكان المهملتين لم يعرف أن الضارب من هو والمضروب من هو أما إذا قلت: «زيد / قائم» بإسكانهما عرفت من نفس اللفظتين أن المبتدأ أيهما والخبر أيهما، فثبت أن افتقار الفاعل إلى الإعراب أشد، فوجب أن يكون الأصل هو. وبيان الثاني أن الرفعية حالة مشتركة بين المبتدأ والخبر، فلا يكون فيها دلالة على خصوص كونه مبتدأ ولا على خصوص كونه خبراً، أما لا شك أنه في الفاعل يدل على خصوص كونه فاعلاً، فثبت أن الرفع حق الفاعل، إلا أن المبتدأ لما أشبه الفاعل في كونه مسنداً إليه جعل مرفوعاً رعاية لحق هذه المشابهة، وحجة سيبويه: أنا بينا أن الجملة الإسمية مقدمة على الجمل الفعلية، فإعراب الجملة الإسمية يجب أن يكون مقدماً على إعراب الجملة الفعلية، والجواب: أن الفعل أصل في الإسناد إلى الغير فكانت الجملة الفعلية مقدمة. وحينئذٍ يصير هذا الكلام دليلاً للخليل.
أنواع المفاعيل:
المسألة الثانية والثلاثون:
المفاعيل خمسة، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل وهو المصدر، ولا بدّ لذلك الفعل من زمان، ولذلك الفاعل من عرض، ثم قد يقع ذلك الفعل في شيء آخر وهو المفعول به، وفي مكان، ومع شيء آخر، فهذا ضبط القول في هذه المفاعيل. وفيه مباحث عقلية: أحدها: أن المصدر قد يكون هو نفس المفعول به كقولنا: «خلق الله العالم» فإن خلق العالم لو كان مغايراً للعالم لكان ذلك المغاير له إن كان قديماً لزم من قدمه قدم العالم وذلك ينافي كونه مخلوقاً وإن كان حادثاً افتقر خلقه إلى خلق آخر ولزم التسلسل وثانيها: أن فعل الله يستغني عن الزمان، لأنه لو افتقر إلى زمان وجب أن يفتقر حدوث ذلك الزمان إلى زمان آخر ولزم التسلسل وثالثها: أن فعل الله يستغني عن العرض؛ لأن ذلك العرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان حادثاً لزم التسلسل، وهو محال.
عامل النصب في المفاعيل:
المسألة الثالثة والثلاثون:
اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال: الأول: وهو قول البصريين ـ أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول: والثاني: وهو قول الكوفيين ـ أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول، والثالث: وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين ـ أن العامل هو الفاعل فقط، والرابع: وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين ـ أن العامل في الفاعل معنى الفاعلية، وفي المفعول معنى المفعولية.
حجة البصريين أن العامل لا بدّ وأن يكون له تعلق بالمعمول، وأحد الإسمين لا تعلق له بالآخر، فلا يكون له فيه عمل ألبتة، وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل.
حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد. قلنا: ذاك في الموجبات، أما في المعرفات فممنوع.
واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل، والمفعولية صفة قائمة بالمفعول، ولفظ الفعل مباين لهما، وتعليل الحكم بما يكون حاصلاً في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مبايناً له، وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر: وهو أن الفعل أمر ظاهر، وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي، وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية والله أعلم.
الباب السابع
في إعراب الفعل
إعراب الفعل:
اعلم أن قوله: (أعوذ) يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل، فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل.
المسألة الأولى: إذا قلنا في النحو فعل وفاعل، فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول: «مات زيد» وهو لم يفعل، ونقول من طريق النحو: مات فعل، وزيد فاعله، بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين، فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل، ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا حصل بإيجاده واختياره كقولنا قام، أولاً باختياره كقولنا مات، فإن قالوا: الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول، قلنا: إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل، ولا تقتضي حصوله للمفعول، بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول.
وجوب تقديم الفعل:
المسألة الثانية: الفعل يجب تقديمه على الفاعل، لأن الفعل ـ إثباتاً كان أو نفياً يقتضي أمراً ما يكون هو مسنداً إليه، فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه، والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه، فلما وجب كون الفعل مقدماً على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر، فإن قالوا: لا نجد في العقل فرقاً بين قولنا: «ضرب زيد» وبين قولنا: «زيد ضرب» قلنا: الفرق ظاهر، لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه، أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما، إذا عرفت هذا فنقول: إذا قلنا: «ضرب زيد» فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء، ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره، فحينئذٍ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه، وحينئذٍ يصير قولنا: زيد مخبراً عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبراً عن ذلك المبتدأ.
ارتباط الفعل بالفاعل:
المسألة الثالثة: قالوا: الفاعل كالجزء من الفعل، والمفعول ليس كذلك، وفي تقريره وجوه: الأول: أنهم قالوا ضربت فاسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات، وهم يحترزون عن تواليها في كلمة واحدة، وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة، واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك، وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل، وأن المفعول منفصل عنه، الثاني: أنك تقول: الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل، وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طرداً للباب، والثالث: وهو الوجه العقلي ـ أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى، فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب، فثبت أن الفاعل جزء من الفعل.
الإضمار قبل الذكر:
المسألة الرابعة: الإضمار قبل الذكر على وجوه: أحدها: أن يحصل صورة ومعنى، كقولك ضرب غلامه زيداً والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعاً موقعه والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه، وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميراً قبل الذكر، وأما قول النابغة: ـ
جزى ربه عني عدي بن حاتم   جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فجوابه: أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم، وقال ابن جني: وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافاً للجماعة، ثم ذكر كلاماً طويلاً غير ملخص، وأقول: الأولى في تقريره أن يقال: الفعل من حيث أنه فعل كان غنياً عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغنى عن المفعول، وذلك لأن الفاعل هو المؤثر، والمفعول هو القابل، والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر، أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاعل مؤثر، والمؤثر أشرف من القابل، فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه، لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معاً وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضاً جواز تقديم المفعول على الفاعل.
القسم الثاني: وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى؛ وهو كقولك ضرب غلامه زيد: فغلامه مفعول، وزيد فاعل، ومرتبه، المفعول بعد مرتبة الفاعل، إلا أنه وأن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى.
والقسم الثالث: وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة، كقوله تعالى:
وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ }
[البقرة: 124] فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة، لكنه حاصل في المعنى، لأن الفاعل مقدم في المعنى، ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر.
إظهار الفاعل وإضماره:
المسألة الخامسة: الفاعل قد يكون مظهراً كقولك ضرب زيد، وقد يكون مضمراً بارزاً كقولك ضربت وضربنا، ومضمراً مستكناً كقولك زيد ضرب، فتنوي في ضرب فاعلاً وتجعل الجملة خبراً عن زيد، ومن إضمار الفاعل قولك إذا كان غداً فأتني، أي: إذا كان ما نحن عليه غداً.
قد يحذف الفعل:
المسألة السادسة: الفعل قد يكون مضمراً، يقال: من فعل؟ فتقول: زيد، والتقدير فعل زيد، ومنه قوله تعالى:
وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }
[التوبة: 6] والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين.
التنازع في العمل:
المسألة السابعة: إذا جاء فعلان معطوفاً أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح لأن يكون معمولاً لهما فهذا على قسمين، لأن الفعلين: أما أن يقتضيا عملين متشابهين، أو مختلفين وعلى التقديرين فأما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحداً، أو أكثر فهذه أقسام أربعة.
القسم الأول: أن يذكر فعلان يقتضيان عملاً واحدأ، ويكون المذكور بعدهما اسماً واحداً، كقولك: قام وقعد زيد، فزعم الفراء أن الفعلين جميعاً عاملان في زيد، والمشهور أنه لا يجوز؛ لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين، والأقرب راجح بسبب القرب، فوجب إحالة الحكم عليه، وأجاب الفراء بأن تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات، أما في المعرفات فجائز، وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة، فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد.
القسم الثاني: إذا كان الاسم غير مفرد، وهو كقولك، قام وقعد أخواك، فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول، أو بالفعل الثاني، فإن رفعته بالأول قلت: قام وقعدا أخواك، لأن التقدير قام أخواك وقعدا، أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل، لأن الفعل لا يخلوا من فاعل مضمر أو مظهر، تقول: قاما وقعد أخواك، وعند البصريين إعمال الثاني أولى، وعند الكوفيين إعمال الأول أولى، حجة البصريين أن أعمالهما معاً ممتنع، فلا بدّ من إعمال أحدهما، والقرب مرجح، فإعمال الأقرب أولى، وحجة الكوفيين أنا إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير، ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر، وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه.
القسم الثالث: ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين، وكان الاسم المذكور بعدهما مفرداً، فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى، خلافاً للكوفيين، حجة البصريين وجوه؛ الأول: قوله تعالى:
آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }
[الكهف: 96] فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولاً: فأما أن يكون الناصب لقوله قطراً هو قوله آتوني أو أفرغ، والأول باطل، وإلا صار التقدير آتوني قطراً، وحينئذٍ كان يجب أن يقال أفرغه عليه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقوله قطراً هو قوله أفرغ؛ الثاني: قوله تعالى:
هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ }
[الحاقة: 19] فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه، وأجاب الكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز أعمال الأقرب، وذلك لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنا نجوز أعمال الأبعد، وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع. الحجة الثالثة: للبصريين أنه يقال: ما جاءني من أحد، فالفعل رافع، والحرف جار، ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب. الحجة الرابعة: أن إهمالهما وإعمالهما لا يجوز، ولا بدّ من الترجيح، والقرب مرجح، فأعمال الأقرب أولى.
واحتج الكوفيون بوجوه: الأول: أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعاً فأعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز، فوجب القول بأعمال الأول هناك، فإذا كان الاسم مفرداً وجب أن يكون الأمر كذلك طرداً للباب. الثاني: أن الفعل الأول وجد معمولاً خالياً عن العائق، لأن الفعل لا بدّ له من مفعول، والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه، وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن أعمال الخالي عن العائق أولى من أعمال العامل المقرون بالعائق.
القسم الرابع: إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعاً فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون، وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين.
المسألة الثامنة: قول امرىء القيس: ـ
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة   كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل   وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
/ فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد، لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال، وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال، وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذٍ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلاً من المال، وهذا متناقض، فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد، ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية والعقلية، وفيه أبواب: ـ
الباب الأول
في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
وقت قراءة الاستعاذة:
المسألة الأولى: اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، وعن النخعي أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين، وهؤلاء قالوا: الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال: (آمين) فبعد ذلك يقول: أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال: الله أكبر كبيراً ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه:
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[النحل: 98] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن، ثم قالوا: وهذا موافق لما في العقل، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب، لقوله عليه السلام والسلام «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن المراد من قوله تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ }
[النحل:98] أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كما في قوله تعالى:
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }
[المائدة: 6] والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، لأنه يقال: ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا: لا شك أن قوله:
فإذا قرأت القرآن فاستعذ }
[النحل: 98] يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ }
[الحج: 52] وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب.
وأقول: ههنا قول ثالث: وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
حكم الاستعاذة:
المسألة الثانية: قال عطاء: الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون: إنها غير واجبة.
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول: إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها.
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه: الأول: أنه عليه السلام واظب عليه، فيكون واجباً لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ }.
الثاني: أن قوله تعالى: { فَٱسْتَعِذْ } أمر، وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات، لأنه تعالى قال: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة.
الثالث: أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم، لأن قوله:
فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[النحل: 98] مشعر بذلك، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة.
الرابع: أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة.
التعوذ في الصلاة:
المسألة الثالثة: التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين، وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان، لنا الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب.
هل يسر بالتعوذ أو يجهر:
المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثم قال: فإن جهر به جاز، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في «الإملاء»: ويجهر بالتعوذ، فإن أسر لم يضر، بين أن الجهر عنده أولى، وأقول: الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية، والأصل هو العدم.
هل يتعوذ في كل ركعة:
المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: قيل إنه يتعوذ في كل ركعة، ثم قال: والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، وأقول: له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله:
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ }
[النحل:98] وكلمة إذا لا تفيد العموم، ولقائل أن يقول: قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة، والله أعلم.
صيغ الاستعاذة:
المسألة السادسة: أنه تعالى قال في سورة النحل:
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[النحل: 98] وقال في سورة أخرى
إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }
[الدخان:6] وفي سورة ثالثة
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
[الأعراف: 200] فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي: واجب أن يقول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة، قالوا: لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى:
فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[النحل: 98] وموافق أيضاً لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم، وقال أحمد: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعاً بين الآيتين، وقال بعض أصحابنا، الأولى أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لأن هذا أيضاً جمع بين الآيتين، وروى البيهقي في «كتاب السنن» بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم
ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1].
وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعاً من الاستغراق في الله، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي.
هل التعوذ للقراءة أو للصلاة:
المسألة السابعة: التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة، ويتفرع على هذا الأصل فرعان: الفرع الأول: أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا؟ عندهما لا يتعوذ، لأنه لا يقرأ، وعنده يتعوذ، وجه قولهما قوله تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[النحل: 98] علق الاستعاذة على القراءة، ولا قراءة على المقتدي، فلا يتعوذ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة، الفرع الثاني: إذا افتتح صلاة العيد فقال: سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول: أعوذ بالله ثم يكبر أم لا؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات.
وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا: ـ
السنة في القراءة:
المسألة الثامنة: السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل، لقوله تعالى:
وَرَتّلِ ٱلْقُرْءانَ تَرْتِيلاً }
[المزمل: 4] والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى، فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا " قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، يقال للقارىء: إقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة.
المسألة التاسعة: إذا قرأ القرآن جهراً فالسنة أن يجيد في القراءة، روى أبو داود عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " 
المسألة العاشرة: المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة، ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جداً والتمييز عسر، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق، بيان المشابهة من وجوه: الأول: أنهما من الحروف المجهورة، والثاني: أنهما من الحروف الرخوة، والثالث: أنهما من الحروف المطبقة، والرابع: أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء، والخامس: أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام: " أنا أفصح من نطق بالضاد " فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان هذا الفرق معتبراً لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف.
المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا؟ وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان، فوجب نفيه عن هذه اللغة.
لا تجوز الصلاة بالشاذة:
المسألة الثانية عشرة: اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم «الحمدِ لله» بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقاً، لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن، إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.
المسألة الثالثة عشرة: اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال: وذلك لأنا نقول: هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون، فإن كان الأول فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعاً على خلاف الحكم الثابت بالتواتر، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير، لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيداً للجزم والقطع واليقين، وذلك باطل بالإجماع، ولقائل أن يجيب عنه فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعياً، والله أعلم.
الباب الثاني
في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.
الركن الأول: في الاستعاذة، وفيه مسائل: ـ
تفسير الاستعاذة:
المسألة الأولى: في تفسير قولنا: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بحسب اللغة فنقول: قوله: «أعوذ» مشتق من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق يقال: «أطيب اللحم عوذه» وهو ما التصق منه بالعظم، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي: ألتجىء إلى رحمة الله تعالى وعصمته، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته.
وأما الشيطان ففيه قولان: الأول: أنه مشتق من الشطن، وهو البعد، يقال: شطن دارك أي بعد، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطاناً لبعده من الرشاد والسداد، قال الله تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ }
[الأنعام: 112] فجعل من الإنس شياطين، وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان. والقول الثاني: أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلاً لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً.
وأما الرجيم فمعناه المرجوم، فهو فعيل بمعنى مفعول. كقولهم: كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين، أي ملعون، ثم في كونه مرجوماً وجهان: الأول: أن كونه مرجوماً كونه ملعوناً من قبل الله تعالى، قال الله تعالى:
فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ }
[الحجر: 34] واللعن يسمى رجماً، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له:
لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ }
[مريم: 46] قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا:
لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ }
[الشعراء: 116] وفي سورة يۤس
لئن لم تنتهوا لنرجمنكم }
[يس: 18] والوجه الثاني: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوماً لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طرداً لهم من السموات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد.
وأما قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ففيه وجهان: الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار،: الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن، وهو قوله تعالى:
وإَمَّا ينزغنك مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
[الأعراف: 200] وقال في حم السجدة:
إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }
[فصلت: 36].
المسألة الثانية: في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة: اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل، أما العلم فهو كون العبد عالماً بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه. فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب، وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالباً لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى، وذلك الطلب هو الاستعاذة، وهو قوله: «أعوذ بالله» إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله، وعلمه بنفسه، أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالماً به ولا بأحواله، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً، ولا بدّ وأن يعلم كونه قادراً على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد البعد، ولا بدّ أن يعلم أيضاً كونه جواداً مطلقاً، إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة فائدة، ولا بدّ أيضاً وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد، وأن يعلم أيضاً أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه، إذ لو كان مستقلاً بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة، فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ومن الناس من يقول: لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول: أعوذ بالله على سبيل الإجمال، وهذا ضعيف جداً لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله:
لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً }
[مريم: 42] فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالاً لمن لا يسمع ولا يبصر، وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيباً على أبيه، وأما علم العبد بحال نفسه فلا بدّ وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام، وأن يعلم أيضاً أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها، إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهداً لها متيقناً فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الجالة المسماة بالانكسار والخضوع، وحينئذٍ يحصل في قلبه الطلب، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب، وذلك هو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والذي يدل على كون الإنسان عاجزاً عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه: ـ
الحجة الأولى: أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم، ولم يعرفوا الجواب عنها، بل أصروا عليها وظنوها علماً يقينياً وبرهاناً جلياً، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات؟.
الحجة الثانية: أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح، وإن أحداً لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات.
الحجة الثالثة: أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول: ذلك الحد الأوسط إن كان حاضراً في عقله كان القياس منعقداً والنتيجة لازمة. فحينئذٍ لا يكون العقل متوقفاً في تلك القضية بل يكون جازماً بها، وقد فرضناه متوقفاً فيها، هذا خلف، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه؟ أو لا يمكنه طلبه، والأول باطل، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذٍ يكون عاجزاً عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة.
الحجة الرابعة: أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام:
وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ }
[المؤمنون: 97] فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضاً كذلك ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعاً من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الحجة الخامسة: أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان: أحدهما: اللذات الحسية. والثاني: اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذ كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها، وإذا حصل الألتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزاً بالمطالب كان أعظم حرصاً وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الحجة السادسة: في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله:
وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ }
[البقرة: 45] وقول موسى لقومه
ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
[الأعراف: 128] وفي بعض الكتب الآلهية إن الله تعالى يقول: «وعزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني».
مذهب الجبرية في الاستعاذة:
المسألة الثالثة: في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة: قوله: (أعوذ بالله) يبطل القول بالجبر من وجوه: ـ
الأول: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد فاعلاً لتلك الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلاً لأن تحصيل الحاصل محال، وأيضاً فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد موجداً لأفعال نفسه.
والثاني: أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقاً للأمور التي منها يستعاذ.
أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله.
والثالث: أن الاستعاذة بالله من المعاصي، تدل على أن العبد غير راضٍ بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضياً بها؛ لما ثبت بالإجماع / أن الرضا بقضاء الله واجب.
والرابع: أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلاً للشيطان، أما إذا كانت فعلاً لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى، لأنه لا شر إلا من قبله.
الخامس: أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئاً أصلاً وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها عليّ ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت:
لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }
[البقرة: 286] وقلت:
يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }
[البقرة: 185] وقلت:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ }
[الحج: 78] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟.
السادس: جعلتني مرجوماً ملعوناً بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني؟ فإن كان الأول فقد بطل الجبر، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم، وأنت قلت:
وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }
[غافر: 31] فكيف يليق هذا بك؟.
فإن قال قائل: هذه لإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر، ولا بالقدر، بل أقول: الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.
فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة.
قال أهل السنّة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين: ـ
الأول: أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين، أو كانت صالحة للطرفين معاً، فإن كان الأول فالجبر لازم، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع، وحينئذٍ يلزمكم كل ما ذكرتموه، وأما الثاني: وهو أن يقال: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين: الأول: أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح، والثاني: أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعاً على سبيل الاتفاق، ولا يكون صادراً عن العبد، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.
الوجه الثاني في السؤال: أنكم سلمتم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، ووقوع الشي على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلاً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازماً عليكم في العلم لزوماً لا جواب عنه.
الاستعاذة تبطل قول القدرية:
ثم قال أهل السنّة والجماعة قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يبطل القول بالقدر من وجوه: ـ
الأول: أن المطلوب من قولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعاً بالنهي والتحذير، أو على سبيل القهر والجبر، أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من الله محالاً، لأن تحصيل الحاصل محال، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين، وقد ثبت كونهم مكلفين، أجابت المعتزلة عنه فقالوا: المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، لا يقال: فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب، لأنا نقول: إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنّة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو لا أثر فيه، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذٍ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها ألبتة أثر، فيكون فعلها عبثاً محضاً. وذلك في حق الله تعالى محال.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى إما أن يكون مريداً لصلاح حال العبد، أو لا يكون، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد، أو لا يتوقع، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه؟ وأما إذا قيل: إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.
الوجه الثالث: أن الشيطان إما أن يكون مجبوراً على فعل الشر، أو يكون قادراً على فعل الشر والخير معاً، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر، وذلك يقدح في قولهم: إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير، وإن كان الثاني ـ وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ـ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة.
الوجه الرابع: هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان، فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر؟ وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان، وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطاناً آخر فهذا حيف على البشر، وتخصيص له بمزيد الثقل والأَضرار وذلك ينافي كون الإله رحيماً ناصر لعباده.
الوجه الخامس: أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه.
واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله: (أعوذ بالله) إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " 
المستعاذ به:
الركن الثاني المستعاذ به: واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين: أحدهما: أن يقال: (أعوذ بالله) والثاني: أن يقال: (أعوذ بكلمات الله) أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى:
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[النحل: 40] والمراد من قوله «كن» نفاذ قدرته في الممكنات، وسريان مشيئته في الكائنات، بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفاً بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة، وأيضاً فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة، والخروج من القوة إلى الفعل يسيراً يسيراً، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيهاً بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة، وأيضاً ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستولٍ على عالم الأجسام، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى:
فَٱلْمُدَبّرٰتِ أَمْراً }
[النازعات: 5] فقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة.
ثم ههنا دقيقة، وهي أن قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحداً إلا الله تعالى؛ لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجىء إلا إلى الله، ولم يعول إلا على الله، فلا جرم يقول: (أعوذ بالله) و (أعوذ من الله بالله) كما قال عليه السلام " وأعوذ بك منك " واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلاً أيضاً بغير الله لأن الاستعاذة لا بدّ وأن تكون لطلب أو لهرب، وذلك اشتغال بغير الله تعالى، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضاً عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقاً في نور قوله: (بسم الله) ألا ترى أنه عليه السلام لما قال: " وأعوذ بك منك " ترقى عن هذا المقام فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك " 
المستعيذ:
الركن الثالث من أركان هذا الباب: المستعيذ: واعلم أن قوله (أعوذ بالله) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك، وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذاً بالله، فالأول: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال:
رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ }
[هود: 47] فعند هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى:
قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مّنَّا وَبَركَـٰتٍ عَلَيْكَ }
[هود: 48] والثاني: حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال:
مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ }
[يوسف: 23] فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال:
لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء }
[يوسف: 24] والثالث: قيل له:
خُذِ أَحَدَنَا مَكَانَهُ }
[يوسف: 78] فقال:
مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُ }
[يوسف: 79] فأكرمه الله تعالى بقوله:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا }
[يوسف: 100] الرابع: حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة / قال قومه:
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }
[البقرة: 67] فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال:
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَـٰتِهِ }
[البقرة: 73] الخامس: أن القوم لما خوفوه بالقتل قال:
وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }
[الدخان: 20] وقال في آية أخرى:
إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ }
[غافر: 27] فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، والسادس: أن أم مريم قالت:
وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }
[آل عمران: 36] فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }
[آل عمران: 37] والسابع: أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت:
إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }
[مريم: 18] فوجدت نعمتين ولداً من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله:
إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ }
[مريم: 30] الثامن: أن الله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال:
وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ }
[المؤمنون: 97، 98] وقال:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ }
[الفلق:1] و
قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ }
[الناس:1] والتاسع: قال في سورة الأعراف
خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرف وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ من ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
[الأعراف: 199، 200] وقال في حۤم السجدة:
ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ }
[فصلت: 34] إلى أن قال:
وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }
[فصلت: 36] فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبداً في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.
وأما الأخبار فكثيرة: الخبر الأول: عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأغرقا فيه: فقال عليه السلام: " إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه: الأول: أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جداً، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعاً له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملاً له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني: أن الإنسان غير عالم قطعاً بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول: أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى، فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه» وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله.
الثالث: أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال: أعوذ بالله، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى:
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }
[الأعراف: 201] والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى.
والخبر الثاني: وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " 
قلت: وتقريره من جانب العقل أن قوله: (أعوذ بالله) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين.
الخبر الثالث: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكاً يذود عنه الشيطان " 
قلت: والسبب فيه أنه لما قال: (أعوذ بالله) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها، والشيطان الأكبر هو النفس، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان.
والخبر الرابع: عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل " 
قلت: والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة، كما قال عليه الصلاة والسلام " أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة، وبعضها كدرة مؤذية شريرة، فإذا قال الرجل: (أعوذ بكلمات الله التامات) فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة، وأيضاً كلمات الله هي قوله: «كن» وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء.
والخبر الخامس: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر " وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه.
والخبر السادس: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " ويقول: " كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسمعيل وإسحق عليهما السلام " 
الخبر السابع: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت: أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام: عذت بمعاذ فالحقي بأهلك.
واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل، وإنما التفاته إلى القول، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم مشتغلاً بتلك الكلمة، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا.
والخبر الثامن: روى الحسن قال: بينما رجل يضرب مملوكاً له فجعل المملوك يقول: (أعوذ بالله) إذ جاء نبي الله فقال: أعوذ برسول الله، فأمسك عنه فقال عليه السلام: عائذ الله أحق أن يمسك عنه، فقال: فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار " 
والخبر التاسع: قال سويد: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت.
والخبر العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام: " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك " 
المستعاذ منه:
الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام؛ في المستعاذ منه وهو الشيطان، والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما، كما ذكره في قول الله تعالى:
كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ }
[البقرة: 275] وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات، ومن علوم المكاشفات.
الاختلاف في وجود الجن:
المسألة الأولى: اختلف الناس في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين، واعلم أنه لا بدّ أولاً من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم، بل القول المحصل فيه قولان: الأول: أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة.
والقول الثاني: أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية، وهي الملائكة المقربون، كما قال الله تعالى:
وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ }
[الأنبياء: 19] ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام، وأشرفها حملة العرش، كما قال تعالى:
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ }
[الحاقة: 17] والمرتبة الثانية: الحافون حول العرش، كما قال تعالى:
وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ }
[الزمر: 75] والمرتبة الثالثة: ملائكة الكرسي، والمرتبة الرابعة: ملائكة السموات طبقة طبقة، والمرتبة الخامسة: ملائكة كرة الأثير، والمرتبة السادسة: ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، والمرتبة السابعة: ملائكة كرة الزمهرير، والمرتبة الثامنة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار، والمرتبة التاسعة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال، والمرتبة العاشرة: مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذاالعالم.
واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة، وهي المسماة بالصالحين من الجن، وقد تكون كدرة سفلية شرير شقية، وهي المسماة بالشياطين.
واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه: الحجة الأولى: إن الشيطان لو كان موجوداً لكان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو لطيفاً، والقسمان بطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسماً كثيفاً لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئاً منها، ومن جوز ذلك كان خارجاً عن العقل، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساماً لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية، وأيضاً يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن.
الحجة الثانية: أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة، إلا أنا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً.
الحجة الثالثة: أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس، وإما الخبر، وإما الدليل: أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء؛ لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتاً فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها، والذين يقولون أنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان: المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها، والكذابون المخرفون، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة أخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلاً، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم، ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء، فوجب أن يكون القول بوجود هذه الأشياء باطلاً، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين.
والجواب عن الأولى: بأنا نقول: إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً، فلم لا يجوز أن يقال إنه جوهر مجرد عن الجسمية والجواب عن الأولى بأنا نقول: أن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً فلم لا يجوز أن يقال: إنه جوهر مجرد عن الجسمية.
واعلم أن القائلين بهذا القول فِرَق: الأولى الذين قالوا: النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذٍ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء.
الفريق الثاني الذين قالوا: الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية، وهم المسمون بصالحي الجن، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية، إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان.
الفريق الثالث، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين، وهو ذلك الفلك المعين، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة، ويحصل بينها محبة ومودة، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري، وإذا عرفت هذا فنقول: قالوا: إن العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين، ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.
واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية.
واعلم أن هذا باطل لوجهين: الأول: أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي، وهو النفس، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني: هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال: إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب.
وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا: الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال: الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار؟ وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا: إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية: أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول: لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.
دليل وجود الجن من القرآن:
المسألة الثانية: اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين: أما القرآن فآيات: الآية الأولى قوله تعالى:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }
[الأحقاف: 29، 30] وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن، وعلى أنهم أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى:
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ }
[البقرة: 102] والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام:
يَعملونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ راسِيَـٰتٍ ٱعْمَلُواْ }
[سبأ: 13] وقال تعالى:
وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ }
[صۤ: 37، 38] وقال تعالى:
وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ }
ـ إلى قوله تعالى:
وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ }
[سبأ:12] والآية الرابعة قوله تعالى:
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض }
[الرحمن: 33] والآية الخامسة قوله تعالى:
إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ }
[الصافات: 6، 7] وأما الأخبار فكثيرة: ـ
الخبر الأول: روى مالك في «الموطأ»، عن صيفي بن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته، فإذا هي حية، فقمت لأقتلها، فأشار أبو سعيد أن إجلس، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال: ترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس، وساق الحديث إلى أن قال: فرأى امرأته واقفة بين الناس، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً: الفتى أم الحية، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
الخبر الثاني: روى مالك في «الموطأ» عن يحيـى بن سعيد قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال جبريل عليه السلام: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه، قل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما نزل إلى الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
والخبر الثالث: روى مالك أيضاً في «الموطأ» أن كعب الأخبار كان يقول: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ.
والخبر الرابع: روى أيضاً مالك أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون.
والخبر الخامس: ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقراءته عليهم، ودعوته إياهم إلى الإسلام.
والخبر السادس: روى القاضي أبو بكر في «الهداية» أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم، فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه.
والخبر السابع: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " وقال: " ما منكم أحد إلا وله شيطان " قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم " والأحاديث في ذلك كثيرة، والقدر الذي ذكرناه كاف.
خلق الجن من النار:
المسأل الثالثة: في بيان أن الجن مخلوق من النار: والدليل عليه قوله تعالى:
وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ }
[الحجر: 27] وقال تعالى حاكياً عن إبليس لعنه الله أنه قال:
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
[الأعراف: 12] واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد، ألا ترى أن الأطباء قالوا: المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح، وهما في غاية السخونة، وقال جالينوس: إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد، ونقول: أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية، وقال بعضهم: الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات.
سبب تسمية الجن جنا:
المسألة الرابعة: ذكروا قولين في أنهم لم سموا بالجن، الأول: أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار، ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار، ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان، ومنه الجن لاستتارهم عن العيون، ومنه المجنون لاستتار عقله، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى:
ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً }
[المجادلة: 16، المنافقون: 2] أي وقاية وستراً، واعلم أن هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون، إلا أن يقال: إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف. والقول الثاني: أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى.
طوائف المكلفين:
المسألة الخامسة: اعلم أن طوائف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين، واختلفوا في الجن والشياطين فقيل: الشياطين جنس والجن جنس آخر، كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر، وقيل: الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأَشرار الجن.
تسلط الجن على الإنس:
المسألة السادسة: المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه: الأول: أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادراً على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه، وذلك غير مستبعد، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضاً غير ممتنع قياساً على النفس وغيره. الثاني: قوله تعالى:
لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ }
[البقرة: 275] الثالث: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " 
أما المنكرون فقد احتجوا بأمور: الأول: قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله
وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }
[إبراهيم: 22] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني: لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.
صفة الملائكة:
المسألة السابعة: اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم: " إنه زاد إخوانكم من الجن "
وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى }
[الكهف: 50].
وسوسة الشيطان:
المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار: ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان، ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع " وقال عليه السلام: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات " 
ومن الناس من قال: هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه: الأول: أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني: ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر؟ الثالث: أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه لا يحس بذلك. الرابع: أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً.
وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول: بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل، وعن الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث: أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم
يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ }
[الأنبياء: 69] فلم لا يجوز مثله ههنا، وعن الرابع: أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.
تحقيق الكلام في الوسوسة:
المسألة التاسعة، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب «الإحياء»، قال: القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والمذموم يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب، والتسلسل محال، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.
تحقيق كلام الغزالي:
المسألة العاشرة: في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي: اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح، فنقول: لا بدّ قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات.
المقدمة الأولى: لا شك أن ههنا مطلوباً ومهروباً. وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوباً لذاته أو لغيره، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوباً لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروباً عنه لغيره: وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لا بدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاه، وبوجود شيء يكون مهروباً عنه لذاته.
المقدمة الثانية: إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.
المقدمة الثالثة: إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.
المقدمة الرابعة: إن القوة الباصرة إذا أدركت موجوداً في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذاً أو مؤلماً أو خالياً عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلماً ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلماً ولا بكونه لذيذاً لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.
المقدمة الخامسة: إن العلم بكونه لذيذاً إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خالياً عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعاماً لذيذاً فعلمنا بكونه لذيذاً، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالاً منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذاً أو مؤلماً إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.
المقدمة السادسة: في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيباً ذاتياً لزومياً عقلياً، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك، وللترك بدلاً عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.
إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلماً، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بدّ وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوماً ذاتياً واجباً، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطاناً من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول: إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.
والجواب: أن كل ما ذكرتموه حق وصدق، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلاً عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكياً عن إبليس أنه قال:
وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }
[إبراهيم: 22] إلا أنه بقي لقائل أن يقول: فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولا بدّ لذلك الاعتقاد الحادث من سبب، وماذاك إلا الله سبحانه وتعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله: " أعوذ بك منك " والله أعلم.
الخواطر والاختلاف فيها:
المسألة الحادية عشرة: اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية، فكأن متكلماً يتكلم معه، ومخاطباً يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورتها، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول: هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساوٍ للحرف والكلمة في الماهية أو لا؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني ـ وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات ـ فحينئذٍ يعود السؤال وهو: أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.
واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا: فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال: خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى: أما القسم الأول ـ وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان ـ فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادراً على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني ـ وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر ـ فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث ـ وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى.
أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى.
واعلم أن الثنوية يقولون: للعالم إلهان: أحدهما: خير وعسكره الملائكة، والثاني: شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبداً كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب.
المسألة الثانية عشرة: من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الإحياء، وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية، ومنهم من أنكر هذه الأحوال، وقال: إنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.
أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا لله، فبطلت هذه المذاهب بالكلية.
وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه مقدمات ثلاث: المقدمة الأولى: أن الشيطان جسم، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلاً عن حجة. وأما المقدمة الثانية ـ وهي قولهم الجسم إنما يكون قادراً بالقدرة ـ فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة، فلو كان شيء منها قادراً لذاته لكان الكل قادراً لذاته، وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام، وأما المقدمة الثالثة ـ وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام ـ وهذا أيضاً ضعيف، لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده، فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة.
هل يعلم الجن الغيب:
المسألة الثالثة عشرة: اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب؟ وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته، وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب، ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب، ثم اختلفوا فقال بعضهم إن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة، ومنهم من قال: لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله، واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى.
أسباب الاستعاذة وأنواعها:
الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ.
إعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية، وكلها أمور غير متناهية، ونحن ننبه على معاقدها فنقول: الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدن، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.
واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقاداً صواباً صحيحاً ويمكن أن يعتقد اعتقاداً فاسداً خطأ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم، وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة، وسبعمائة وأكثر خارج عن هذه الأمة، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.
وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين: منها ما يفيد المضار الدينية، ومنها ما يفيد المضار الدنيوية، فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف، وضبطها كالمعتذر، وقوله: (أعوذ بالله) يتناول كلها، وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى، وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.
والحاصل أن قوله: (أعوذ بالله) يتناول ثلاثة أقسام، وكل واحد منهما يجري مجرى ما لا نهاية له أولها: الجهل؛ ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية، فالعبد يستعذ بالله منها، ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر، وأهل البدعة على كثرتها، وثانيها: الفسق، ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جداً وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله: (أعوذ بالله) متناولاً لكلها، وثالثها: المكروهات والآفات والمخافات، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله: (أعوذ بالله) متناولاً لكلها، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع «كتب الطب» حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعاً من الآلام والأسقام، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول:(أعوذ بالله) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذٍ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجىء إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك: (أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات) ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي.
الباب الثالث
في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
النكتة الأولى: في قوله: (أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب: وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله: (أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله: (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله: (بالله) إقرار بأمرين: أحدهما: بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني: أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذاالفرار سر قوله:
فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ }
[الذاريات: 50] وهذه الحالة تحصل عند قوله: (أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقاً في نور جلال الحق شاهد قوله:
قل الله ثم ذرهم }
[الأنعام:91] فعند ذلك يقول: (أعوذ بالله).
النكتة الثانية: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال.
النكتة الثالثة: أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له: الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة الرابعة: أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة.
النكتة الخامسة: الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى:
إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً }
[فاطر: 6] والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب، فالمقام الأول: هو الفرار وهو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني: وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم).
النكتة السادسة: قال تعالى:
لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ }
[الواقعة: 79] فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث، فلا بدّ من استعمال الطهور، فلما قال: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال: { بِسْمِ اللَّهِ }.
النكتبة السابعة: قال أرباب الإشارات: لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر:
قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ }
[التوبة: 29] وقال في العدو الباطن:
إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً }
[فاطر: 6] فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى:
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ }
[آل عمران: 125] وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى:
إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلِيهم سُلْطَـٰنٍ }
[الحجر: 42] وأيضاً فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضاً فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضاً فمن قتله العدو الظاهر كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة الثامنة: إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد دياراً طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضاً ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم يرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ }
[فاطر: 10] بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علماً بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " القبر روضة من رياض الجنة "وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب سريراً لمعرفة الله وعرشاً لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني: كأن الله تعالى يقول: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟ الثالث: أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال:
فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }
[القمر: 55] ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال: أنا في ذلك اليوم أكون مليكاً مقتدراً وعبيدي يكونون ملوكاً، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: كأنه تعالى يقول: يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول تعالى: وهل دخلت جنتك؟ فلا بدّ وأن يقول العبد: نعم يا رب، فيقول تعالى: إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤماً مدحوراً، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول: إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول الله تعالى: العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قوياً فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقل:(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
فإن قيل: فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه؟ (قلنا) قال أهل الإشارة: كأنه تعالى يقول للعبد: أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطاناً في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة التاسعة: كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان؛ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقراً بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة العاشرة: أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من النا صحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال:
فبعزتك لأَغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }
[ص: 82، 83] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.
النكتة الحادية عشرة: إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجراً عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً عليماً حكيماً فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادراً إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بدّ معها من العلم، وأيضاً فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكراً إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعاً منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.
النكتة الثانية عشرة: لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.
النكتة الثالثة عشرة: الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة الرابعة عشرة: لقائل أن يقول: لم لم يقل: «أعوذ بالملائكة» مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }
[الأعراف: 27] وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
النكتة الخامسة عشرة: أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفاً للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه: إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطاناً فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال: إني أقاتل هؤلاء السبعين، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله، فرجع الرجل خائباً إلى المسجد فقال المذكر: ماذا عملت؟ فقال: هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضاً جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان، والراضي يجري مجرى الفاعل له، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.
النكتة السادسة عشرة: الشيطان مأخوذ من «شطن» إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى:
وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }
[العلق: 19] والله قريب منك قال الله تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ }
[البقرة: 186] وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى:
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }
[الفتح: 26] فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً، وجعلك قريباً موصولاً، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريباً لأنه تعالى قال:
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً }
[فاطر: 43] فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.
النكتة السابعة عشرة: قال جعفر الصادق: إنه لا بدّ قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً فيقرأ بلسان طاهر كلاماً أنزل من رب طيب طاهر.
النكتة الثامنة عشرة: كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.
النكتة التاسعة عشرة: الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }
[الأعراف: 27].
فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى:
وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ }
[يوسف: 21] فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
الباب السابع
في المسائل الملتحقة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
المسألة الأولى: فرق بين أن يقال: «أعوذ بالله» وبين أن يقال: (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضاً جاء قوله: «الحمد لله» وجاء قوله: «لله الحمد» وأما هنا فقد جاء «أعوذ بالله» وما جاء قوله «بالله أعوذ» فما الفرق؟.
المسألة الثانية: قوله: (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } كقوله: «أستغفر الله» أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: { أعوذ بالله } أخبار عن فعله، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: «أعوذ بالله» ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى:
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ }
[النحل:91] وقال:
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }
[البقرة:40] فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: «أعوذ بالله» فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم.
المسألة ج: أعوذ فعل مضارع، وهو يصلح للحال والاستقبال، فهل هو حقيقة فيهما؟ والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وإنما يختص به بحرف السين وسوف.
(د) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل، ولم يقع بين الحاضر والماضي؟.
(هـ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم.
(و) كيف العامل فيه، ولا شك أنه معمول فما هو.
(ز) قوله:(أعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل، وهو الكمال، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة.
(ح) قوله: (أعوذ) حكاية عن النفس، ولا بدّ من الأربعة المذكورة في قوله: (أتين).
أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة (أ) الباء في قوله: «بالله» باء الإلصاق وفيه مسائل: ـ
المسألة الأولى: البصريون يسمونه باء الإلصاق، والكوفيون يسمونه باء الآلة، ويسميه قوم باء التضمين، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سبباً للإلصاق، وباء الآلة لكونه داخلاً على الشيء الذي هو آلة.
المسألة الثانية: اتفقوا على أنه لا بدّ فيه من إضمار فعل، فإنك إذا قلت: «بالقلم» لم يكن ذلك كلاماً مفيداً، بل لا بدّ وأن تقول: «كتبت بالقلم» وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر، ونظيره قوله: «بالله لأفعلن» ومعناه أحلف بالله لأفعلن، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا ههنا، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره: على اسم الله أي سر على اسم الله.
المسألة الثالثة: لما ثبت أنه لا بدّ من الإضمار فنقول: الحذف في هذا المقام أفصح، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله: «أعوذ بالله» بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله، وإلا عند الابتداء باسم الله، ونظيره أنه قال: «الله أكبر» ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا.
المسألة الرابعة: قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب، فإن قيل: كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة، قلنا: كاف التشبيه قائم مقام الاسم، وهو في العمل ضعيف، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر، فكان فيه كلاماً قوياً.
المسألة الخامسة: الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى:
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ }
[الأحقاف: 9] وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه: أحدها: للإلصاق وهي كقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } وقوله: (بسم الله) وثانيها: للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه، وثالثها: لتأكيد النفي كقوله تعالى:
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }
[فصلت: 46] ورابعها: للتعدية كقوله تعالى:
ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }
[البقرة:17] أي أذهب نورهم، وخامسها: الباء بمعنى في قال:
حل بأعدائك ما حل بي
أي: حل في أعدائك، وأما باء القسم، وهو قوله: «بالله» فهو من جنس باء الإلصاق.
المسألة السادسة: قال بعضهم: الباء في قوله:
وامسحوا برؤسكم }
[آل عمران:6] زائدة والتقدير: وامسحوا رؤسكم، وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغواً أو مفيداً، والأول باطل؛ لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة، وكل من قال بذلك قال: إن تلك الفائدة هي التبعيض، الثاني: أن الفرق بين قوله: «مسحت بيدي المنديل» وبين قوله: «مسحت يدي بالمنديل» يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل. الثالث: أن بعض أهل اللغة قال: الباء قد تكون للتبعيض، وأنكره بعضهم، لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض، ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضاً، فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس، وهذا هو قول الشافعي، والإشكال عليه أنه تعالى قال:
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم }
[النساء:43] فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافياً في التيمم، وعند الشافعي لا بدّ فيه من الإتمام، وله أن يجيب فيقول: مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخاً فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل، وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص.
المسألة السابعة: فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل: إحداها: قال محمد في «الزيادات»: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق، وهو كقوله: أنت طالق إن شاء الله، ولو قال: لمشيئة الله يقع، لأنه أخرجه مخرج التعليل، وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق، ولو قال لإرادة الله يقع، أما إذا قال: أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين، ولا بدّ من الفرق، وثانيها: قال في كتاب الأَيمان لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق، فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه، ولو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى، ولا بدّ من الفرق، وثالثها: لو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً بألف، فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل، فصار بإزاء من طلقة ثلث الألف، ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة «على» كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف.
قلت: وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء.
(أ) قال أبو حنيفة: الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه، فإذا قال: بعت كذا بكذا، فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط، وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال: إذا قال: بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسداً، وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح، والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن، وفي الصورة الثانية الخمر مثمن، وجعل الخمر ثمناً جائز أما جعله مثمناً فإنه لا يجوز.
(ب) قال الشافعي: إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم، وعند أبي حنيفة لا يتعين.
(ج) قال الله تعالى:
إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }
[التوبة: 111] فجعل الجنة ثمناً للنفس والمال.
ومن أصول الفقه مسائل: (أ) الباء تدل على السببية قال الله تعالى:
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ }
[الأنفال: 13] ههنا الباء دلت على السببية، وقيل: إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب.
(ب) إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية، لا بدّ من بيانه.
(ج) الباء في قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» لا بدّ من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق، وكذلك البحث عن قوله:
وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ }
[البقرة: 30] فإنه يجب البحث عن هذه الباء.
(د) قيل: كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرٱن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلومها في الباء من بسم الله (قلت) لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب، فهو كمال المقصود.
النوع الثالث من مباحث هذه الباب، مباحث حروف الجر.
فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها: أحدهما: الباء؛ وثانيهما: لفظ «من» فنقول: في لفظ «من» مباحث: ـ
(أ) أنك تقول: «أخذت المال من ابنك» فتكسر النون ثم تقول: «أخذت المال من الرجل» فتفتح النون، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة، وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل، فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات، فوجب كون هذه الكلمة معربة.
(ب) كلمة«من» وردت على وجوه أربعة: إبتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، والزيادة.
(ج) قال المبرد: الأصل هو ابتداء الغاية، والبواقي مفرعة عليه، وقال آخرون: الأصل هو التبعيض، والبواقي مفرعة عليه.
(د) أنكر بعضهم كونها زائدة، وأما قوله تعالى:
يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ }
[نوح: 4] فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم، ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله.
(هـ) الفرق بين من وبين عن لا بدّ من ذكره قال الشيطان
ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ }
[الأعراف: 17] وفيه سؤالان: الأول: لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن. الثاني: لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال: (أعوذ بالله من الشيطان) ولم يقل عن الشيطان.
النوع الرابع من مباحث هذا الباب: ـ
(أ) الشيطان مبالغة في الشيطنة، كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة، والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول، كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل، إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم، وهذا يقتضي المساواة بينهما، وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان، إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل، وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي، فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير.
(ب) الإله هل هو رحيم كريم؟ فإن كان رحيماً كريماً فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد، وإن لم يكن رحيماً كريماً فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان.
(ج) الملائكة في السموات هل يقولون: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان.
(د) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله.
(هـ) الأنبياء والصديقون لم يقولون (أعوذ بالله) مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله:
فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }
[صۤ: 82, 83].
(و) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال:
وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ }
[إبراهيم: 22] وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم؟.
الكتاب الثاني
في مباحث بسم اللّه الرحمن الرحيم وفيه أبواب:
الباب الأول:
في مسائل جارية مجرى، المقدمات وفيه مسائل:
متعلق باء البسملة:
المسألة الأولى: قد بينا أن الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) متعلقة بمضمر، فنقول: هذا المضمر يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فعلاً، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدماً، وأن يكون متأخراً، فهذه أقسام أربعة، أما إذا كان متقدماً وكان فعلاً فكقولك: أبدأ باسم الله، وأما إذا كان متقدماً وكان اسماً فكقولك: ابتداء الكلام باسم الله، وأما إذا كان متأخراً وكان فعلاً فكقولك: باسم الله أبدأ، وأما إذا كان متأخراً وكان اسماً فكقولك: باسم الله ابتدائي ويجب البحث ههنا عن شيئين: الأول: أن التقديم أولى أم التأخير؟ فنقول كلاهما وارد في القرآن، أما التقديم فكقوله:
بِٱسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }
[هود: 41] وأما التأخير فكقوله:
ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }
[العلق: 1] وأقول: التقديم عندي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقاً على وجود غيره، والسابق بالذات يستحق السبق في الذِّكر، الثاني: قال تعالى:
هُوَ ٱلاْوَّلُ وَٱلاْخِرُ }
[الحديد: 3] وقال:
لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }
[الروم: 4] الثالث: أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم، الرابع: أنه قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فههنا الفعل متأخر عن الاسم، فوجب أن يكون في قوله:(بسم الله) كذلك، فيكون التقدير باسم الله ابتدىء، الخامس: سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي الله عنه يقول: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري: المحققون قالوا ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله بعده، فقال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير: ذاك مقام المريدين أما المحققون فإنهم ما رأوا شيئًا إلا وكانوا قد رأوا الله قبله، قلت: وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الإنّ، والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم، ومعلوم أن برهان اللم أشرف، وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولاً فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم الله ومن قال: (باسم الله) ثم أضمر الفعل ثانياً فكأنه رأى وجوب الاستعانة بالله ثم نزل منه إلى أحوال نفسه.
المسألة الثانية: إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم، قال الشيخ أبو بكر الرازي: نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل، وهو الأمر، لأنه تعالى قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
[االفاتحة: 4] والتقدير قولوا إياك نعبد وإياك نستعين، فكذلك قوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } التقدير قولوا بسم الله، وأقول: لقائل أن يقول: بل إضمار الاسم أولى، لأنا إذا قلنا تقدير الكلام بسم الله ابتداء كل شيء كان هذا إخباراً عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالقاً لجميع الكائنات، سواء قاله قائل أو لم يقله، وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى، وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن الأولى أن يقال قولوا الحمد لله أو الأولى أن يقال الحمد لله؛ لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقاً للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله.
المسألة الثالثة: الجر يحصل بشيئين: أحدهما: بالحرف كما في قوله: «باسم» والثاني: بالإضافة كما في «الله» من قوله: «باسم الله» وأما الجر الحاصل في لفظ «الرحمن الرحيم» فإنما حصل لكون الوصف تابعاً للموصوف في الإعراب، فههنا أبحاث: أحدها: أن حروف الجر لم اقتضت الجر؟ وثانيها: أن الإضافة لم اقتضت الجر؟ وثالثها: أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة، ورابعها: أن الإضافة على كم قسم تقع، قالوا إضافة الشيء إلى نفسه محال، فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل، أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه، أما القسم الأول فنحو «باب حديد، وخاتم ذهب» لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب، وأما القسم الثاني فكقولك: «غلام زيد» فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية، وأما أقسام النسب والإضافات فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد؛ فإن أنواع النسب غير متناهية.
المسألة الرابعة: كون الاسم اسماً للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى، وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص، فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني، فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى، فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى.
المسألة الخامسة: قال أبو عبيد: ذكر الاسم في قوله: «بسم الله» صلة زائدة، والتقدير بالله قال، وإنما ذكر لفظة الاسم: إما للتبرك، وإما ليكون فرقاً بينه وبين القسم، وأقول والمراد من قوله: «بسم الله» قوله: ابدؤا بسم الله، وكلام أبي عبيد ضعيف؛ لأنا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلاً من أفعالنا، وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا، فوجب أن يكون المراد أبدأ بذكر الله، والمراد أبدأ ببسم الله، وأيضاً فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار، واسمه أشرف الأسماء، فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقاً على كل الأذكار، وأن يكون اسمه سابقاً على كل الأسماء، وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة.
الباب الثاني
فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة
أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة: ـ
الوقف على كلمات البسملة:
المسألة الأولى: أجمعوا على أن الوقف على قوله: «بسم» ناقص قبيح، وعلى قوله: «بسم الله» أو على قوله: «بسم الله الرحمن» كاف صحيح، وعلى قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» تام واعلم أن الوقف لا بدّ وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، وهو أن يكون ناقصاً، أو كافياً أو كاملاً، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقاً بما قبله يكون كافياً، والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعًا عنه يكون وقفاً تاماً.
ثم لقائل أن يقول: قوله: «الحمد لله رب العالمين» كلام تام، إلا أن قوله: «الرحمن الرحيم ملك» متعلق بما قبله، لأنها صفات، والصفات تابعة للموصوفات، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم الله الرحمن آية؟ ثم يقولوا الرحيم آية ثانية، وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة، فهذا الإشكال لا بدّ من جوابه.
حكم لام الجلالة:
المسألة الثانية: أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله: «بسم الله» وفي قوله: «الحمد لله» والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل؛ لأن الكسرة توجب التسفل، واللام المفخمة حرف مستعل، والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل، وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله:
ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }
[الشورى: 19]
قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] وقوله:
إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ }
[التوبة: 111].
المسألة الثالثة: قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران: الأول: الفرق بينه وبين لفظ اللام في الذكر، الثاني: أن التفخيم مشعر بالتعظيم، وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم، الثالث: أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان، وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب؛ وأيضاً جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك، فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه، وهو بدل على أنه يذكره بكل قلبه، فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، وكنسبة السين إلى الصاد، فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد، ثم إنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر، وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضاً أن يقولوا: اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر، وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بدّ من الفرق.
حكم الإدغام:
المسألة الخامسة: تشديد اللام من قولك: «الله» للإدغام فإنه حصل هناك لامان الأولى: لام التعريف وهي ساكنة والثانية: لام الأصل وهي متحركة، وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكناً والثاني متحركاً أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة، أما في الكلمتين فكما في قوله:
فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }
[البقرة: 16]
وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ }
[النحل: 53]
مَّا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ }
[الرعد: 34] وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة.
واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين، فامتنع الإدغام لهذا السبب، وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزاً.
المسألة السادسة: لأَرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة، وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة «الله» اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني، فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة الله، وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروفة سقطت المعرفة وفنيت وبطلت، وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان.
مد لام الجلالة:
المسألة السابعة: لا يجوز حذف الألف من قولنا: الله في اللفظ، وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه، قال بعضهم: ـ
أقبل سيل جاء من عند الله   يجود جود الجنة المغله
انتهى، ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة: إحداها: أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم: لا؛ لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين، وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز، وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد وثانيها: لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا، وثالثها: لو ذكر قوله: «الله» في قوله: «الله أكبر» هل تنعقد الصلاة به أم لا؟.
المسألة الثامنة: لم يقرأ أحد الله بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى.
حكم لام أل:
المسألة التاسعة: تشديد الراء من قوله: «الرحمن الرحيم» لأجل إدغام لام التعريف في الراء، ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام، وفي ثلاثة عشر حرفاً سواه وهي: الصاد، والضاد، والسين، والشين، والدال، والذال، والراء، والزاي، والطاء، والظاء، والتاء، والثاء، والنون، انتهى. كقوله تعالى: { ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلراكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج، فإن اللام وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه، فحسن الإدغام، ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله:
ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ.... ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ }
[التوبة: 112] كلها بالإظهار، وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج، فإنه إذا بعد مخرج الحرف الأول عن مخرج الحرف الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الآخر، بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما، لأن التمييز بينهما مشكل صعب.
المسألة العاشرة: أجمعوا على أنه لا يمال لفظ «الرحمن» وفي جواز إمالته قولان للنحويين: أحدهما: أنه يجوز، ولعله قول سيبويه، وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف، والقول الثاني: وهو الأظهر عند النحويين، أنه لا يجوز.
المسألة الحادية عشرة: أجمعوا على أن إعراب «الرحمن الرحيم» هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو، أما الرفع فعلى تقدير بسم الله هو الرحمن الرحيم، وأما النصب فعلى تقدير بسم الله أعين الرحمن الرحيم.
النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط، وفيه مسائل: ـ
ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة:
المسألة الأولى: طولوا الباء من «بسم الله» وما طولوها في سائر المواضع، وذكروا في الفرق وجهين: الأول: أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها، ألا ترى أنهم لما كتبوا
ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }
[العلق: 1] بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية، الثاني: قال القتيبي، إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه طولوا الباء، وأظهروا السين. ودوروا الميم تعظيماً لكتاب الله.
المسألة الثانية: قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصال بكتبة لفظ الله ارتفعت واستعلت، فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة الله عزّ وجلّ أن يرتفع حاله ويعلو شأنه.
المسألة الثالثة: حذفوا ألف «اسم» من قوله: «بسم الله» وأثبتوه في قوله: (إقرأ باسم ربك) والفرق من وجهين: الأول: أن كلمة «باسم الله» مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال، فلأجل التخفيف حذفوا الألف، بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل. الثاني: قال الخليل: إنما حذفت الألف في قوله: «بسم الله» لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في (بسم الله) لأنه يمكن حذف الباء من { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } مع بقاء المعنى صحيحاً، فإنك لو قلت إقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من «بسم الله» لم يصح المعنى فظهر الفرق.
المسألة الرابعة: كتبوا لفظة الله بلامين، وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة، مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة، وفي لزوم التعريف، والفرق من وجوه: الأول: أن قولنا:«الله» اسم معرب متصرف تصرف الأسماء، فأبقوا كتابته على الأصل، أما قولنا «الذي» فهو مبني لأجل أنه ناقص؛ لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنياً، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب، ألا ترى أنهم كتبوا قولهم: «اللذان» بلامين، لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف، فإن الحرف لا يثنى.
الثاني: أن قولنا:«الله» لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي.
الثالث: أن تفخيم ذكر الله في اللفظ واجب، فكذا في الخط، والحذف ينافي التفخيم وأما قولنا: «الذي» فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضاً تفخيمه في الخط.
المسألة الخامسة: إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا: «الله» في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة، وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة.
المسألة السادسة: قالوا: الأصل في قولنا: «الله» الإله، وهي ستة حروف، فلما أبدلوه بقولهم: «الله» بقيت أربعة أحرف في الخط: همزة، ولامان، وهاء؛ فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهو إشارة إلى حالة عجيبة، فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف، ثم لا يزال يترقى قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق، ومحل الروح، فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة، ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية، حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد، فهو إشارة إلى ما قيل: النهاية رجوع إلى البداية.
المسألة السابعة: إنما جاز حذف الألف قبل النون من «الرحمن» في الخط على سبيل التخفيف، ولو كتب بالألف حسن، ولا يجوز حذف الياء من الرحيم، لأن حذف الألف من الرحمن لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس، بخلاف حذف الياء من الرحيم.
الباب الثالث
من هذا الكتاب في مباحث الاسم، وهي نوعان:
أحدهما: ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم، والثاني: ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم.
النوع الأول: وفيه مسائل: ـ
لغات الاسم:
المسألة الأولى: في هذا اللفظ لغتان مشهورتان، تقول العرب: هذا اسمه وسمه، قال: باسم الذي في كل سورة سمه.
وقيل: فيه لغتان غيرهما سم وسم، قال الكسائي: إن العرب تقول تارة اسم بكسر الألف وأخرى بضمه، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم، وقال الذين لغتهم ضم الألف سم، وقال ثعلب: من جعل أصله من سما يسمى قال اسم وسم، ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم، وقال المبرد: سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه.
المسألة الثانية: أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي.
اشتقاق الاسم:
المسألة الثالثة: في اشتقاقه قولان: قال البصريون: هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به، وأقول: اللفظ معرف للمعنى، ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على المعرف، فلا جرم كان الاسم عالياً على المعنى ومتقدماً عليه، وقال الكوفيون: هو مشتق من وسم يسم سمة، والسمة العلامة، فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى، حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيماً وجمعه أوساماً.
المسألة الرابعة: الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم، ثم حذف منه الواو، ثم زيد فيه ألف الوصل عوضاً عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة، أصله الوعد والوصف والوزن، أسقط منها الواو، وزيد فيها الهاء، وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو، فلهم قولان: الأول: أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمي، والأمر فيه اسم: كقولنا ادع من دعوت، أو اسم مثل ارم من رميت، ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسماً وأدخلوا عليها وجوه الإعراب، وأخرجوها عن حد الأفعال، قالوا: وهذا كما سموا البعير يعملا، وقال الأخفش: هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر، ثم أدخلوا الألف واللام على الماضي من فعله، وتركوه مفتوحاً، والقول الثاني: أصله سمو مثل حمو، وإنما حذفت الواو من آخره استثقالاً لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران، وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها، وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك، فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال، وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال، فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به، وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة.
مسائل الاسم العقلية:
النوع الثاني: من مباحث هذه الباب، المسائل العقلية: ـ
فنقول: أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه، فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل: ـ
المسألة الأولى: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية.
وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بدّ من التنبيه على مقدمة؛ وهي أن قول القائل: «الاسم هل هو نفس المسمى أم لا» يجب أن يكون مسبوقاً ببيان أن الاسم ما هو، وأن المسمى ما هو، حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا، فنقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها، وتلك الحقائق بأعيانها، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثاً، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.
المسألة الثانية: اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلاً لطيفاً دقيقاً، وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين، ولفظ الاسم كذلك، فوجب أن يكون لفظ الاسم إسماً لنفسه، فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم، ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى، إلا أن فيه إشكالاً، وهو أن كون الاسم إسماً للمسمى من باب الاسم المضاف، وأحد المضافين لا بدّ وأن يكون مغايراً للآخر.
المسألة الثالثة: في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى، وفيه وجوه: ـ
الأول: أن الاسم قد يكون موجوداً مع كون المسمى معدوماً، فإن قولنا: «المعدوم منفي» معناه سلب لا ثبوت له، والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف، وأيضاً قد يكون المسمى موجوداً والاسم معدوماً مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة، وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة.
الثاني: أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحد كالأسماء المترادفة، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة، وذلك أيضاً يوجب المغايرة.
الثالث: أن كون الاسم إسماً للمسمى وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول: يشكل هذا بكون الشيء عالماً بنفسه.
الرابع: الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات، وتلك الأصوات أعراض غير باقية، والمسمى قد يكون باقياً، بل يكون واجب الوجود لذاته.
الخامس: أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج، وذلك لا يقوله عاقل.
السادس: قوله تعالى: { وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تعالى تسعة وتسعين إسماً " فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد، وهو الله عزّ وجلّ.
السابع: أن قوله تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ } وقوله:
تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }
[الرحمن: 78] ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال.
الثامن: أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا إسم الله، وبين قولنا اسم الاسم، وبين قولنا الله الله، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى.
التاسع: أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول: الله اسم عربي، وخداي اسم فارسي، وأما ذات الله تعالى فمنزه عن كونه كذلك.
العاشر: قال الله تعالى:
وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }
[الأعراف: 180] أمرنا بأن ندعو الله بأسمائه فالاسم آلة الدعاء، والمدعو هو الله تعالى، والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة.
واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص، والحكم، أما النص فقوله تعالىٰ:
تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }
[الرحمن: 78] والمتبارك المتعالي هو الله تعالى لا الصوت ولا الحرف، وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال: زينب طالق، وكان زينب إسماً لامرأته وقع عليها الطلاق، ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة، فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها.
والجواب عن الأول أن يقال: لم لا يجوز أن يقال: كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزهاً عن النقائص والآفات، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب.
وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها.
المسألة الرابعة: التسمية عندنا غير الاسم، والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة. والفرق بينهما معلوم بالضرورة.
الاسم أسبق من الفعل وضعا:
المسألة الخامسة: قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ الدالة على ارتباط بعضها بالبعض، فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق؟ الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال، ويدل عليه وجوه: ـ
الأول: أن الاسم لفظ دال على الماهية، والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين، فكان الاسم مفرداً والفعل مركباً، والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر واللفظ.
الثاني: أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل، أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل، فعلى هذا الفاعل غنيّ عن الفعل، والفعل محتاج إلى الفاعل، والغنيّ سابق بالرتبة على المحتاج، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر.
الثالث: أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد، وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخير، أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد ألبتة، بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد ألبتة، فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة، على الفعل، فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع.
تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا:
المسألة السادسة: قد علمت أن الاسم قد يكون اسماً للماهية من حيث هي هي، وقد يكون إسماً مشتقاً وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفاً بالصفة الفلانية كالعالم والقادر، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات، لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب.
المسألة السابعة: يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها؛ لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها، والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر.
أقسام أسماء المسميات:
المسألة الثامنة: في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات: اعلم أنها تسعة، فأولها: الاسم الواقع على الذات، وثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار أنه جسم وجوهر، وثالثها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية، ورابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك، وخامسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا إنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خالٍ عن المخافات، وسادسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات، وسابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً. وثامنها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين: أحدهما: أن يكون سابقاً على غيره وهو صفة إضافية. والثاني: أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية، ومثل القيوم فإن معناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه، والأول: سلب، والثاني: إضافة، وتاسعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية، فهذا هو القول في تقسيم الأسماء، وسواء كان الاسم إسماً لله سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحادثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه.
المسألة التاسعة: في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الآلهية:
المقدمة الأولى: أنه تعالى مخالف لخلقه، لذاته المخصوصة لا لصفة، والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب، وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذٍ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بدّ وأن يكون لصفة زائدة، فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر ألبتة فحينئذٍ لزم رجحان الجائز لا لمرجح، وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فإن قيل؛ هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل،وهو محال.
المقدمة الثانية: أنا نقول: إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر، لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي، وذاته المخصوصة أمر ثابت، والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة، وأيضاً فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية، لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية، وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة.
المقدمة الثالثة: في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور: أربعة: إما العلم بكونه موجوداً، وإما العلم بدوام وجوده، وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية، وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية، وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة؛ فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده، وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضاً مغايرة لدوام وجوده، وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية، وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة، ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر.
الثاني: أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور أمراً من الأمور إلا من طرق أمور أربعة: أحدها: الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس، وثانيها: الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم، وثالثها: الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان، ورابعها: الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة، فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي، فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام، ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق.
الثالث: أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة، وهذا معدوم فذاك معدوم، فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر.
المقدمة الرابعة: في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم.
المقدمة الخامسة: في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم؟ الإنصاف أن هذه المباحث صعبة، والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي، وقال بعضهم: عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية، والحق تعالى غير متناهٍ، والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى، وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى، وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم، فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله.
المقدمة السادسة: اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين: معرفة عرضية، ومعرفة ذاتية: أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناء علمنا بأنه لا بدّ له من بان، فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته، وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات، فوجود البناء لا يدل عليه، وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا، وعرفنا الحرارة بلمسنا، وعرفنا الصوت بسمعنا، فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة، ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية، إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية، فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط.
المقدمة السابعة: اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو ـ أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية ـ يقع في الشاهد على نوعين: أحدهما: العلم، والثاني: الإبصار، فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين، فعلمنا أن العلم غير، وأن الإبصار غير، إذا عرفت هذا فنقول: بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار؟ هذا أيضاً مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه، وبتقدير أن يكون هناك طريقان: أحدهما: المعرفة، والثاني: الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة؟ كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها ألبتة، فهذا هو الكلام في هذه المقدمات.
المسألة العاشرة: في أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ نقل عن قدماء الفلاسفة إنكاره، قالوا: والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان لله بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى، فإذا ثبت أن أحداً من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة ألبتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة، فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود، فعند هذا قالوا: إنه ليس لتلك الحقيقة اسم، بل له لوازم معرفة، وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول، وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم، وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفاً بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا: إذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة، فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة.
المسألة الحادية عشرة: بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء، وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وشرف الذكر بشرف المذكور، فلما كان ذات الله تعالى أشرف المعلومات والمذكورات كان العلم به أشرف العلوم، وكان ذكر الله أشرف الأذكار، وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات.
اسم الله الأعظم:
المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه:
الأول: قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا:
ذو الجلال والإكرام }
[الرحمن: 27] وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " وهذا عندي ضعيف، لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية، والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية، وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات.
والقول الثاني: قول من يقول أنه هو
الحي القيوم }
[البقرة: 255] لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ابن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ فقال:
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }
[البقرة: 255] فقال: " ليهنك العلم أبا المنذر " وعندي أنه ضعيف، وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال، وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة، وأما القيوم فهو مبالغة في القيام، ومعناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره، فكونه قائماً بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، وكونه مقوماً لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة، فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم.
القول الثالث: قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة مقدسة، ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم؛ لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان، وعندي أن هذا أيضاً ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة، وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها، وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار.
القول الرابع: أن الاسم الأعظم هو قولنا: «الله» وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة.
المسألة الثالثة عشرة: أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق الله تعالى محال، لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق الله محال، لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه، وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره، وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن، ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته، فما لا يكون ممكناً لذاته امتنع أن يكون مركباً، وما لا يكون مركباً امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته.
المسألة الرابعة عشرة: اعلم أنّا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق الله تعالىٰ أم لا، قد ذكرنا اختلاف الناس فيه، وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق الله تعالى، فبقيت الأقسام السبعة فنقول: أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود، ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام، والله الهادي.
الباب الرابع
في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية
قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل:
تسمية الله بالشيء:
المسألة الأولى: أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية الله تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز، أما حجة الجمهور فوجوه: ـ
الحجة الأولى: قوله تعالى:
قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }
[الأنعام: 19] وهذا يدل على أنه يجوز تسمية الله باسم الشيء، فإن قيل: لو كان الكلام مقصوراً على قوله: { قُلِ ٱللَّهُ } لكان دليلكم حسناً، لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى:
قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ }
[الأنعام: 19] وهذا كلام مستقل بنفسه، ولا تعلق له بما قبله، وحينئذٍ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمى باسم الشيء قلنا: لما قال: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } ثم قال: { قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } وحينئذٍ يلزم المقصود.
الحجة الثانية: قوله تعالى:
كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[القصص: 88] والمراد بوجهه ذاته، ولو لم تكن ذاته شيئاً لما جاز استثنائه عن قوله: { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ } وذلك يدل على أن الله تعالى مسمى بالشيء.
الحجة الثالثة: قوله عليه السلام في خبر عِمران بن الحصين: " كان الله ولم يكن شيء غيره " وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على الله تعالى.
الحجة الرابعة: روى عبد الله الأنصاري في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء أغير من الله عزّ وجلّ " 
الحجة الخامسة: أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وذات الله تعالى كذلك، فيكون شيئاً.
واحتج جهم بوجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى:
ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء }
[الزمر: 62] وكذلك قوله:
وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }
[المائدة: 17] فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقاً ومقدوراً، والله تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور، ينتج أن الله سبحانه وتعالى ليس بشيء. فإن قالوا إن قوله تعالى: { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } وقوله:
وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }
[الملك: 1] عام دخله التخصيص، قلنا الجواب عنه من وجهين: الأول: أن التخصيص خلاف الأصل، والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر، الثاني: أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل، فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات، إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيراً قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه، ويحكم على الباقي بحكم الكل، فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول: إن بتقدير أن يكون الله تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو الله تعالى، فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص، فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال.
الحجة الثانية: قوله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }
[الشورى: 11] حكم الله تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء، ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه، وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء، فإن قالوا إن الكاف زائدة، قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام الله تعالى لغو وعبث وباطل، ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل، ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال.
الحجة الثالثة: لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء، وأسماء الله تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسماً لله تعالى: أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر، وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء، وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلاً في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال، وأما قولنا: إن أسماء الله يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال، فالدليل عليه قوله تعالى:
وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ }
[الأعراف: 180] والاستدلال بالآية أن كون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة، فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن الاسم حسناً ثم إنه تعالى أمرنا بأن ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك
وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ }
[الأعراف: 180] وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء الله، فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو الله إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح، وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب.
الحجة الرابعة: أنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب الله تعالى بقوله يا شيء، وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة، فكيف يجوز للعبد خطاب الله بهذاالاسم، بل نقل عنهم أنهم كانوا يقولون: يا منشىء الأشياء، يا منشىء الأرض والسماء.
واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى، وهذا في غاية البعد، فإنه لا نزاع في أن الله تعالى موجود وذات وحقيقة، إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه، فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى، ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق، فليكن الإنسان عالماً بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط.
إطلاق لفظ الموجود على الله:
المسألة الثانية: في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى؟ اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة، وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك على معيين: أحدهما: أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور، ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به، والثاني: أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه، واعلم أن بين الأمرين، فرقاً، وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلاً في نفسه، ولا ينعكس، لأن كونه حاصلاً في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان: لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلاً في نفسه مع أنه لا يكون معلوماً لأحد، بقي ههنا بحث، وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولاً للإدراك والوجدان ثم نقل ثانياً إلى حصول الشيء في نفسه، أو الأمر فيه بالعكس، أو وضعا معاً؟ فنقول: هذا البحث لفظي، والأقرب هو الأول، لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقاً على وضعه لحصول الشيء نفسه.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين: أحدهما: كونه معلوماً مشعوراً به، والثاني: كونه في نفسه ثابتاً متحققاً، أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى:
لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ }
[النساء: 64] ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان، وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن.
فإن قالوا: لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدماً محضاً لما كان الأمر كذلك.
فنقول: هذا ضعيف من وجهين: الأول: أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت؛ لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوماً، والثاني: أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ، فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر، ثم نقول: ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به.
فإن قالوا: ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء، ولفظ الموجود لا يفيد ذلك؟.
قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع، وأيضاً فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود، أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم ألبتة، فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى. الثاني: أن لفظ الموجود بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء، لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل، فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه، فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء.
معنى قولنا ذات الله:
المسألة الثالثة: في الذات: روى عبد الله الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» أخباراً تدل على هذا اللفظ: أحدها: عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من أعظم الناس أجراً الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات الله " ، وثانيها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله " ، وثالثها: عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا علياً فإنه كان مخشوشاً في ذات الله "
، ورابعها: عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل؟ قال: " أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله " وخامسها: عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن للشيطان مصايد وفخوخاً منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله " 
وأقول: إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكراً قيل إنه ذو ذلك الأمر، وإن كان مؤنثاً قيل إنها ذات ذلك الأمر، فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة، إذا عرفت هذا فنقول: إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية، وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة، وهكذا إلى غير النهاية، بل لا بدّ وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها، وحينئذٍ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات، فقولنا: إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها، فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة، ولما كان الحق تعالى قيوماً في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقاً وصدقاً، وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئاً منها لا يدل على هذا المعنى؛ لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة الله تعالى وماهيته، وإنماالمراد منه طلب رضوان الله، ألا ترى أنه قال: " لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله " أي: في طلب مرضاة الله، وهكذا الكلام في سائر الأخبار.
إطلاق لفظ النفس على الله:
المسألة الرابعة: في لفظ النفس، وهذا اللفظ وارد في القرآن، قال تعالى:
تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ }
[المائدة: 116] وقال:
وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }
[آل عمران: 28] وعن عائشة قالت: كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فقدته، فطلبته، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد، وهو يقول: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن جاءني يمشي جئته أهرول " والخبر الثالث: عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما خلق الله الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي " والخبر الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، ومن أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل " الخبر الخامس: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا التسبيح: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه. الخبر السادس: روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالىٰ أنه قال: " حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا " وتمام الخبر مشهور. الخبر السابع: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم على المنبر
وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }
[الأنعام: 91] ثم أخذ يمجد الله نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى خفنا سقوطه. الخبر الثامن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسىٰ: أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة، قال آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت كتبته على قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال فحج آدم موسى ثلاث مرات» الخبر التاسع: عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما " الخبر العاشر: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه أنه قال: " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، فلا أبالي في أي وادٍ من الدنيا أهلكه، وأقذفه في جهنم، وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن؛ يكره الموت ولا بدّ له منه وأكره مساءته "الخبر الحادي عشر: عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ـ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحاً "
الخبر الثاني عشر: عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام، وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ثم لم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه الله تعالى من طينة الخبال " فقال: قلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: " صديد أهل جهنم " 
نفس الشيء ذاته وحقيقته:
واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء، وحقيقته؛ وهويته، وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء، لأن كل جسم مركب، وكل مركب ممكن، وكل ممكن محدث، وذلك على الله محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه.
المسألة الخامسة: في لفظ الشخص، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا شخص أغير من الله، ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله " 
واعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية، بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعيناً باعتباره يمتاز عن غيره.
هل يقال لله «النور»:
المسألة السادسة: في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على الله، قال الله تعالى:
ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }
[النور: 35] وأما الأخبار فروى أنه قيل لعبد الله بن عمر: نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي في بطن أمه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى، ومن أخطأ فقد ضل " فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى.
واعلم أن القول بأن الله تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل، ويدل عليه وجوه: الأول: أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية في جسم، والجسم محدث فكيفياته أيضاً محدثة، وجل الإله عن أن يكون محدثاً. الثاني: أن النور تضاده الظلمة، والإله منزه عن أن يكون له ضد. الثالث: أن النور يزول ويحصل له أفول، والله منزه عن الأفول والزوال، وأما قوله تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات، والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية
مَثَلُ نُورِهِ }
[النور: 35] فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه، فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور، بل هو خالق النور.
بقي أن يقال: فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه؟ فنقول فيه وجوه: الأول: قرأ بعضهم «لله نور السموات والأرض» وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة، والثاني: أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها؛ فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه. والثالث: أن بحكمته حصلت مصالح العالم. وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة، ومن كان ناظماً للمصالح وساعياً في الخيرات فقد يسمى بالنور، يقال: فلان نور هذه البلد، إذا كان موصوفاً بالصفة المذكورة. والرابع: أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة، وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار: أما القرآن فقوله تعالىٰ في آخر الآية: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } وأما الأخبار فكثيرة: ـ
الخبر الأول: ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " 
الخبر الثاني: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هل تدرون أي الناس أكيس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت " 
الخبر الثالث: عن ابن مسعود قال: " تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] فقلت: يا رسول الله كيف يشرح الله صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقلت: ما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت. " الخبر الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت والله مؤمناً حقاً، فقال عليه الصلاة والسلام: أنظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا " ثم قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب، فاستشهد في سبيل الله.
الخبر الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع صوتاً من فوقه، فرفع رأسه إلى السماء فقال:
" إن هذا الباب من السماء قد فتح، وما فتح قط، فنزل منه ملك فقال: يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة " 
الخبر السادس: عن يعلى بن منبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمر المؤمن على الصراط يوم القيامة فتناديه النار: «جز عني يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " 
الخبر السابع: عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم بك نصبح، وبك نمسي، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور، اللهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظاً ونصيباً، في كل خير تقسمه اليوم: من نور تهدى به، أن رحمة تنشرها، أو رزق تبسطه، أو ضر تكشفه، أو بلاء تدفعه، أو سوء ترفعه، أو فتنة تصرفها " 
الخبر الثامن: عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أهل الجنة فقال: " أهل الجنة شعث رؤسهم، وسخة ثيابهم، لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم " 
الخبر التاسع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم، حاجة أحدهم تتلجلج في صدره، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم " 
الخبر العاشر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزّ وجلّ يقول: نوري هداي، و «لا إله إلا الله» كلمتي، فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن " 
الخبر الحادي عشر: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو " أعوذ بكلمات الله التامة، وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات، من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجأة نقمتك، ومن درك الشقاء وشر قد سبق " 
الخبر الثاني عشر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً " والحديث مشهور.
لفظ الصورة:
المسألة السابعة: في لفظ الصورة، وفيه أخبار: الخبر الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم على صورته " وعن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن " قال إسحاق بن راهويه: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن " 
الخبر الثاني: عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غدوة فقال له قائل: ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة، قال: " وما أبالي،، وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي ربي، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض " 
واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوهًا: الأول: أن قوله: " إن الله خلق آدم على صورته "الضمير عائد إلى المضروب، يعني أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب. الثاني: أن المراد أن الله خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره، يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنيناً ورضيعاً، بل خلقه الله رجلاً كاملاً دفعة واحدة الثالث: أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا، أي: صفته، فقوله: " خلق الله آدم على صورة الرحمن " أي: خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية، كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم.
إطلاق «الجوهر» على الله لا يجوز:
المسألة الثامنة: الفلاسفة قد يطلقون لفظ «الجوهر» على ذات الله تعالى، وكذلك النصارى، والمتكلمون يمتنعون منه، أما الفلاسفة فقالوا: المراد من الجوهر الذات المستغنى عن المحل والموضوع، والله تعالى كذلك، فوجب أن يكون جوهراً، فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر، وهو الظهور، فسمي الجوهر جوهراً لكونه ظاهراً بسبب شخصيته وحجميته، فكونه جوهراً عبارة عن كونه ظاهر الوجود، وأما حجميته فليست نفس الجوهر، بل هي سبب لكونه جوهراً وهو ظهور وجوده، والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده، فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو، وأما المتكلمون فقالوا: أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه.
إطلاق الجسم لا يجوز:
المسألة التاسعة: أطلق أكثر الكرامية لفظ «الجسم» على الله تعالى فقالوا: لا نريد به كونه مركباً مؤلفاً من الأعضاء، وإنما نريد به كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم.
ولنا مع الكرامية مقامان: المقام الأول: أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسماً معنى غير الطول والعرض والعمق، وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون: أنه تعالى فوق العرش، ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، بل يقولون: إنه أعظم من العرش، وكان ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلاً عريضاً عميقاً، فكان جسماً بمعنى كونه طويلاً عريضاً عميقاً، فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسماً معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف.
المقام الثاني: أن نقول: لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلاً، وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه، لا سيما والمتكلمون قالوا: لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق، فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى.
إطلاق «الأَنية»:
المسألة العاشرة: في إطلاق لفظ «الأنية» على الله تعالى: اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيراً، وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة «إن» في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود، ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته، وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود، وفي قوة الوجود، لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الأنية عليه.
إطلاق «الماهية»:
المسألة الحادية عشرة: في إطلاق لفظ الماهية عليه: اعلم أن لفظ «الماهية» ليس لفظاً مفرداً بحسب أصل اللغة، بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول: ما تلك الحقيقة وما هي؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أرنا الأشياء كما هي، فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة، ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة.
إطلاق لفظ «الحق»:
المسألة الثانية عشرة: في إطلاق لفظ «الحق» اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجوداً وجوداً حقيقياً في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود، وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه، وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صواباً مطابقاً كان واجب التقرير والإبقاء، وأما أن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الأخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى هو المستحق لاسم الحق، أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله. وأما بحسب الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير عن هذه الصفة، وأما بحسب الأخبار والذكر فلأن هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقاً واجب التقرير، فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات والله الموفق الهادي.