*
تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } * {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }
*{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا
طَآئِعِينَ } * { فَقَضَٰهُنَّ
سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ
ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم
في الآية الأولى أن يقول
{ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }
[الكهف: 110]
{ فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ }
[فصلت: 6] أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية، وذلك بأن بيّن كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة، فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية؟ فهذا تقرير النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد، وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة، إلا أنهما يمدان، والباقون همزتين بلا مد.
المسألة الثانية: قوله تعالى: { أَئِنَّكُمْ } استفهام بمعنى الإنكار، وقد ذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما: الكفر بالله. وهو قوله { لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } وثانيهما: إثبات الشركاء والأنداد له، ويجب أن يكون الكفر المذكور أولاً مغايراً لإثبات الأنداد له، ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير، والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول: قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى، فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني: أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف، وفي بعثة الأنبياء، وكل ذلك قدح في الصفات المعتبرة في الإلهية، وهو كفر بالله الثالث: أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد، وذلك أيضاً قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله، فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء، وأثبتوا الأنداد أيضاً لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام، واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين؟ فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة، كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر، وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء، وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً له في المعبودية والإلهية، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض، وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء، والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم، قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم، وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر، فنقول هذا أيضاً له أثر في هذا الباب، وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية؟ فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.
{ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }
[الكهف: 110]
{ فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ }
[فصلت: 6] أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية، وذلك بأن بيّن كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة، فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية؟ فهذا تقرير النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد، وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة، إلا أنهما يمدان، والباقون همزتين بلا مد.
المسألة الثانية: قوله تعالى: { أَئِنَّكُمْ } استفهام بمعنى الإنكار، وقد ذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما: الكفر بالله. وهو قوله { لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } وثانيهما: إثبات الشركاء والأنداد له، ويجب أن يكون الكفر المذكور أولاً مغايراً لإثبات الأنداد له، ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير، والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول: قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى، فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني: أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف، وفي بعثة الأنبياء، وكل ذلك قدح في الصفات المعتبرة في الإلهية، وهو كفر بالله الثالث: أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد، وذلك أيضاً قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله، فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء، وأثبتوا الأنداد أيضاً لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام، واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين؟ فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة، كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر، وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء، وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً له في المعبودية والإلهية، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض، وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء، والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم، قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم، وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر، فنقول هذا أيضاً له أثر في هذا الباب، وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية؟ فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.
وأما قوله تعالى: { ذَلِكَ رَبُّ
ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين
هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم، فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر؟ ثم إنه
تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع
العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول: قوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا } والمراد منها الجبال، وقد تقدم تفسير كونها { رَوَاسِيَ } في سورة
النحل (15)، فإن قيل: ما الفائدة في قوله { مّن فَوْقِهَا } ولم لم يقتصر على قوله
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } كقوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسيَ شَـٰمِخَـٰتٍ }
[المرسلات: 27]
{ وَجَعَلْنَا فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ }
[الرعد: 3] قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني: مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث: قوله تعالى: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وفيه أقوال الأول: أن المعنى وقدر فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، قال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني: قال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث: أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض، وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، فقوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة، لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده: { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ } وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر، وذكر أنه خلق السموات في يومين، فيكون المجموع ثمانية أيام، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض، واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } مع اليومين الأولين، وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين.
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسيَ شَـٰمِخَـٰتٍ }
[المرسلات: 27]
{ وَجَعَلْنَا فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ }
[الرعد: 3] قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني: مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث: قوله تعالى: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وفيه أقوال الأول: أن المعنى وقدر فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، قال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني: قال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث: أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض، وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، فقوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة، لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده: { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ } وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر، وذكر أنه خلق السموات في يومين، فيكون المجموع ثمانية أيام، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض، واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } مع اليومين الأولين، وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين.
السؤال الثاني: أنه لما ذكر أنه
خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين
كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط، فلم ترك هذا التصريح، وذكر ذلك الكلام المجمل؟
والجواب: أن قوله { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ } فيه فائدة
على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين، وذلك لأنه لو قال خلقت هذه الأشياء في
يومين لم يفد هذا الكلام كون هذين اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال
عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، أما لما ذكر
خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال بعده: { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لّلسَّائِلِينَ } دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال
من غير زيادة ولا نقصان.
السؤال الثالث: كيف القراءات في قوله { سَوَآء }؟ والجواب: قال صاحب «الكشاف» قرىء { سَوَآء } بالحركات الثلاثة الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء أي استواء والرفع على هي سواء.
السؤال الثالث: كيف القراءات في قوله { سَوَآء }؟ والجواب: قال صاحب «الكشاف» قرىء { سَوَآء } بالحركات الثلاثة الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء أي استواء والرفع على هي سواء.
السؤال الرابع: ما المراد من كون
تلك الأيام الأربعة سواء؟ فنقول إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام
الموجودة في أماكن خط الاستواء وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن،
فبيّن تعالى أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة.
السؤال الخامس: بم يتعلق قوله { لّلسَّائِلِينَ }؟ الجواب فيه وجهان: الأول: أن الزجاج قال قوله { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي في تتمة أربعة أيام، إذا عرفت هذا فالتقدير { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني: أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها، ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى:
{ فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ }
[فصلت: 6] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صرف يصرفه ذلك.
البحث الثاني: ذكر صاحب «الأثر» أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات.
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلماً، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالساً في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئاً، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة، فصح تسميتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان، والله أعلم بحقيقة الحال.
السؤال الخامس: بم يتعلق قوله { لّلسَّائِلِينَ }؟ الجواب فيه وجهان: الأول: أن الزجاج قال قوله { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي في تتمة أربعة أيام، إذا عرفت هذا فالتقدير { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني: أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها، ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى:
{ فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ }
[فصلت: 6] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صرف يصرفه ذلك.
البحث الثاني: ذكر صاحب «الأثر» أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات.
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلماً، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالساً في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئاً، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة، فصح تسميتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان، والله أعلم بحقيقة الحال.
البحث الثالث: قوله { ثُمَّ
ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق
الأرض، وقوله تعالى:
{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا }
[النازعات: 30] مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة، والجواب المشهور: أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض، وبهذا الطريق يزول التناقض، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول: أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث { جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَـٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة، وقوله تعالى: { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني: أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة، وذلك باطل الثالث: أن الأرض جسم في غاية العظم، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة، ثم صارت مدحوة قول باطل، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال، وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً، فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع: أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة، فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس: أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا }
[النازعات: 30] مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة، والجواب المشهور: أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض، وبهذا الطريق يزول التناقض، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول: أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث { جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَـٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة، وقوله تعالى: { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني: أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة، وذلك باطل الثالث: أن الأرض جسم في غاية العظم، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة، ثم صارت مدحوة قول باطل، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال، وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً، فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع: أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة، فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس: أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب
المشهور، ونقل الواحدي في «البسيط» عن مقاتل أنه قال: خلق الله السموات قبل الأرض
وتأويل قوله { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ } ثم كان قد استوى إلى السماء وهي
دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما قال تعالى:
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ }
[يوسف: 77] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى:
{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا }
[الأعراف: 4] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة { ثُمَّ } تقتضي التأخير، وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض، وذلك دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ائتيا } على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرناه، بقي على لفظ الآية سؤالات.
السؤال الأول: ما الفائدة في قوله تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }؟ الجواب: المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين { قَالَتَا أَتَيْنَا } على الطوع لا على الكره، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها: أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف، تشبه حيواناً مطيعاً لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها: أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة، قال تعالى:
{ يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
[النحل: 50] وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها: السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبداً بما ويوجب الكره والكرب والقهر والقسر.
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ }
[يوسف: 77] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى:
{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا }
[الأعراف: 4] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة { ثُمَّ } تقتضي التأخير، وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض، وذلك دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ائتيا } على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرناه، بقي على لفظ الآية سؤالات.
السؤال الأول: ما الفائدة في قوله تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }؟ الجواب: المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين { قَالَتَا أَتَيْنَا } على الطوع لا على الكره، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها: أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف، تشبه حيواناً مطيعاً لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها: أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة، قال تعالى:
{ يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
[النحل: 50] وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها: السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبداً بما ويوجب الكره والكرب والقهر والقسر.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله
{ ٱئْتِيَا } ومن قوله { أتينا }؟ الجواب: المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو
كقوله
{ كُنْ فَيَكُونُ }
[البقرة: 117] وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي بأرض مدحوة قراراً ومهاداً وأي بسماء مقببة سقفاً لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد، كما تقول أتى عمله مرضياً وجاء مقبولاً، ويجوز أيضاً أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء وكون السماء سقفاً للأرض.
السؤال الثالث: هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون؟ الجواب: لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله
{ سَـٰجِدِينَ }
[الأعراف: 120] ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة، إلا أن هذا القول باطل، لإجماع المتكلمين على فساده.
ثم قال تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله { فَقَضَاهُنَّ } يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال: { طَائِعِينَ } ونحوه
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
[الحاقة: 7] ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز.
ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟ قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراً بيوم.
ثم قال تعالى: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد، وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد، قال ولله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة، والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون، وإذا كان ذلك الأمر مختصاً بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصاً بتلك السماء، وقوله تعالى: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله
{ كُنْ فَيَكُونُ }
[البقرة: 117] وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي بأرض مدحوة قراراً ومهاداً وأي بسماء مقببة سقفاً لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد، كما تقول أتى عمله مرضياً وجاء مقبولاً، ويجوز أيضاً أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء وكون السماء سقفاً للأرض.
السؤال الثالث: هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون؟ الجواب: لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله
{ سَـٰجِدِينَ }
[الأعراف: 120] ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة، إلا أن هذا القول باطل، لإجماع المتكلمين على فساده.
ثم قال تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله { فَقَضَاهُنَّ } يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال: { طَائِعِينَ } ونحوه
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
[الحاقة: 7] ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز.
ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟ قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراً بيوم.
ثم قال تعالى: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد، وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد، قال ولله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة، والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون، وإذا كان ذلك الأمر مختصاً بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصاً بتلك السماء، وقوله تعالى: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله
{ وَكَم
مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا }
[الأعرف: 4] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيداً ثم ضربت عمراً بالأمس، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه، والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟ فنقول: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون }
[آل عمران:59] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحدث السماء، وحينئذٍ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل.
ثم قال تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان:
القول الأول: أن تجري هذه الآية على ظاهرها فنقول: إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال:
{ يٰجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ }
[سبأ: 10]والله تعالى تجلى للجبل قال:
{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }
[الأعراف: 143] والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
[النور: 24] وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلاً وفهماً، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وههنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني: أنه تعالى أخبر عنهما، فقال: { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث: قوله تعالى:
[الأعرف: 4] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيداً ثم ضربت عمراً بالأمس، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه، والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟ فنقول: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون }
[آل عمران:59] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحدث السماء، وحينئذٍ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل.
ثم قال تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان:
القول الأول: أن تجري هذه الآية على ظاهرها فنقول: إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال:
{ يٰجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ }
[سبأ: 10]والله تعالى تجلى للجبل قال:
{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }
[الأعراف: 143] والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
[النور: 24] وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلاً وفهماً، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وههنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني: أنه تعالى أخبر عنهما، فقال: { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث: قوله تعالى:
{ إِنَّا
عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ
أَن يَحْمِلْنَهَا }
[الأحزاب: 72] وهذا يدل على كونها عارفة بالله، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها، والإشكال عليه أن يقال: المراد من قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال: يا موجود كن موجوداً، وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب، فلم يجز توجيه الأمر عليها، فإن قال قائل: روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها، فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } حدوثهما في ذاتهما، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما، إلا أن هذا الكلام باطل، لأنه تعالى قال: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } والفاء للتعقيب، وذلك يدل على أن حدوث السموات إنما حصل بعد قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث.
القول الثاني: أن قوله تعالى: { قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع، ونظيره قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال الوتد: أسأل من يدقني، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي.
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره، وقد بينا أن قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات الملائكة، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء،وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات، ثم إنه تعالى أسكنهم فيها، وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر، بل هي أعلى من مصاعد أفهامهم ومرامي أوهامهم، ثم قال: { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ } وهي النيرات التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسر معين، وطبيعة معينة، لايعرفها إلا الله، ثم قال: { وَحِفْظاً } يعني وحفظناها حفظا، يعني من الشياطين الذين يسترقون السمع، فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه، فمنها ما يحرق، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً، وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات والأرض فقال:
[الأحزاب: 72] وهذا يدل على كونها عارفة بالله، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها، والإشكال عليه أن يقال: المراد من قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال: يا موجود كن موجوداً، وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب، فلم يجز توجيه الأمر عليها، فإن قال قائل: روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها، فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } حدوثهما في ذاتهما، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما، إلا أن هذا الكلام باطل، لأنه تعالى قال: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } والفاء للتعقيب، وذلك يدل على أن حدوث السموات إنما حصل بعد قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث.
القول الثاني: أن قوله تعالى: { قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع، ونظيره قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال الوتد: أسأل من يدقني، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي.
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره، وقد بينا أن قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات الملائكة، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء،وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات، ثم إنه تعالى أسكنهم فيها، وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر، بل هي أعلى من مصاعد أفهامهم ومرامي أوهامهم، ثم قال: { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ } وهي النيرات التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسر معين، وطبيعة معينة، لايعرفها إلا الله، ثم قال: { وَحِفْظاً } يعني وحفظناها حفظا، يعني من الشياطين الذين يسترقون السمع، فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه، فمنها ما يحرق، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً، وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات والأرض فقال:
" خلق الله
تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم
الخميس السماء، وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، ثم خلق آدم
عليه السلام وأسكنه الجنة " ـ
ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد؟ قال ـ "
ثم استوى على العرش " قالوا:
ثم استراح ـ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم » فنزل قوله تعالى:
{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
[ق: 38].
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل، قال: { ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
[ق: 38].
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل، قال: { ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.