42 حدثنا
إسحاق بن منصور قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وكل سيئة
يعملها تكتب له بمثلها
42 حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ
لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا
تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا
Terjemahan Hadith
فتح الباري
لابن حجر
[42] قَوْلُهُ عَنْ
هَمَّامٍ هُوَ بن مُنَبِّهٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ نُسْخَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ
بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي إِفْرَادِ حَدِيثٍ مِنْ نُسْخَةٍ هَلْ يُسَاقُ بِإِسْنَادِهَا وَلَوْ
لَمْ يكن مُبْتَدأ بِهِ أَولا فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ وَمِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ
وَقِيلَ يَمْتَنِعُ وَقِيلَ يَبْدَأُ أَبَدًا بِأَوَّلِ حَدِيثٍ وَيَذْكُرُ بَعْدَهُ
مَا أَرَادَ وَتَوَسَّطَ مُسْلِمٌ فَأَتَى بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ مِنْ
جُمْلَةِ النُّسْخَةِ فَيَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا انْتَهَى الْإِسْنَادُ فَذَكَرَ
أَحَادِيثَ مِنْهَا كَذَا ثُمَّ يَذْكُرُ أَيَّ حَدِيثٍ أَرَادَ مِنْهَا قَوْلُهُ إِذَا
أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ كَذَا لَهُ وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا وَلِإِسْحَاقَ
بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ إِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ أَحَدِكُمْ
وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ مِنْ لَازِمِهِ وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ
من طَرِيق بن الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ كَالْأَوَّلِ وَالْخِطَابُ بِأَحَدِكُمْ بِحَسَبِ
اللَّفْظِ لِلْحَاضِرِينَ لَكِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقٍ
وَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّنَاوُلِ أَهِيَ بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ
أَوِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِالْمَجَازِ قَوْلُهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يُنْبِئُ أَنَّ اللَّامَ
فِي قَوْلهفِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ
قَوْلُهُ بِمِثْلِهَا زَادَ مُسْلِمٌ وَإِسْحَاقُ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمْ
حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ بَابُ أَحَبِّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ
أَدْوَمُهُ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُطْلَقُ
عَلَى الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ هُنَا الْعَمَلُ وَالدِّينُ الْحَقِيقِيُّ
هُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ مُرَادِفٌ لِلْإِيمَانِ فَيَصِحُّ
بِهَذَا مَقْصُودُهُ وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ بِمَا
تُطِيقُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَحْسُنُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ جِهَادَ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الْمُغَالَبَةِ
غَيْرُ مَطْلُوبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ الدِّينُ يُسْرٌ
وَفِي هَذَا مَا لَيْسَ فِي ذَاكَ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْلُهُ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ بن سعيد الْقطَّان عَن هِشَام هُوَ بن عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَوْلُهُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ لِلْأَصِيلِيِّ قَالَ مَنْ هَذِهِ بِغَيْرِ
فَاءٍ وَيُوَجَّهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ
مَاذَا قَالَ حِينَ دَخَلَ قَالَتْ قَالَ مَنْ هَذِهِ قَوْلُهُ.
قُلْتُ فُلَانَةُ
هَذِهِ اللَّفْظَةُ كِنَايَةٌ عَنْ كُلِّ عَلَمٍ مُؤَنَّثٍ فَلَا يَنْصَرِفُ زَادَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ
قَوْلُهُ تَذْكُرُ بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَالْفَاعِلُ عَائِشَةُ وَرُوِيَ
بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ
أَيْ يَذْكُرُونَ أَنَّ صَلَاتَهَا كَثِيرَةٌ وَلِأَحْمَدَ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ
لَا تَنَامُ تُصَلِّي وَلِلْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ مُعَلَّقًا عَنِ
الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الْمُوَطَّأِ لِلْقَعْنَبِيِّ
وَحْدَهُ فِي آخِرِهِ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ
مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْحَوْلَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ
وَهُوَ اسْمُهَا بِنْتُ تويت بمثناتين مُصَغرًا بن حبيب بِفَتْح الْمُهْملَة بن أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ رَهْطِ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ وَهَذَا
يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ فِي أَنَّهَا نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهَا فَإِنْ
قِيلَ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ هِشَامٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ عِنْدَهَا
وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْحَوْلَاءَ مَرَّتْ بِهَا فَظَاهِرُهُ التَّغَايُرُ
فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَارَّةُ امْرَأَةً غَيْرَهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَيْضًا
أَوْ أَنَّ قِصَّتَهَا تَعَدَّدَتْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَيُبَيِّنُ
ذَلِكَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ
مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ
تُوَيْتٍ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ لَهُ فَيحمل
على أَنَّهَا كَانَت أَو لَا عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا دَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ قَامَتِ الْمَرْأَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ الْآتِيَةِ فَلَمَّا قَامَتْ لِتَخْرُجَ مَرَّتْ بِهِ فِي خِلَالِ ذَهَابِهَا
فَسَأَلَ عَنْهَا وَبِهَذَا تَجْتَمِع الرِّوَايَات تَنْبِيه قَالَ بن التِّينِ لَعَلَّهَا
أَمِنَتْ عَلَيْهَا الْفِتْنَةَ فَلِذَلِكَ مَدَحَتْهَا فِي وَجْهِهَا.
قُلْتُ لَكِنَّ
رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا مَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ أَخْرَجَهُ
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ كَانَتْ عِنْدِي
امْرَأَةٌ فَلَمَّا قَامَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ هَذِهِ يَا عَائِشَةُ.
قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ فُلَانَةُ وَهِيَ أَعْبَدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِفَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ مَهْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ كَلِمَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ وَهِيَ
اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ وَالْمَعْنَى اكْفُفْ يُقَالُ مَهْمَهْتُهُ إِذَا زَجَرْتُهُ
فَإِنْ وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ مَهٍ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا هَذَا
كَالْإِنْكَارِ فَطَرَحُوا بَعْضَ اللَّفْظَةِ فَقَالُوا مَهْ فَصَيَّرُوا الْكَلِمَتَيْنِ
كَلِمَةً وَهَذَا الزَّجْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعَائِشَةَ وَالْمُرَادُ نَهْيُهَا
عَنْ مَدْحِ الْمَرْأَةِ بِمَا ذَكَرَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ
عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَقَالُوا
يُكْرَهُ صَلَاةُ جَمِيعِ اللَّيْلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ
بِمَا تُطِيقُونَ أَيِ اشْتَغِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تَسْتَطِيعُونَ الْمُدَاوَمَةَ
عَلَيْهِ فَمَنْطُوقُهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يُطَاقُ مِنَ
الْعِبَادَةِ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يُطَاقُ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا
خَاصًّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ.
قُلْتُ سَبَبُ
وُرُودِهِ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ
عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْكُمْ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ النِّسَاءُ طَلَبًا لِتَعْمِيمِ
الْحُكْمِ فَغُلِّبَتِ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ قَوْلُهُ فَوَاللَّهِ فِيهِ جَوَازُ
الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَقَدْ يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ فِي تَفْخِيمِ
أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ حَثٍّ عَلَيْهِ أَوْ تَنْفِيرٍ مِنْ مَحْذُورٍ قَوْلُهُ
لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَالْمَلَالُ اسْتِثْقَالُ الشَّيْءِ وَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ
وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقٍ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّمَا أُطْلِقَ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ
مَجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا وَأَنْظَارُهُ قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ وَجْهُ مَجَازِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ
عَمَّنْ يَقْطَعُ الْعَمَلَ مَلَالًا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَلَالِ مِنْ بَابِ
تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ.
وَقَالَ الْهَرَوِيُّ مَعْنَاهُ لَا يَقْطَعُ عَنْكُمْ فَضْلَهُ
حَتَّى تَمَلُّوا سُؤَالَهُ فَتَزْهَدُوا فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ لَا يَتَنَاهَى حَقُّهُ عَلَيْكُمْ
فِي الطَّاعَةِ حَتَّى يَتَنَاهَى جُهْدُكُمْ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
حَتَّى عَلَى بَابِهَا فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ
الْمَفْهُومِ وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَأْوِيلِهَا فَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ
اللَّهُ إِذَا مَلَلْتُمْ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ لَا
أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ أَوْ حَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيغِ لاينقطع حَتَّى يَنْقَطِعَ خُصُومُهُ لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ
حِينَ يَنْقَطِعُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ وَهَذَا الْمِثَالُ أَشْبَهُ
مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ شَيْبَ الْغُرَابِ لَيْسَ مُمْكِنًا عَادَةً بِخِلَافِ
الْمَلَلِ مِنَ الْعَابِدِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ قِيلَ إِنَّ حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى
الْوَاوِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا يَمَلُّ وَتَمَلُّونَ فَنَفَى عَنْهُ الْمَلَلَ
وَأَثْبَتَهُ لَهُمْ قَالَ وَقِيلَ حَتَّى بِمَعْنَى حِينَ وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ وَأَجْرَى
عَلَى الْقَوَاعِدِ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ
مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ
مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ
الْعَمَلِ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَة وَهُوَ ضَعِيف.
وَقَالَ بن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ هَذَا مِنَ أَلْفَاظِ
التَّعَارُفِ الَّتِي لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمُخَاطَبِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَصْدَ مِمَّا
يُخَاطَبُ بِهِ إِلَّا بِهَا وَهَذَا رَأْيُهُ فِي جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ قَوْلُهُ
أَحَبُّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مَعْنَى الْمَحَبَّةِ مِنَ
الله تعلق الْإِرَادَة بالثواب أَيْ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ ثَوَابًا أَدْوَمُهَا قَوْلُهُ
إِلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ إِلَى اللَّهِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ
عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ
وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ وَلِمُسْلِمٍ عَنِ الْقَاسِمِ كِلَاهُمَا عَنْ
عَائِشَةَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبَابِ.
وَقَالَ بَاقِي الرُّوَاةُ عَنْ هِشَامٍ وَكَانَ أَحَبُّ
الدِّينِ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَرَّحَ
بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الرقَاق فِيرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ وَلَيْسَ بَيْنَ
الرِّوَايَتَيْنِ تَخَالُفٌ لِأَنَّ مَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ كَانَ أَحَبَّ
إِلَى رَسُولِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَسْتَمِرُّ الطَّاعَةُ بِالذِّكْرِ
وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ
الشَّاقِّ حَتَّى يَنْمُوَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ
الْمُنْقَطِعِ اضعافا كَثِيرَة.
وَقَالَ بن الْجَوْزِيِّ إِنَّمَا أَحَبَّ الدَّائِمَ لِمَعْنَيَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّارِكَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ
الْوَصْلِ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلذَّمِّ وَلِهَذَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ
حَفِظَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا وَأَن كَانَ قبل حفظهَا لايتعين عَلَيْهِ ثَانِيهُمَا
أَنَّ مُدَاوِمَ الْخَيْرِ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا مَا كَمَنْ لَازَمَ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ انْقَطَعَ وَزَادَ
الْمُصَنِّفُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَإِنَّ أَحَبَّ
الْأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دووم عَلَيْهِ وَإِن قل ( قَوْلُهُ بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
وَنُقْصَانِهِ) تَقَدَّمَ لَهُ قَبْلُ بِسِتَّةَ عَشَرَ بَابًا بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ
الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
بِمَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُنَا فَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ
تَكْرَارٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمَّا كَانَتِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ
فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ أَوْ بِاعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ تَرْجَمَ لِكُلٍّ
مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ وَخَصَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِالْأَعْمَالِ لِأَنَّ سِيَاقَهُ
لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَ الْمَوْزُونَاتِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَنَسٍ فَفِيهِ التَّفَاوُتُ
فِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ مِنْ وَزْنِ الشَّعِيرَةِ وَالْبُرَّةِ وَالذَّرَّةِ
قَالَ بن بَطَّالٍ التَّفَاوُتُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ
فَمَنْ قَلَّ عِلْمُهُ كَانَ تَصْدِيقُهُ مَثَلًا بِمِقْدَارِ ذَرَّةٍ وَالَّذِي فَوْقَهُ
فِي الْعِلْمِ تَصْدِيقُهُ بِمِقْدَارِ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ أَصْلَ
التَّصْدِيقِ الْحَاصِلِ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النُّقْصَانُ
وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمُعَايَنَةِ انْتَهَى
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِمَا يُشِيرُ إِلَى
هَذَا الْمَعْنَى وَوَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَظِيرِ مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي
تَرْجَمَتِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الرَّقِّيِّ قَالَ
قِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْإِيمَانُ كَلَامٌ فَقَالَ كَانَ
هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الْأَحْكَامُ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَلَمَّا عَلِمَ
اللَّهُ صِدْقَهُمْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ فَفَعَلُوا وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا
نَفَعَهُمُ الْإِقْرَارُ فَذَكَرَ الْأَرْكَانَ إِلَى أَنْ قَالَ فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ
مَا تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَبُولَهُمْ قَالَ الْيَوْم أكملت لكم
دينكُمْ الْآيَةَ فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَسَلًا أَوْ مُجُونًا أَدَّبْنَاهُ
عَلَيْهِ وَكَانَ نَاقِصَ الْإِيمَانِ وَمَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا كَانَ كَافِرًا انْتَهَى
مُلَخَّصًا وَتَبِعَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ
وَزَادَ إِنَّ بَعْضَ الْمُخَالِفِينَ لَمَّا أُلْزِمَ بِذَلِكَ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ
لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الدِّينِ إِنَّمَا الدِّينُ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ الْإِيمَانُ
جُزْء والأعمال جزآن لِأَنَّهَا فَرَائِضُ وَنَوَافِلُ.
وَتَعَقَّبَهُ
أَبُو عُبَيْدٍبِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام وَالْإِسْلَامُ حَيْثُ أُطْلِقَ مُفْرَدًا
دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَعَادَ
فِي هَذَا الْبَابِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا فِي
أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَعَادَهُمَا لِيُوَطِّئَ بِهِمَا
مَعْنَى الْكَمَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ
بِهِمَا نَصٌّ فِي الزِّيَادَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ.
وَأَمَّا الْكَمَالُ
فَلَيْسَ نَصًّا فِي الزِّيَادَةِ بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ فَقَطْ وَاسْتِلْزَامُهُ
لِلنَّقْصِ يَسْتَدْعِي قَبُولَهُ الزِّيَادَةَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فَإِذَا
تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ فِي
التَّعْبِيرِ لِلْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا
وَقَوْلُ اللَّهِ.
وَقَالَ ثَانِيًا.
وَقَالَ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنِ
اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ آيَةَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى مُرَادِهِ
لِأَنَّ الْإِكْمَالَ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ
أَوْ بِمَعْنَى إِظْهَارِ أَهْلِ الدِّينِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَا حُجَّةَ لِلْمُصَنِّفِ
فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِكْمَالِ الْفَرَائِضِ لَزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ
كَانَ إِيمَانُهُ نَاقِصًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَزَلْ
تَامًّا وَيُوَضِّحُ دَفْعَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ النَّقْصَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَكِنَّ مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الذَّمُّ وَمِنْهُ مَا لَا يَتَرَتَّبُ فَالْأول مانقصه بِالِاخْتِيَارِ كَمَنْ عَلِمَ
وَظَائِفَ الدِّينِ ثُمَّ تَرَكَهَا عمدا وَالثَّانِي مانقصه بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ كَمَنْ
لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُكَلَّفْ فَهَذَا لَا يُذَمُّ بَلْ يُحْمَدُ مِنْ جِهَةِ
أَنَّهُ كَانَ قَلْبُهُ مُطَمْئِنًا بِأَنَّهُ لَوْ زِيدَ لَقَبِلَ وَلَوْ كُلِّفَ
لَعَمِلَ وَهَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ
وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ النَّقْصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ صُورِيٌّ نِسْبِيٌّ وَلَهُمْ
فِيهِ رُتْبَةُ الْكَمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ
إِنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ أَكْمَلُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى لِاشْتِمَالِهِ مِنَ
الْأَحْكَامِ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ وَمَعَ هَذَا فَشَرْعُ
مُوسَى فِي زَمَانِهِ كَانَ كَامِلًا وَتَجَدَّدَ فِي شَرْعِ عِيسَى بَعْدَهُ مَا تَجَدَّدَ
فَالْأَكْمَلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ كَمَا تقرر وَالله أعلم
إرشاد الساري
لشرح صحيح البخاري
[42] حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ
يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ
سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا».
وبالسند إلى
المؤلف قال ( حدّثنا) بالجمع وفي رواية ابن عساكر حدّثني ( إسحاق بن منصور) أي ابن
أبي بهرام بكسر الموحدة فيما قاله النووي، والمشهور فتحها أبو يعقوب الكوسج من أهل
مرو، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومائتين ( قال: حدّثنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن
عساكر أخبرنا ( عبد الرزاق) بن همام بن نافع اليماني الصنعاني المتوفى سنة إحدى عشرة
ومائتين ( قال أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين ابن راشد أبو عروة البصري وسبق ( عن همام)
بتشديد الميم وفي رواية عن همّام بن منبّه بن كامل أبيعقبة اليماني الذماري الأنباري
التابعي، المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة بصنعاء ( عن أبي هريرة) رضي الله عنه ( قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أحسن أحدكم إسلامه) باعتقاده
وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر: والخطاب للحاضرين والحكم عامّ لهم ولغيرهم باتفاق
لأن حكمه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكم على الجماعة ويدخل فيه النساء والعبيد،
لكن النزاع في كيفية التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز ( فكل حسنة يعملها)
مبتدأ خبره ( تكتب له بعشر أمثالها) حال كونها منتهية ( إلى سبعمائة ضعف) بكسر الضاد
أي مثل وأتى بكل وهي أصرح في الاستغراق من أل في الحديث السابق ( وكل سيئة يعملها تكتب
له بمثلها) زاد مسلم حتى يلقى الله تعالى، وقيد الحسنة والسيئة هنا بالعمل وأطلق في
السابق فيحمل المطلق على المقيد والباء في بمثلها للمقابلة.
وفي الحديث
التحديث والإخبار والعنعنة، وهو إسناد حديث من نسخة همام المشهورة المروية بإسناد واحد
عن عبد الرزاق عن معمر عنه، والجمهور على جواز سياق حديث منها بإسنادها ولو لم يكن
مبتدأ به فافهم.
32 - باب أَحَبُّ
الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُه هذا ( باب) بالتنوين ( أحب الدين ألى الله) زاد في
رواية الأصيلي عز وجل ( أدومه) أفعل تفصيل من الدوام، والمراد به هنا الدوام العرفي
وهو قابل للكثرة والقلة.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
[42] حدّثنا إسْحَاقُ
بنُ مَنْصُورٍ قَالَ حّدثنا عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ همامٍ
عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أحْسَنَ
أحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا
إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا.
مُطَابقَة الحَدِيث
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله:
وهم خَمْسَة: الأول: اسحق بن مَنْصُور بن بهْرَام،.
وَقَالَ النَّوَوِيّ، بِكَسْر الْبَاء، وَالْمَشْهُور فتحهَا،
أَبُو يَعْقُوب الكوسج من أهل مرو سكن بنيسابور ورحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام والحجاز،
روى عَنهُ الْجَمَاعَة إلاَّ أَبَا دَاوُد، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة من أَصْحَاب الحَدِيث،
وَهُوَ الَّذِي دوَّن عَن أَحْمد الْمسَائِل.
قَالَ النَّسَائِيّ:
ثِقَة ثَبت، مَاتَ بنيسابور سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي:
عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع الْيَمَانِيّ الصَّنْعَانِيّ، سمع عبد الله المعمرى
ومعمراً وَالثَّوْري ومالكاً وَغَيرهم، قَالَ معمر: عبد الرَّزَّاق خليق أَن يضْرب
إِلَيْهِ أكباد الْإِبِل.
وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَا رَأَيْت أحسن من عبد الرَّزَّاق.
.
وَقَالَ إضافي، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:
( تكْتب لَهُ) ، وَقَوله: ( يعملها) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي
مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لحسنة.
قَوْله: ( إِلَى
سَبْعمِائة) فِي مَحل النصب على الْحَال، اى: منتهية إِلَى سَبْعمِائة.
قَوْله: ( بِمِثْلِهَا)
الْبَاء فِيهِ للمقابلة، وَالله اعْلَم.
32 - ( بَاب أحَبُّ
الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ) الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول: قَوْله:
بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف غير منون إِن اعْتبرت إِضَافَته إِلَى الْجُمْلَة.
وَقَوله: (
أحب الدّين) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: ( أَدْوَمه) .
الثَّانِي:
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول حسن إِسْلَام
الْمَرْء، وَهُوَ: الِامْتِثَال بالأوامر والانتهاء عَن النواهي، والشفقة على خلق الله
تَعَالَى، وَالْمَطْلُوب فِي هَذَا: المداومة والمواظبة، وَكلما واظب العَبْد عَلَيْهِ
وداوم زَاد من الله محبَّة، لِأَن الله تَعَالَى يحب مداومة العَبْد على الْعَمَل الصَّالح،.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: أحب الدّين، أَي: أحب الْعلم، إِذْ
الدّين هُوَ الطَّاعَة، ومناسبته لكتاب الْإِيمَان من جِهَة أَن الدّين وَالْإِيمَان
وَالْإِسْلَام وَاحِد.
قلت: الْعجب
مِنْهُ كَيفَ رَضِي بِهَذَا الْكَلَام، فالمناسبة لَا تطلب إلاَّ بَين الْبَابَيْنِ
المتواليين، وَلَا تطلب بَين بَابَيْنِ أَو بَين كتاب وَبَاب بَينهمَا أَبْوَاب عديدة،
وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ باتحاد الدّين وَالْإِيمَان والاسلام، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر،
وَقد حققناه فِيمَا مضى،.
وَقَالَ بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن
الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، لِأَن المُرَاد بِالدّينِ هُنَا: الْعَمَل، وَالدّين
الْحَقِيقِيّ هُوَ الْإِسْلَام، وَالْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، فَيصح
بِهَذَا مَقْصُوده.
.
ومناسبته لما
قبله من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، لِأَنَّهُ لما قدم: إِن الْإِسْلَام يحسن
بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، أَرَادَ أَن يُنَبه على أَن جِهَاد النَّفس فِي ذَلِك
إِلَى حد المغالبة غير الْمَطْلُوب.
قلت: فِيهِ
نظر من وُجُوه.
الأول: إِن
قَوْله: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال
غير صَحِيح، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على هَذَا، وَالِاسْتِدْلَال بالترجمة
لَيْسَ باستدلال يقوم بِهِ الْمُدَّعِي.
فَإِن قلت:
فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله: أحب الدّين إِلَيْهِ، فَإِن المُرَاد
هَهُنَا من الدّين الْعَمَل، وَقد أطلق عَلَيْهِ الدّين.
قلت: هَذَا
إِنَّمَا يمشي إِذا أطلق الدّين الْمَعْهُود المصطلح على الْعَمَل وَلَيْسَ كَذَلِك
فَإِن المُرَاد بِالدّينِ هَهُنَا الطَّاعَة بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيّ فَإِن لفظ الدّين
مُشْتَرك بَين مَعَاني كَثِيرَة مُخْتَلفَة.
الدّين: بِمَعْنى
الْعِبَادَة، وَبِمَعْنى الْجَزَاء، وَبِمَعْنى الطَّاعَة، وَبِمَعْنى الْحساب، وَبِمَعْنى
السُّلْطَان، وَبِمَعْنى الْملَّة، وَبِمَعْنى الْوَرع، وَبِمَعْنى الْقَهْر، وَبِمَعْنى
الْحَال، وَبِمَعْنى مَا يتدين بِهِ الرجل، وَبِمَعْنى الْعُبُودِيَّة، وَبِمَعْنى
الْإِسْلَام.
وَفِي ( الْمُحكم)
: الدّين: الْإِسْلَام.
الثَّانِي:
أَنه قَالَ: الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، يَعْنِي كِلَاهُمَا وَاحِد،.
وَقَالَ : إِن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال،
يُشِير بِهِ إِلَى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ: إِن الْإِسْلَام يحسن
بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، فَكَلَامه يُشِير إِلَى أَن الْأَعْمَال لَيست من الْإِيمَان،
لِأَن الْحسن من الْأَوْصَاف الزَّائِدَة على الذَّات، وَهِي غير الذَّات.
فينتج من كَلَامه
أَن الْإِسْلَام يحسن بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فَاسد.
الثَّالِث:
قَوْله: فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده، ومناسبته لما قبله غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ لَا
يظْهر وَجه الْمُنَاسبَة لما قلبه مِمَّا قَالَه أصلا، وَكَيف يُوجد وَجه الْمُنَاسبَة
من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، والترجمة لَيست عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجه الْمُنَاسبَة
لما قبله مَا ذكرت لَك آنِفا.
فَافْهَم.
الْوَجْه الثَّالِث:
قَوْله: ( أحب الدّين) ، أحب هَهُنَا أفعل لتفضيل الْمَفْعُول، ومحبة الله تَعَالَى
للدّين إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب عَلَيْهِ.
قَوْله: ( أَدْوَمه)
هُوَ أفعل من الدَّوَام، وَهُوَ شُمُول جَمِيع الْأَزْمِنَة أَي: التَّأْبِيد.
فَإِن قيل:
شُمُول الْأَزْمِنَة لَا يقبل التَّفْضِيل، فَمَا معنى الأدوم؟ أُجِيب: بِأَن المُرَاد
بالدوام هُوَ الدَّوَام الْعرفِيّ، وَذَلِكَ قَابل للكثرة والقلة.
فَافْهَم.
فتح البارى
لابن رجب
[42] همام بن منبه،
عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " إذا أحسن أحدكم
إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب
له بمثلها ".
إحسان الإسلام
تفسر بمعنيين: أحدهما: بإكمال واجتناب محرماته.
ومنه الحديث
المشهور المروي في " السنن": " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
فكمال حسن إسلامه – حينئذ – بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه.
ومنه حديث ابن
مسعود الذي خرجاه في" الصحيحين " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سئل: أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل
في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" .
فإن المراد
بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب
بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية.
وفي حديث ابن
مسعود هذا حديث أبي سعيد – الذي علقه البخاري هنا في أول الباب – دليل على أن الإسلام
إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب
التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصر عليها
في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها.
وقد ذكر ذلك
طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر بن عبد العزيز ابن جعفر وغيره، وهو قول طوائف
من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وهو اختيار الحليمي.
ثم وجدته منصوصا
عن الإمام أحمد؛ فنقل الميموني في " مسائله " عن أحمد قال: بلغني عن أبي
حنيفة أنه كان يقول: لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، والنبي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول في غير حديث: " إنه يؤاخذ "، يعني: حديث شقيق، عن ابن مسعود:
أزاد " إذا أحسنت في الإسلام
".
انتهى وكذلك
حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن من أسلم وهو مصر على الكبائر، كفر (
201 – ب / ف) الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة.
وخالف في ذلك
آخرون، وقالوا: بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنب وإن أصر
عليها في الإسلام.
وهذا قول كثير
من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما واستدلوا بقول
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الإسلام يهدم ما كان قبله ".
خرجه مسلم من
حديث عمرو بن العاص .
وأجاب الأولون
عنه: بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما
يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه جميعا بينه وبين الحديثين المتقدمين.
واستدلوا بقوله
تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}
[الأنفال: 38] .
وأجاب الأولون
بأن المراد: يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه.
وتأول بعض أهل
القول الثاني حديث ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ
بكفره الأول والثاني.
ومنهم من حمله
على إسلام المنافق.
وهذا بعيد جدا.
ومتى ارتد عن
الإسلام أو كان منافقا فلم يبق معه الإسلام حتى يسيء فيه.
والاختلاف في
هذه المسألة مبني على أصول: أحدها: قول جمهور أهل السنة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام
احمد لا يثبت.
وقد تأول ما
روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد
" وابن عقيل في " فصوله
".
وأما المعتزلة:
فخالفوا في ذلك، وقال من قال منهم كالجبائي بناء على هذا: إن الكافر لا يصح إسلامه
مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره.
وهذا قول باطل
لم يوافقهم عليه أحد من العلماء.
الأصل الثاني:
أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وقد
ذكره ابن حامد من أصحابنا وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك، والصحيح عنده
وعند كثير من العلماء: أن ذلك ليس بشرط.
والأصل الثالث:
أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به.
وهذا مأخذ أبي
بكر عبد العزيز من أصحابنا، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر،
فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر.
وهذا فيه خلاف
يذكر في موضع آخر إن شاء الله.
وجعل منه أن
النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية.
والأصل الرابع:
أن التوبة من الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه، فالكافر
إذا أسلم وهو مصر على ذنب آخر صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب
منه؛ بل هو مصر عليه.
وخرج النسائي
حديث مالك الذي علقه البخاري هنا، وزاد في أوله: " كتب الله كل حسنة كان أزلفها " .
وهذا يشبه قول
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحكيم بن حزام لما قال له: أرأيت أمورا كنت
أتحنث بها في الجاهلية، هل لي منها من شيء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" أسلمت على ما أسلفت من خير " خرجه مسلم .
وكلاهما يدل
على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها ويكون إسلامه المتأخر
كافيا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه ( 202 - أ / ف) .
ورجح هذا القول
ابن بطال والقرظي وغيرهما.
وهو مقتضى قول
من قال: إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم – كما سبق وحكى مثله عن إبراهيم
الحربي.
ويدل عليه
- أيضا -: أن عائشة لما سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابن جدعان وما
كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك؟ فقال: " إنه لم يقل يوما قط: رب اغفر لي خطيئتي
يوم الدين " .
وهذا يدل على
أنه لو قال ذلك يوما من الدهر – ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.
ومما يستدل
به – أيضا -: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم:
" إنه يؤتى أجره مرتين ؛ مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطا، وهذا
هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله.
وخالف في ذلك
طوائف من المتكلمين وغيرهم وقالوا: الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال،
وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة، ولذلك من كان له عمل صالح فعمل
سيئة أحبطته ثم تاب؛ فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات.
وقد ورد في
هذا آثار عن السلف، قال ابن مسعود: عبد الله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله
عمله، ثم أصابته زمانه وأقعد فرأى رجلا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا
فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة.
خرجه ابن المبارك
في كتاب: البر والصلة " بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان
مقبولا، وإنما طرأ عليه ما يحبطه بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه.
ومن كان مسلما
وعمل صالحا في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف
مشهور، ولا يبعد أن يقال: إنه إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه، والله أعلم.
وقد وردت نصوص
أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات، وهذا
أبلغ مما قبله، ويدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات كما
دلت عليه الآية في سورة الفرقان، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا.
ولا يستبعد
إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات؛ فإنه لابد أن يثاب عليها في
الدنيا.
وفي إثابته
عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نزاع مشهور.
فإذا لم يكن
بد من إثابته فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة؛ لأن المانع من إثابته
عليها في الآخرة هو الكفر، وقد زال.
وقد يستدل لهذا
– أيضا – بقول الله عز وجل في قصة أسارى بدر { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن
فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ
خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] وقد كان العباس بن
عبد المطلب – وهو من جملة هؤلاء الأسارى – يقول: أما أنا فقد آتاني الله خيرا مما أخذ
مني ووعدني المغفرة .
فهذه الآية
تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته، فلأن
يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى؛ فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضى
بها، وأما نفس المصيبة ( 202 – ب / ف) فقد قيل: إنه يثاب عليها، وقيل: إنه لا يثاب
عليها؛ وإنما يكفر عنه ذنوبه.
وهذا هو المنقول
عن كثير من الصحابة.
والمعنى الثاني
– مما يفسر به إحسان الإسلام -: أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر
العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه
بقلبه.
وهذا هو الذي
فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام.
وقد دل حديث
أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه.
وخرج ابن أبي
حاتم من رواية عطية العوفي، عن ابن عمر قال: نزلت { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] في الأعراب فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن! فما
للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر ثم تلا قوله { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ
مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] .
ويشهد لهذا
المعنى: ما ذكره الله عز وجل في حق أزواج نبيه فقال { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ
مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة} إلى قوله { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا
كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}
[الأحزاب: 30 – 32] فدل على أن من عظمت منزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره.
وقد تأول بعض
السلف من بني هاشم دخول آل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المعنى لدخول
أزواجه؛ فلذلك من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب
حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه والله أعلم.
ويشهد لذلك:
أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أخرجت للناس أجرها مرتين، قال الله تعالى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] .
وفي الحديث
الصحيح: " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط، وعمل أهل الإنجيل
إلى العصر على قيراط قيراط، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فغضبت
اليهود والنصارى وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا؟ ! فقال الله: هل ظلمتكم من أجوركم
شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء .
وأما من أحسن
عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا
العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة.
ولهذا روي في
حديث عمار المرفوع: " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها،
إلا ربعها، حتى بلغ العشر ؛ فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا
ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله، والله أعلم 32 - فصل خرج البخاري
ومسلم من حديث: