...
القسم الثاني: من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود: ـ
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات عقلية.
كونه تعالى «أزلياً»:
المقدمة الأولى: اعلم أن كونه تعالى أزلياً أبدياً لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له، وذلك لأنا نقول: كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أولاً يتوقف عليه، فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود، لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزلياً أبدياً من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر، وأما أن توقف عليه فنقول: ذلك الزمان إما أن يكون أزلياً أو لا يكون فإن كان ذلك الزمان أزلياً فالتقدير هو أن كونه أزلياً لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذٍ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل، وأما إن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزلياً فحينئذٍ قد كان الله أزلياً موجوداً قبل ذلك الزمان، وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر، وهو المطلوب، فثبت أن كونه تعالى أزلياً لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزلياً.
كونه تعالى «باقياً»:
المقدمة الثانية: أن الشيء كلما كان أزلياً كان باقياً، لكن لا يلزم من كون الشيء باقياً كونه أزلياً، ولفظ «الباقي» وورد في القرآن قال الله تعالى:
{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }
[الرحمن: 27] وأيضاً قال تعالى:
{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[القصص: 88] والذي لا يصير هالكاً يكون باقياً لا محالة، وأيضاً قال تعالى:
{ هُوَ ٱلأوَّلُ وَٱلأَخِرُ }
[الحديد: 3] فجعله أولاً لكل ما سواه، وما كان أولاً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول؛ إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولاً لأول نفسه، ولو كان له آخر لامتنع كونه آخراً لآخر نفسه، فلما كان أولاً لكل ما سواه وكان آخراً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر، فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزلياً لا أول له، أبدياً لا آخر له.
المقدمة الثالثة: لو كان صانع العالم محدثاً لافتقر إلى صانع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال فهو قديم، وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء: ـ
اسمه تعالى «القديم»:
الاسم الأول: القديم، واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة، ولا يفيد نفي الأولية يقال: دار قديم إذا طالت مدته، قال الله تعالى:
{ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ }
[يۤس: 39] وقال:
{ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ }
[يوسف: 95].
اسمه تعالى " الأزلي ":
الاسم الثاني: الأزلي، وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل، فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه، وهذا باطل، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه، وهو محال، بل المراد وجود لا أول له ألبتة.
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات عقلية.
كونه تعالى «أزلياً»:
المقدمة الأولى: اعلم أن كونه تعالى أزلياً أبدياً لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له، وذلك لأنا نقول: كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أولاً يتوقف عليه، فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود، لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزلياً أبدياً من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر، وأما أن توقف عليه فنقول: ذلك الزمان إما أن يكون أزلياً أو لا يكون فإن كان ذلك الزمان أزلياً فالتقدير هو أن كونه أزلياً لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذٍ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل، وأما إن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزلياً فحينئذٍ قد كان الله أزلياً موجوداً قبل ذلك الزمان، وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر، وهو المطلوب، فثبت أن كونه تعالى أزلياً لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزلياً.
كونه تعالى «باقياً»:
المقدمة الثانية: أن الشيء كلما كان أزلياً كان باقياً، لكن لا يلزم من كون الشيء باقياً كونه أزلياً، ولفظ «الباقي» وورد في القرآن قال الله تعالى:
{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }
[الرحمن: 27] وأيضاً قال تعالى:
{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[القصص: 88] والذي لا يصير هالكاً يكون باقياً لا محالة، وأيضاً قال تعالى:
{ هُوَ ٱلأوَّلُ وَٱلأَخِرُ }
[الحديد: 3] فجعله أولاً لكل ما سواه، وما كان أولاً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول؛ إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولاً لأول نفسه، ولو كان له آخر لامتنع كونه آخراً لآخر نفسه، فلما كان أولاً لكل ما سواه وكان آخراً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر، فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزلياً لا أول له، أبدياً لا آخر له.
المقدمة الثالثة: لو كان صانع العالم محدثاً لافتقر إلى صانع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال فهو قديم، وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء: ـ
اسمه تعالى «القديم»:
الاسم الأول: القديم، واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة، ولا يفيد نفي الأولية يقال: دار قديم إذا طالت مدته، قال الله تعالى:
{ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ }
[يۤس: 39] وقال:
{ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ }
[يوسف: 95].
اسمه تعالى " الأزلي ":
الاسم الثاني: الأزلي، وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل، فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه، وهذا باطل، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه، وهو محال، بل المراد وجود لا أول له ألبتة.
عدم أوليته تعالى:
الاسم الثالث: قولنا لا أول له، وهذا اللفظ صريح في المقصود، واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية، قال بعضهم: إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات، فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدماً إلا أنه في الحقيقة ثبوت، وقال آخرون: أنه مفهوم عدمي، لأنه نفي لكون الشيء مسبوقاً بالعدم، وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقاً بالعدم، فكونه مسبوقاً بالعدم كيفية ثبوتية، فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية، فكان قولنا لا أول مفهوماً عدمياً، وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة، فكانت مسبوقة بالعدم، فكان كونها كذلك صفة أخرى، ولزم التسلسل، وهو محال.
اسمه تعالى " الأبدي والسرمدي ":
الاسم الرابع: الأبدي، وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل.
الاسم الخامس: السرمدي، واشتقاق هذه اللفظة من السرد، وهو التوالي والتعاقب، قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم: " واحد فرد وثلاثة سرد " أي: متعاقبة، ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى.
إذا عرفت هذا فنقول: الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض، ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالاً كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازاً، فإن ورد في الكتاب والسنّة أطلقناه وإلا فلا.
" المستمر ":
الاسم السادس: المستمر، وهذا بناء الاستفعال، وأصله المرور والذهاب، ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر، إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان، أما في حق الله فهو محال؛ لأنه باقٍ بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه.
الاسم السابع: الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء، إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات، أما في حق الله تعالى فعلى المجاز.
اسمه تعالى " الباقي ":
الاسم الثامن: لفظ الباقي، قال تعالى:
{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }
[الرحمن: 27] واعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً ولا ينعكس، فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية، ومن الناس من قال: لفظ الباقي يفيد الدوام، وعلى هذا ألا يصح وصف الأجسام بالباقي، وليس الأمر كذلك، لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.
الاسم الثالث: قولنا لا أول له، وهذا اللفظ صريح في المقصود، واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية، قال بعضهم: إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات، فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدماً إلا أنه في الحقيقة ثبوت، وقال آخرون: أنه مفهوم عدمي، لأنه نفي لكون الشيء مسبوقاً بالعدم، وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقاً بالعدم، فكونه مسبوقاً بالعدم كيفية ثبوتية، فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية، فكان قولنا لا أول مفهوماً عدمياً، وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة، فكانت مسبوقة بالعدم، فكان كونها كذلك صفة أخرى، ولزم التسلسل، وهو محال.
اسمه تعالى " الأبدي والسرمدي ":
الاسم الرابع: الأبدي، وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل.
الاسم الخامس: السرمدي، واشتقاق هذه اللفظة من السرد، وهو التوالي والتعاقب، قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم: " واحد فرد وثلاثة سرد " أي: متعاقبة، ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى.
إذا عرفت هذا فنقول: الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض، ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالاً كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازاً، فإن ورد في الكتاب والسنّة أطلقناه وإلا فلا.
" المستمر ":
الاسم السادس: المستمر، وهذا بناء الاستفعال، وأصله المرور والذهاب، ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر، إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان، أما في حق الله فهو محال؛ لأنه باقٍ بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه.
الاسم السابع: الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء، إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات، أما في حق الله تعالى فعلى المجاز.
اسمه تعالى " الباقي ":
الاسم الثامن: لفظ الباقي، قال تعالى:
{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }
[الرحمن: 27] واعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً ولا ينعكس، فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية، ومن الناس من قال: لفظ الباقي يفيد الدوام، وعلى هذا ألا يصح وصف الأجسام بالباقي، وليس الأمر كذلك، لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.
" الدائم ":
الاسم التاسع: الدائم، قال تعالى:
{ أُكُلُهَا دَائِمٌ }
[الرعد: 35] ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم هوالله.
واجب الوجود:
الاسم العاشر: قولنا: «واجب الوجود لذاته» ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده، وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء، واعلم أن ما كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديماً أزلياً، ولا ينعكس؛ فليس كل ما كان قديماً أزلياً كان واجب الوجود لذاته، لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللاً بعلة أزلية أبدية، فحينئذٍ يجب كونه أزلياً أبدياً بسبب كون علته كذلك، فهذا الشيء يكون أزلياً أبدياً مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته، وقولهم بالفارسية «خداي» معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا: «خداي» كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية: إحداهما: خود، ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا: «آي» ومعناه جاء، فقولنا: «خداي» معناه أنه بنفسه جاء، وهو إشارة إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره، وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم: «خداي» أنه لذاته كان موجوداً.
" الكائن ":
الاسم الحادي عشر: الكائن، واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى، قال الله تعالى:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }
[الكهف: 45] وقال إن الله:
{ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
[النساء: 24] وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن، لكنه وارد في بعض الأخبار، روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يا كائناً قبل كل كون، ويا حاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون " أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثاً لطيفاً نحوياً: وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ «كان» على قسمين: أحدهما: الذي يكون تاماً، وهو بمعنى حدث ووجد وحصل، قال تعالى:
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }
[آل عمران: 110] أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والثاني: الذي يكون ناقصاً كقولك «كان الله عليماً حكيماً»، فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بدّ له من مرفوع ومنصوب، واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل، إلا أنهم قالوا: إنه على الوجه الأول فعل تام، وعلى الثاني فعل ناقص، فقلت للقوم: لو كانت هذه اللفظة فعلاً لكان دالاً على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذٍ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء، وحينئذٍ يتم الكلام، فكان يجب أن يستغنى عن ذكر المنصوب، وعلى هذا التقدير يصير فعلاً تاماً.
الاسم التاسع: الدائم، قال تعالى:
{ أُكُلُهَا دَائِمٌ }
[الرعد: 35] ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم هوالله.
واجب الوجود:
الاسم العاشر: قولنا: «واجب الوجود لذاته» ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده، وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء، واعلم أن ما كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديماً أزلياً، ولا ينعكس؛ فليس كل ما كان قديماً أزلياً كان واجب الوجود لذاته، لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللاً بعلة أزلية أبدية، فحينئذٍ يجب كونه أزلياً أبدياً بسبب كون علته كذلك، فهذا الشيء يكون أزلياً أبدياً مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته، وقولهم بالفارسية «خداي» معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا: «خداي» كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية: إحداهما: خود، ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا: «آي» ومعناه جاء، فقولنا: «خداي» معناه أنه بنفسه جاء، وهو إشارة إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره، وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم: «خداي» أنه لذاته كان موجوداً.
" الكائن ":
الاسم الحادي عشر: الكائن، واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى، قال الله تعالى:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }
[الكهف: 45] وقال إن الله:
{ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
[النساء: 24] وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن، لكنه وارد في بعض الأخبار، روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يا كائناً قبل كل كون، ويا حاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون " أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثاً لطيفاً نحوياً: وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ «كان» على قسمين: أحدهما: الذي يكون تاماً، وهو بمعنى حدث ووجد وحصل، قال تعالى:
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }
[آل عمران: 110] أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والثاني: الذي يكون ناقصاً كقولك «كان الله عليماً حكيماً»، فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بدّ له من مرفوع ومنصوب، واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل، إلا أنهم قالوا: إنه على الوجه الأول فعل تام، وعلى الثاني فعل ناقص، فقلت للقوم: لو كانت هذه اللفظة فعلاً لكان دالاً على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذٍ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء، وحينئذٍ يتم الكلام، فكان يجب أن يستغنى عن ذكر المنصوب، وعلى هذا التقدير يصير فعلاً تاماً.
فثبت أن القول بأن بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة، وما أفضى ثوبته إلى نفيه كان باطلاً، فكان القول بأن هذه الكلمة ناقصة كلاماً باطلاً، ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زماناً طويلاً، وما أفلحوا في الجواب، ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة، وتقريره أن نقول: لفظ «كان» لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود، إلا أن هذا على قسمين: منه ما يفيد حدوث الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد موصوفية شي بشيء آخر. أما القسم الأول: فإن لفظ «كان» يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل، وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين، فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعاً، فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما، فقولنا: «كان زيد عالماً»، معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط، إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد، وفي القسم الثاني: لا بدّ من ذكر الاسمين، وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو، إذا عرفت هذا فنقول: فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على الله تعالى.
القسم الثالث: من أقسام الصفات الحقيقية:
الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات:
الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود.
اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات ذات الله تعالى؟ فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار، ويحتجون عليه بوجوه:
الأول: أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها، والقسمان باطلان، فبطل القول بالصفات، وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين: الأول: أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحداً. الثاني: أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنياً عما سواه، والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف، فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكناً لذاته لوجهين: الأول: أن الممكن لذاته لا بدّ له من سبب، وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله، لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة، وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير. وما كان كذلك كان ممكناً لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكناً لذاته، وهو محال، ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى؛ لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وهو محال؛ لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد، والفعل والقبول أثران مختلفان: الثاني: أن الأثر مفتقر إلى المؤثر، فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه، أو حال حدوثه، أو حال عدمه، والأول باطل.
القسم الثالث: من أقسام الصفات الحقيقية:
الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات:
الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود.
اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات ذات الله تعالى؟ فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار، ويحتجون عليه بوجوه:
الأول: أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها، والقسمان باطلان، فبطل القول بالصفات، وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين: الأول: أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحداً. الثاني: أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنياً عما سواه، والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف، فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكناً لذاته لوجهين: الأول: أن الممكن لذاته لا بدّ له من سبب، وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله، لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة، وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير. وما كان كذلك كان ممكناً لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكناً لذاته، وهو محال، ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى؛ لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وهو محال؛ لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد، والفعل والقبول أثران مختلفان: الثاني: أن الأثر مفتقر إلى المؤثر، فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه، أو حال حدوثه، أو حال عدمه، والأول باطل.
وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلاً للحاصل، وهو محال، فبقي القسمان الأخيران، وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثراً لغيره كان حادثاً، فوجب أن يقال: الشيء الذي لا يكون حادثاً فإنه لا يكون أثراً للغير، فثبت أن القول بالصفات باطل.
الحجة الثانية: على نفي الصفات: قالوا: إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه، فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم، ويكون كل واحد منهما مخالفاً للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة، فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركباً من جزأين ثم نقول: ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديماً لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديماً، وحينئذٍ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية، فيلزم كون كل واحد منهما مركباً من جزأين، وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال، وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه: الأول: أن قيام الحوادث بذات الله محال، لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه فحينئذٍ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل، والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال. والثاني: أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته، فحينئذٍ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية، لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية؛ لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال، فكان وجود قابليتها في الأزل محالاً. الثالث: أن تلك الصفات لما كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات، فحينئذٍ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية، فوجب نفيها، فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة.
الحجة الثالثة: أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم، فإن كان الأول كان وجودها فضلاً زائداً، فوجب نفيها، وإن كان الثاني كان الإله مفتقراً في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر، والمحتاج لا يكون إلهاً.
الحجة الثانية: على نفي الصفات: قالوا: إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه، فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم، ويكون كل واحد منهما مخالفاً للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة، فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركباً من جزأين ثم نقول: ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديماً لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديماً، وحينئذٍ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية، فيلزم كون كل واحد منهما مركباً من جزأين، وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال، وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه: الأول: أن قيام الحوادث بذات الله محال، لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه فحينئذٍ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل، والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال. والثاني: أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته، فحينئذٍ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية، لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية؛ لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال، فكان وجود قابليتها في الأزل محالاً. الثالث: أن تلك الصفات لما كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات، فحينئذٍ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية، فوجب نفيها، فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة.
الحجة الثالثة: أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم، فإن كان الأول كان وجودها فضلاً زائداً، فوجب نفيها، وإن كان الثاني كان الإله مفتقراً في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر، والمحتاج لا يكون إلهاً.
الحجة الرابعة: ذاته تعالى إما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات، وإما أن لا تكون، فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات، وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها، وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية.
الحجة الخامسة: لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذٍ يكون الإله مجزأ مبعضاً منقسماً، وذلك بعيد عن العقل؛ لأن كل مركب ممكن لا واجب.
الحجة السادسة: أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث، فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة، أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات، والأول لا يقوله النصارى، فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها، فبقي الثاني، وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفراً.
فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به.
دلائل مثبتي الصفات:
المسألة الثانية: في دلائل مثبتي القول بالصفات: اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً، فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات، ويدل عليه وجوه: الأول: أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا: ذات الله ذات، وبين قولنا: ذات الله عالمة قادرة، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات. الثاني: أنه يمكن العلم بكونه موجوداً مع الذهول عن كونه قادراً وعالماً، وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادراً مع الذهول عن كونه عالماً، وبالعكس، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات، الثالث: أن كونه عالماً عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن، وكونه قادراً ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة، بل هو مختص بالجائز فقط، ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك، الرابع: أن كونه تعالى قادراً يؤثر في وجود المقدور، وكونه عالماً لا يؤثر، ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك، الخامس: أن قولنا: موجود، يناقضه قولنا: ليس بموجود، ولا يناقضه قولنا: ليس بعالم، وذلك يدل على أن المنفي بقولنا: ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا: ليس بعالم، وكذا القول في كونه قادراً.
فهذه دلائل واضحة على أنه لا بدّ من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى، إلا أنه بقي أن يقال: لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من «كونه قادراً» كونه بحيث يصح منه الإيجاد، وتلك الصحة معللة بذاته، و «كونه عالماً» معناه الشعور والإدراك، وذلك حالة نسبية إضافية، وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة، وهذا تمام الكلام في هذا الباب.
الحجة الخامسة: لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذٍ يكون الإله مجزأ مبعضاً منقسماً، وذلك بعيد عن العقل؛ لأن كل مركب ممكن لا واجب.
الحجة السادسة: أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث، فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة، أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات، والأول لا يقوله النصارى، فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها، فبقي الثاني، وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفراً.
فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به.
دلائل مثبتي الصفات:
المسألة الثانية: في دلائل مثبتي القول بالصفات: اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً، فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات، ويدل عليه وجوه: الأول: أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا: ذات الله ذات، وبين قولنا: ذات الله عالمة قادرة، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات. الثاني: أنه يمكن العلم بكونه موجوداً مع الذهول عن كونه قادراً وعالماً، وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادراً مع الذهول عن كونه عالماً، وبالعكس، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات، الثالث: أن كونه عالماً عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن، وكونه قادراً ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة، بل هو مختص بالجائز فقط، ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك، الرابع: أن كونه تعالى قادراً يؤثر في وجود المقدور، وكونه عالماً لا يؤثر، ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك، الخامس: أن قولنا: موجود، يناقضه قولنا: ليس بموجود، ولا يناقضه قولنا: ليس بعالم، وذلك يدل على أن المنفي بقولنا: ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا: ليس بعالم، وكذا القول في كونه قادراً.
فهذه دلائل واضحة على أنه لا بدّ من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى، إلا أنه بقي أن يقال: لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من «كونه قادراً» كونه بحيث يصح منه الإيجاد، وتلك الصحة معللة بذاته، و «كونه عالماً» معناه الشعور والإدراك، وذلك حالة نسبية إضافية، وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة، وهذا تمام الكلام في هذا الباب.
المسألة الثالثة: أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول: الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة، وهي مثل العلم والقدرة، فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور، فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات.
أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول: قالت الفلاسفة: الحي هو الدراك الفعال، إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضاً كذلك، وحينئذٍ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول، وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً قادراً، واحتجوا عليه بأن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة، فلا بدّ وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة، فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة، فيقال لهم: قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة، فسقط هذا الدليل، وأيضاً الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة، فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى، ولزم التسلسل، ولا جواب عنه إلا أن يقال: إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية، وقال قوم ثالث: معنى كونه حياً أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذا عبارة عن نفي الامتناع، ولكن الامتناع عدم، فنفيه يكون عدماً للعدم، فيكون ثبوتاً، فيقال لهم: هذا مسلم، لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة؟ فإن قالوا: الدليل عليه أن نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية، فوجب أن يكون كونها حية مغايراً لتلك الذات، فيقال لهم: قد دللنا على أنا لا نعقل ذات الله تعالى تعقلاً ذاتياً، وإنما نتعقل تلك الذات تعقلاً عرضياً، وعند هذا يسقط هذا الدليل، فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
اسمه تعالى الحي:
المسألة الرابعة: لفظ الحي وارد في القرآن، قال الله تعالى:
{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }
[البقرة: 255] وقال:
{ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ }
[طه: 111] وقال:
{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ }
[غافر: 65] فإن قيل: الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر، وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم، فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم؟ فالجواب إن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حياً، بل بمجموع كونه حياً قيوماً. وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه، وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة، والحي هو الدراك الفعال، فقوله: «الحي» يعني كونه دراكاً فعالاً، وقوله: «القيوم» يعني كونه دراكاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات، فحصل المدح من هذا الوجه.
أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول: قالت الفلاسفة: الحي هو الدراك الفعال، إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضاً كذلك، وحينئذٍ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول، وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً قادراً، واحتجوا عليه بأن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة، فلا بدّ وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة، فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة، فيقال لهم: قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة، فسقط هذا الدليل، وأيضاً الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة، فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى، ولزم التسلسل، ولا جواب عنه إلا أن يقال: إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية، وقال قوم ثالث: معنى كونه حياً أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذا عبارة عن نفي الامتناع، ولكن الامتناع عدم، فنفيه يكون عدماً للعدم، فيكون ثبوتاً، فيقال لهم: هذا مسلم، لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة؟ فإن قالوا: الدليل عليه أن نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية، فوجب أن يكون كونها حية مغايراً لتلك الذات، فيقال لهم: قد دللنا على أنا لا نعقل ذات الله تعالى تعقلاً ذاتياً، وإنما نتعقل تلك الذات تعقلاً عرضياً، وعند هذا يسقط هذا الدليل، فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
اسمه تعالى الحي:
المسألة الرابعة: لفظ الحي وارد في القرآن، قال الله تعالى:
{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }
[البقرة: 255] وقال:
{ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ }
[طه: 111] وقال:
{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ }
[غافر: 65] فإن قيل: الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر، وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم، فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم؟ فالجواب إن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حياً، بل بمجموع كونه حياً قيوماً. وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه، وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة، والحي هو الدراك الفعال، فقوله: «الحي» يعني كونه دراكاً فعالاً، وقوله: «القيوم» يعني كونه دراكاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات، فحصل المدح من هذا الوجه.
الباب الخامس
في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية
الاسم الدال على الصفات الإضافية:
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة عقلية، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا؟ قالت المعتزلة والأشعرية: التكوين نفس المكون، وقال آخرون إنه غيره، واحتج النفاة بوجوده:
الحجة الأولى: أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالا ختيار.
الحجة الثانية: أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها، إلى تكوين آخر ولزم التسلسل.
الحجة الثالثة: أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية، فإن كان الأول فحينئذٍ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود، وعلى هذا التقدير فلا حجة إلى إثبات صفة أخرى، وإن كان الثاني فحينئذٍ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة، وذلك يوجب التناقض.
واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً، ثم نقول: كونه موجداً إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمراً زائداً، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجداً له، ألا ترى أنه إذا قيل: لم وجد العالم؟ قلنا: لأجل أن الله أوجده، فلو كان كون الموجد موجداً له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه، ولو كان معللاً بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل، فوجب أن يكون كون الموجد موجداً أمراً مغايراً لكون الفاعل قادراً لوجود الأثر، فثبت أن التكوين غير المكون.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا: معنى كونه تعالى خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ضاراً نافعاً عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء.
وأما القائلون بأن التكوين غير المكون، فقالوا معنى كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية.
اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام: أحدها: كونه معلوماً مذكوراً مسبحاً ممجداً، فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، يا أيها الممدوح عند كل إنسان، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناهٍ كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. وثانيها: كونه تعالى فاعلاً للأفعال صفة إضافية محضة بناءً على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجداً، أو المخبر عنه كونه موجداً للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية، أما القسم الأول ـ وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجداً ـ فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل: الموجد، والمحدث، والمكون، والمنشىء، والمبدع، والمخترع، والصانع، والخالق، والفاطر، والبارىء، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة، ومع ذلك فالفرق حاصل: أما الاسم الأول ـ وهو الموجد ـ فمعناه المؤثر في الوجود، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجوداً بعد أن كان معدوماً، وهذا أخص من مطلق الإيجاد، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفاً للموجد، وأما المنشىء فاشتقاقه من النشوء والنماء، وهو الذي يكون قليلاً قليلاً على التدريج، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة، وهما كنوعين تحت جنس الموجد. والمخترع قريب من المبدع، وأما الصانع فيقرب أن يكون اسماً لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق، ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة، وأما البارىء فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة، يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجداً على سبيل العموم، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول: أنه إذا خلق النافع سمي نافعاً، وإذا خلق المؤلم سمي ضاراً، والمثال الثاني: إذا خلق الحياة سمي محيياً، وإذا خلق الموت سمي مميتاً، والمثال الثالث: إذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً، والمثال الرابع: إذا قلل العطاء سمي قابضاً، وإذا أكثره سمي باسطاً، والمثال الخامس: إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقماً وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفواً غفوراً رحيماً رحماناً، المثال السادس: إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضاً باسطاً، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار.
وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا دقائق لا بدّ منها: فالدقيقة الأولى: أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه، فقولنا: «المعز المذل» وقولنا: «المحيـي المميت» يتقابلان تقابل الضدين، وأما قولنا: «القابض الباسط، الخافض الرافع» فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود، لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية: أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف، وله أمثلة: المثال الأول: الرؤف الرحيم، يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤف أميل إلى جانب إيصال النفع، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر، والمثال الثاني: الفاتح، والفتاح، والنافع والنفاع، والواهب والوهاب، فالفاتح يشعر بأحداث سبب الخير، والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء.
الباب السادس
في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية
واعلم أن القرآن مملوء منه، وطريق الضبط فيه أن يقال: ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات، أو إلى الصفات، أو إلى الأفعال، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا، كقولنا: إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً، واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة، لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية، فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية، ومن جملتها قوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء }
[محمد: 38] وقوله:
{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }
[الأنعام: 133] لأن كونه غنياً أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره، ومنه أيضاً قوله:
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }
[الإخلاص: 3] وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها، فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة، ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء، ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة: ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام، أحدها: نفي النوم، قال تعالى:
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
[البقرة: 255] وثانيها: نفي النسيان، قال تعالى:
{ وما كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }
[مريم: 64] وثالثها: نفي الجهل قال تعالى:
{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ }
[سبأ: 3] ورابعها: أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام: أحدها: أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى:
{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
[قۤ: 38] وثانيها: أنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[النحل: 40] وثالثها: أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل، قال تعالى:
{ وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }
[النحل: 77] ورابعها: نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى:
{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء }
[آل عمران: 181] وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله:
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }
[الأنعام: 24]
{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }
[المؤمنون: 88] وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة ـ وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد ـ فالقرآن مملوء منه، وأما السلوب العائدة إلى الأفعال ـ وهو أنه لا يفعل كذا وكذا ـ فالقرآن مملوء منه، أحدها: أنه لا يخلق الباطل، قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }
[صۤ: 27] وقال تعالى حكاية عن المؤمنين:
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }
[آل عمران: 191] وثانيها: أنه لا يخلق اللعب، قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ، وَمَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ }
[الدخان: 38 ـ 39] وثالثها: لا يخلق العبث؛ قال تعالى:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـٰلَى ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }
[المؤمنون: 115، 116] ورابعها: أنه لا يرضى بالكفر، قال تعالى:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }
[الزمر: 7] وخامسها: أنه لا يريد الظلم، قال تعالى:
{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }
[غافر: 31] وسادسها: أنه لا يحب الفساد، قال تعالى:
{ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ }
[البقرة: 205] وسابعها: أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى:
{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ }
[النساء: 147] وثامنها: أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى:
{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }
[الإسراء: 7] وتاسعها: أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه، قال تعالى:
{ لاَّ يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }
[الأنبياء: 23] وقال تعالى:
{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }
[االبروج: 16] وعاشرها: أنه لا يخلف وعده ووعيده، قال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }
[قۤ: 29].
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية، فيحصل من هذا الجنس أيضاً أقسام غير متناهية من الأسماء، إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب: فمنها القدوس، والسلام، ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها، والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص، فالقدوس سلب عائد إلى الذات، والسلام سلب عائد إلى الصفات، وثانيها: العزيز، وهو الذي لا يوجد له نظير، وثالثها: الغفار، وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين، ورابعها: الحليم، وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة، ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة، وخامسها: الواحد، ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة،، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسم، ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش وسادسها: الغني: ومعناه كونه منزهاً عن الحاجات والضرورات، وسابعها: الصبور، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه، وقس عليه البواقي، والله الهادي.
الباب السابع
في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، وفيه فصول:
الفصل الأول
في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة
الأسماء الدالة على صفة القدرة:
والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة: الأول: القادر، قال تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }
[الأنعام: 65] وقال في أول سورة القيامة:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ }
[القيامة: 3، 4] وقال في آخر السورة:
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }
[القيامة: 40] الثاني: القدير، قال تعالى:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }
[الملك: 1] وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً، الثالث: المقتدر، قال تعالى:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }
[الكهف: 45] وقال:
{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }
[القمر: 55] الرابع: عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى:
{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ }
[المرسلات: 23] واعلم أن لفظ «الملك» يفيد القدرة أيضاً بشرط خاص، ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة: فالأول: المالك، قال الله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } الثاني: الملك، قال تعالى:
{ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }
[طه: 114] وقال:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ }
[الحشر: 23] وقال: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك، والسبب فيه أن الملك أعلى شأناً من المالك، الثالث: مالك الملك، قال تعالى:
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ }
[آل عمران: 26] الرابع: «المليك» قال تعالى:
{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }
[القمر: 55] الخامس: لفظ الملك، قال تعالى:
{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }
[الفرقان: 26] وقال تعالى:
{ لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }
[البقرة: 107] واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة: الأول: القوي، قال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }
[الحج: 40] الثاني: ذو القوة، قال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }
[الذاريات: 58].
الفصل الثاني
الأسماء الحاصلة بسبب العلم:
في الأسماء الحاصلة بسبب العلم، وفيه ألفاظ: الأول: العلم وما يشتق منه، وفيه وجوه: الأول: إثبات العلم لله تعالى، قال تعالى:
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ }
[البقرة: 255] وقال تعالى:
{ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ }
[فصلت: 47] وقال تعالى:
{ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَاً }
[الطلاق: 12] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }
[لقمان: 34] الاسم الثاني: العالم، قال تعالى:
{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }
[الزمر: 46] الثالث: العليم، وهو كثير في القرآن، الرابع: العلام، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
{ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ }
[المائدة: 116] الخامس: الأعلم، قال تعالى:
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
[الأنعام: 124] السادس: صيغة الماضي، قال تعالى:
{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ }
[البقرة: 187] السابع: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }
[البقرة: 197] وقال:
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
[النحل: 19] الثامن: لفظ علم من باب التفعيل، قال تعالى:
{ وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا }
[البقرة: 31] وقال في حق الملائكة
{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا }
[البقرة: 32] وقال:
{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }
[النساء: 113] وقال:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }
[الرحمن: 1، 2].
واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة، التاسع: لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى؛ لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء، وذلك في حق الله تعالى محال.
اللفظ الثاني: من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة، وهو كالمرادف للعلم، حتى قال بعضهم في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى كثيراً في القرآن، وذلك أيضاً يدل، على العلم.
النوع الثالث من الألفاظ: الشهود والمشاهدة، ومنه «الشهيد» في حق الله تعالى، إذا فسرناه بكونه مشاهداً لها عالماً بها، أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام.
النوع الرابع: الحكمة، وهذه اللفظة قد يراد بها العلم، وقد يراد بها أيضاً ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي.
النوع الخامس: اللطيف، وقد يراد به العلم بالدقائق، وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة.
الفصل الثالث
الأَسماء الحاصلة بصفة الكلام:
في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام، وما يجري مجراه: ـ
اللفظ الأول: الكلام، وفيه وجوه: الأول: لفظ الكلام، قال تعالى:
{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }
[التوبة: 6] الثاني: صيغة الماضي من هذا اللفظ، قال تعالى:
{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً }
[النساء: 164] وقال:
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }
[الأعراف: 143] الثالث: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }
[الشورى: 51].
اللفظ الثاني: القول، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي، قال تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ }
[البقرة: 30] ونظائره كثيرة في القرآن، الثاني: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ }
[البقرة: 68] الثالث: القيل والقول، قال تعالى:
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }
[النساء: 122] وقال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ }
[قۤ: 29]
اللفظ الثالث: الأمر، قال تعالى:
{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }
[الروم: 4] وقال:
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ }
[الأعراف: 54] وقال حكاية عن موسى عليه السلام
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }
[البقرة: 67].
اللفظ الرابع: الوعد، قال تعالى:
{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ }
[التوبة: 111] وقال تعالى:
{ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }
[يونس: 4].
اللفظ الخامس: الوحي، قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }
[الشورى: 51] وقال:
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }
[النجم: 10].
اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده، قال تعالى:
{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا }
[لإسرء: 19]
{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً }
[النساء: 147].
الفصل الرابع
الإرادة وما بمعناها:
في الإرادة وما يقرب منها: ـ
فاللفظ الأول: الإرادة، قال تعالى:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }
[البقرة: 185].
اللفظ الثاني: الرضا، قال تعالى:
{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }
[الزمر: 7] وقال:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }
[الزمر: 7] وقال:
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ }
[الفتح: 18] وقال في صفة السابقين الأولين
{ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }
[االمائدة: 119] وقال حكاية عن موسى
{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ }
[طه: 84].
اللفظ االثالث: المحبة، قال:
{ يحبهم ويحبونه }
[المائدة: 54] وقال:
{ ويحب المتطهرين }
[البقرة: 222].
اللفظ الرابع: الكراهة، قال تعالى:
{ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا }
[الإسراء: 38] وقال:
{ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ }
[التوبة: 46] قالت الأشعرية: الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة: بل هي صفة أخرى سوى الإرادة، والله أعلم.
الفصل الخامس
السمع والبصر ومشتقاتها:
في السمع والبصر: قال تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }
[الشورى: 11] وقال تعالى:
{ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }
[الإسراء: 1] وقال تعالى:
{ إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }
[طه: 46] وقال:
{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ }
[مريم: 42] وقال تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأبْصَـٰرَ }
[الأنعام: 103].
فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية.
الفصل السادس
في الصفات الإضافية مع السلبية
اعلم أن «الأول» هو الذي يكون سابقاً على غيره، ولا يسبقه غيره، فكونه سابقاً على غيره إضافة، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب، فلفظ «الأول» يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب، «والآخر» هو الذي يبقى بعد غيره، ولا يبقى بعده غيره، والحال فيه كما قدم، أما لفظ «الظاهر» فهو إضافة محضة، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل، وأما لفظ «الباطن» فهو سلب محض، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.
ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب «القيوم» لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين: أحدهما: أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته، والثاني: أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه، فالأول سلب، والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم.
الفصل السابع
في الأسماء الدالة على الذات والصفات
الحقيقية والإضافية والسلبية
فمنها قولنا: «الإله» وهذا الاسم يفيد الكل؛ لأنه يدل على كونه موجوداً، وعلى كيفيات ذلك الوجود، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام؟ المشهور أنه لا يجوز، وقال بعضهم: إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار: يا إله الآلهة، وهو بعيد، وأما قولنا: «الله» فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات؟ فنقول: لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات؟ فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا: «الله» دليلاً على جملة الصفات، فإن قالوا: الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا: الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب.
الفصل الثامن
في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من
أسماء الذات أو من أسماء الصفات
الأسماء المختلف في مرجعها:
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون: الموجود إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون: أما المتحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو محتاج، فكل متحيز هو محتاج، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان: فمنها «العظيم» وذلك لأن أهل التشبيه قالوا: معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش، ومنها «الكبير» وما يشتق منه، وهو لفظ «الأكبر» ولفظ «الكبرياء» ولفظ «المتكبر».
واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه: الأول: أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني: أن الشريعة فرقت بين الحالين، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة «الله أكبر» ولم يقل أحد «الله أعظم» ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث: أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله.
واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى، فقال:
{ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ }
[البقرة: 255] وقال في آية أخرى:
{ حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ }
[سبأ: 23] إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم: يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله.
ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من «العلو» فمنها قوله تعالى: { ٱلْعَلِىُّ } ومنها قوله:
{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ }
[الأعلى: 1] ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم: «تعالى» لقوله تعالى في أول سورة النحل:
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[االنحل: 1] إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا: معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد متناه، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار: فأحدها: أنه عظيم بحسب مدة الوجود، وذلك لأنه أزلي أبدي، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام، وثانيها: أنه عظيم في العلم والعمل، وثالثها: أنه عظيم في الرحمة والحكمة، ورابعها: أنه عظيم في كمال القدرة، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.
123
في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية
الاسم الدال على الصفات الإضافية:
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة عقلية، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا؟ قالت المعتزلة والأشعرية: التكوين نفس المكون، وقال آخرون إنه غيره، واحتج النفاة بوجوده:
الحجة الأولى: أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالا ختيار.
الحجة الثانية: أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها، إلى تكوين آخر ولزم التسلسل.
الحجة الثالثة: أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية، فإن كان الأول فحينئذٍ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود، وعلى هذا التقدير فلا حجة إلى إثبات صفة أخرى، وإن كان الثاني فحينئذٍ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة، وذلك يوجب التناقض.
واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً، ثم نقول: كونه موجداً إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمراً زائداً، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجداً له، ألا ترى أنه إذا قيل: لم وجد العالم؟ قلنا: لأجل أن الله أوجده، فلو كان كون الموجد موجداً له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه، ولو كان معللاً بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل، فوجب أن يكون كون الموجد موجداً أمراً مغايراً لكون الفاعل قادراً لوجود الأثر، فثبت أن التكوين غير المكون.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا: معنى كونه تعالى خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ضاراً نافعاً عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء.
وأما القائلون بأن التكوين غير المكون، فقالوا معنى كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية.
اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام: أحدها: كونه معلوماً مذكوراً مسبحاً ممجداً، فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، يا أيها الممدوح عند كل إنسان، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناهٍ كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. وثانيها: كونه تعالى فاعلاً للأفعال صفة إضافية محضة بناءً على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجداً، أو المخبر عنه كونه موجداً للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية، أما القسم الأول ـ وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجداً ـ فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل: الموجد، والمحدث، والمكون، والمنشىء، والمبدع، والمخترع، والصانع، والخالق، والفاطر، والبارىء، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة، ومع ذلك فالفرق حاصل: أما الاسم الأول ـ وهو الموجد ـ فمعناه المؤثر في الوجود، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجوداً بعد أن كان معدوماً، وهذا أخص من مطلق الإيجاد، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفاً للموجد، وأما المنشىء فاشتقاقه من النشوء والنماء، وهو الذي يكون قليلاً قليلاً على التدريج، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة، وهما كنوعين تحت جنس الموجد. والمخترع قريب من المبدع، وأما الصانع فيقرب أن يكون اسماً لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق، ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة، وأما البارىء فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة، يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجداً على سبيل العموم، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول: أنه إذا خلق النافع سمي نافعاً، وإذا خلق المؤلم سمي ضاراً، والمثال الثاني: إذا خلق الحياة سمي محيياً، وإذا خلق الموت سمي مميتاً، والمثال الثالث: إذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً، والمثال الرابع: إذا قلل العطاء سمي قابضاً، وإذا أكثره سمي باسطاً، والمثال الخامس: إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقماً وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفواً غفوراً رحيماً رحماناً، المثال السادس: إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضاً باسطاً، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار.
وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا دقائق لا بدّ منها: فالدقيقة الأولى: أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه، فقولنا: «المعز المذل» وقولنا: «المحيـي المميت» يتقابلان تقابل الضدين، وأما قولنا: «القابض الباسط، الخافض الرافع» فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود، لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية: أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف، وله أمثلة: المثال الأول: الرؤف الرحيم، يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤف أميل إلى جانب إيصال النفع، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر، والمثال الثاني: الفاتح، والفتاح، والنافع والنفاع، والواهب والوهاب، فالفاتح يشعر بأحداث سبب الخير، والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء.
الباب السادس
في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية
واعلم أن القرآن مملوء منه، وطريق الضبط فيه أن يقال: ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات، أو إلى الصفات، أو إلى الأفعال، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا، كقولنا: إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً، واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة، لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية، فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية، ومن جملتها قوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء }
[محمد: 38] وقوله:
{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }
[الأنعام: 133] لأن كونه غنياً أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره، ومنه أيضاً قوله:
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }
[الإخلاص: 3] وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها، فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة، ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء، ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة: ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام، أحدها: نفي النوم، قال تعالى:
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
[البقرة: 255] وثانيها: نفي النسيان، قال تعالى:
{ وما كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }
[مريم: 64] وثالثها: نفي الجهل قال تعالى:
{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ }
[سبأ: 3] ورابعها: أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام: أحدها: أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى:
{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
[قۤ: 38] وثانيها: أنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[النحل: 40] وثالثها: أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل، قال تعالى:
{ وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }
[النحل: 77] ورابعها: نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى:
{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء }
[آل عمران: 181] وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله:
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }
[الأنعام: 24]
{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }
[المؤمنون: 88] وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة ـ وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد ـ فالقرآن مملوء منه، وأما السلوب العائدة إلى الأفعال ـ وهو أنه لا يفعل كذا وكذا ـ فالقرآن مملوء منه، أحدها: أنه لا يخلق الباطل، قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }
[صۤ: 27] وقال تعالى حكاية عن المؤمنين:
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }
[آل عمران: 191] وثانيها: أنه لا يخلق اللعب، قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ، وَمَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ }
[الدخان: 38 ـ 39] وثالثها: لا يخلق العبث؛ قال تعالى:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـٰلَى ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }
[المؤمنون: 115، 116] ورابعها: أنه لا يرضى بالكفر، قال تعالى:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }
[الزمر: 7] وخامسها: أنه لا يريد الظلم، قال تعالى:
{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }
[غافر: 31] وسادسها: أنه لا يحب الفساد، قال تعالى:
{ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ }
[البقرة: 205] وسابعها: أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى:
{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ }
[النساء: 147] وثامنها: أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى:
{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }
[الإسراء: 7] وتاسعها: أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه، قال تعالى:
{ لاَّ يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }
[الأنبياء: 23] وقال تعالى:
{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }
[االبروج: 16] وعاشرها: أنه لا يخلف وعده ووعيده، قال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }
[قۤ: 29].
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية، فيحصل من هذا الجنس أيضاً أقسام غير متناهية من الأسماء، إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب: فمنها القدوس، والسلام، ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها، والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص، فالقدوس سلب عائد إلى الذات، والسلام سلب عائد إلى الصفات، وثانيها: العزيز، وهو الذي لا يوجد له نظير، وثالثها: الغفار، وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين، ورابعها: الحليم، وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة، ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة، وخامسها: الواحد، ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة،، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسم، ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش وسادسها: الغني: ومعناه كونه منزهاً عن الحاجات والضرورات، وسابعها: الصبور، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه، وقس عليه البواقي، والله الهادي.
الباب السابع
في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، وفيه فصول:
الفصل الأول
في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة
الأسماء الدالة على صفة القدرة:
والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة: الأول: القادر، قال تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }
[الأنعام: 65] وقال في أول سورة القيامة:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ }
[القيامة: 3، 4] وقال في آخر السورة:
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ }
[القيامة: 40] الثاني: القدير، قال تعالى:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ }
[الملك: 1] وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً، الثالث: المقتدر، قال تعالى:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا }
[الكهف: 45] وقال:
{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }
[القمر: 55] الرابع: عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى:
{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ }
[المرسلات: 23] واعلم أن لفظ «الملك» يفيد القدرة أيضاً بشرط خاص، ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة: فالأول: المالك، قال الله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } الثاني: الملك، قال تعالى:
{ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }
[طه: 114] وقال:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ }
[الحشر: 23] وقال: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك، والسبب فيه أن الملك أعلى شأناً من المالك، الثالث: مالك الملك، قال تعالى:
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ }
[آل عمران: 26] الرابع: «المليك» قال تعالى:
{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }
[القمر: 55] الخامس: لفظ الملك، قال تعالى:
{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }
[الفرقان: 26] وقال تعالى:
{ لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ }
[البقرة: 107] واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة: الأول: القوي، قال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }
[الحج: 40] الثاني: ذو القوة، قال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }
[الذاريات: 58].
الفصل الثاني
الأسماء الحاصلة بسبب العلم:
في الأسماء الحاصلة بسبب العلم، وفيه ألفاظ: الأول: العلم وما يشتق منه، وفيه وجوه: الأول: إثبات العلم لله تعالى، قال تعالى:
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ }
[البقرة: 255] وقال تعالى:
{ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ }
[فصلت: 47] وقال تعالى:
{ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَاً }
[الطلاق: 12] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }
[لقمان: 34] الاسم الثاني: العالم، قال تعالى:
{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }
[الزمر: 46] الثالث: العليم، وهو كثير في القرآن، الرابع: العلام، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
{ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ }
[المائدة: 116] الخامس: الأعلم، قال تعالى:
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
[الأنعام: 124] السادس: صيغة الماضي، قال تعالى:
{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ }
[البقرة: 187] السابع: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }
[البقرة: 197] وقال:
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
[النحل: 19] الثامن: لفظ علم من باب التفعيل، قال تعالى:
{ وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا }
[البقرة: 31] وقال في حق الملائكة
{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا }
[البقرة: 32] وقال:
{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }
[النساء: 113] وقال:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }
[الرحمن: 1، 2].
واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة، التاسع: لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى؛ لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء، وذلك في حق الله تعالى محال.
اللفظ الثاني: من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة، وهو كالمرادف للعلم، حتى قال بعضهم في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى كثيراً في القرآن، وذلك أيضاً يدل، على العلم.
النوع الثالث من الألفاظ: الشهود والمشاهدة، ومنه «الشهيد» في حق الله تعالى، إذا فسرناه بكونه مشاهداً لها عالماً بها، أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام.
النوع الرابع: الحكمة، وهذه اللفظة قد يراد بها العلم، وقد يراد بها أيضاً ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي.
النوع الخامس: اللطيف، وقد يراد به العلم بالدقائق، وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة.
الفصل الثالث
الأَسماء الحاصلة بصفة الكلام:
في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام، وما يجري مجراه: ـ
اللفظ الأول: الكلام، وفيه وجوه: الأول: لفظ الكلام، قال تعالى:
{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }
[التوبة: 6] الثاني: صيغة الماضي من هذا اللفظ، قال تعالى:
{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً }
[النساء: 164] وقال:
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }
[الأعراف: 143] الثالث: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }
[الشورى: 51].
اللفظ الثاني: القول، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي، قال تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ }
[البقرة: 30] ونظائره كثيرة في القرآن، الثاني: صيغة المستقبل، قال تعالى:
{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ }
[البقرة: 68] الثالث: القيل والقول، قال تعالى:
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }
[النساء: 122] وقال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ }
[قۤ: 29]
اللفظ الثالث: الأمر، قال تعالى:
{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }
[الروم: 4] وقال:
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ }
[الأعراف: 54] وقال حكاية عن موسى عليه السلام
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }
[البقرة: 67].
اللفظ الرابع: الوعد، قال تعالى:
{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ }
[التوبة: 111] وقال تعالى:
{ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }
[يونس: 4].
اللفظ الخامس: الوحي، قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً }
[الشورى: 51] وقال:
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }
[النجم: 10].
اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده، قال تعالى:
{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا }
[لإسرء: 19]
{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً }
[النساء: 147].
الفصل الرابع
الإرادة وما بمعناها:
في الإرادة وما يقرب منها: ـ
فاللفظ الأول: الإرادة، قال تعالى:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }
[البقرة: 185].
اللفظ الثاني: الرضا، قال تعالى:
{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }
[الزمر: 7] وقال:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }
[الزمر: 7] وقال:
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ }
[الفتح: 18] وقال في صفة السابقين الأولين
{ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }
[االمائدة: 119] وقال حكاية عن موسى
{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ }
[طه: 84].
اللفظ االثالث: المحبة، قال:
{ يحبهم ويحبونه }
[المائدة: 54] وقال:
{ ويحب المتطهرين }
[البقرة: 222].
اللفظ الرابع: الكراهة، قال تعالى:
{ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا }
[الإسراء: 38] وقال:
{ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ }
[التوبة: 46] قالت الأشعرية: الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة: بل هي صفة أخرى سوى الإرادة، والله أعلم.
الفصل الخامس
السمع والبصر ومشتقاتها:
في السمع والبصر: قال تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }
[الشورى: 11] وقال تعالى:
{ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }
[الإسراء: 1] وقال تعالى:
{ إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }
[طه: 46] وقال:
{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ }
[مريم: 42] وقال تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأبْصَـٰرَ }
[الأنعام: 103].
فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية.
الفصل السادس
في الصفات الإضافية مع السلبية
اعلم أن «الأول» هو الذي يكون سابقاً على غيره، ولا يسبقه غيره، فكونه سابقاً على غيره إضافة، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب، فلفظ «الأول» يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب، «والآخر» هو الذي يبقى بعد غيره، ولا يبقى بعده غيره، والحال فيه كما قدم، أما لفظ «الظاهر» فهو إضافة محضة، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل، وأما لفظ «الباطن» فهو سلب محض، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.
ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب «القيوم» لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين: أحدهما: أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته، والثاني: أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه، فالأول سلب، والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم.
الفصل السابع
في الأسماء الدالة على الذات والصفات
الحقيقية والإضافية والسلبية
فمنها قولنا: «الإله» وهذا الاسم يفيد الكل؛ لأنه يدل على كونه موجوداً، وعلى كيفيات ذلك الوجود، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام؟ المشهور أنه لا يجوز، وقال بعضهم: إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار: يا إله الآلهة، وهو بعيد، وأما قولنا: «الله» فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات؟ فنقول: لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات؟ فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا: «الله» دليلاً على جملة الصفات، فإن قالوا: الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا: الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب.
الفصل الثامن
في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من
أسماء الذات أو من أسماء الصفات
الأسماء المختلف في مرجعها:
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون: الموجود إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون: أما المتحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو محتاج، فكل متحيز هو محتاج، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان: فمنها «العظيم» وذلك لأن أهل التشبيه قالوا: معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش، ومنها «الكبير» وما يشتق منه، وهو لفظ «الأكبر» ولفظ «الكبرياء» ولفظ «المتكبر».
واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه: الأول: أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني: أن الشريعة فرقت بين الحالين، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة «الله أكبر» ولم يقل أحد «الله أعظم» ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث: أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله.
واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى، فقال:
{ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ }
[البقرة: 255] وقال في آية أخرى:
{ حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ }
[سبأ: 23] إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم: يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله.
ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من «العلو» فمنها قوله تعالى: { ٱلْعَلِىُّ } ومنها قوله:
{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ }
[الأعلى: 1] ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم: «تعالى» لقوله تعالى في أول سورة النحل:
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[االنحل: 1] إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا: معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد متناه، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار: فأحدها: أنه عظيم بحسب مدة الوجود، وذلك لأنه أزلي أبدي، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام، وثانيها: أنه عظيم في العلم والعمل، وثالثها: أنه عظيم في الرحمة والحكمة، ورابعها: أنه عظيم في كمال القدرة، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.
123