Tuesday, 13 October 2015

سورة فصلت آية 0011 - 00671 ت - تفسير الجامع لأحكام القرآن - تفسير القرطبي

* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 

قوله تعالى: { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } «أَئِنَّكُمْ» بهمزتين الثانية بين بين و«أَائِنَّكُمْ» بألف بين همزتين وهو استفهام معناه التوبيخ. أمره بتوبيخهم والتعجب من فعلهم، أي لِمَ تكفرون بالله وهو خالق السموات والأرض؟ٰ «فِي يَوْمَيْنِ» الأحد والاثنين. { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي أضداداً وشركاء { ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا } أي في الأرض { رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } يعني الجبال. وقال وهب: لما خلق الله الأرض مادت على وجه الماء؛ فقال لجبريل: ثَبِّتها يا جبريل. فنزل فأمسكها فغلبته الرياح، قال: يا رب أنت أعلم لقد غُلِبت فيها فثبَّتَها بالجبال وأرساها { وَبَارَكَ فِيهَا } بما خلق فيها من المنافع. قال السدي: أنبت فيها شجرها. { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } قال السدي والحسن: أرزاق أهلها ومصالحهم. وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يوم الثلاثاء والأربعاء. وقال عكرمة والضحاك: معنى «قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد. قال عكرمة: حتى إنه في بعض البلاد ليتبايعون الذهب بالملح مِثلاً بمثل. وقال مجاهد والضحاك: السابريّ من سابور، والطيالسة من الرّي، والحبر اليمانية من اليمن. { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } يعني في تتمة أربعة أيام. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً؛ أي في تتمة خمسة عشر يوماً. قال معناه ابن الأنباري وغيره. { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة. الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. واختاره الطبري. وقرأ الحسن البصري ويعقوب الحضرمي «سَوَاءٍ لِلسَّائِلِينَ» بالجر. وعن ابن القعقاع «سَواءٌ» بالرفع؛ فالنصب على المصدر و«سَوَاءً» بمعنى استواء أي استوت استواء. وقيل: على الحال والقطع؛ والجر على النعت لأيام أو لأربعة أي «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» مستوية تامة. والرفع على الابتداء والخبر «لِلسَّائِلِينَ» أو على تقدير هذه «سَوَاءٌ لِلسَّائِلِينَ». وقال أهل المعاني: معنى «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ» ولغير السائلين؛ أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لا يسأل.

قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } أي عَمَد إلى خلقها وقصد لتسويتها. والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال؛ يدل عليه قوله تعالى:
ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }
[البقرة: 29] وقد مضى القول هناك. وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } يعني صعد أمره إلى السماء؛ وقاله الحسن. ومن قال: إنه صفة ذاتية زائدة قال: استوى في الأزل بصفاته. و«ثُمَّ» ترجع إلى نقل السماء من صفة الدخان إلى حالة الكثافة، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس؛ على ما مضى في «البقرة» عن ابن مسعود وغيره.
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك، وأجري رياحك وسحابك، وقال للأرض: شُقِّي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ». وفي الكلام حذف أي أتينا أمرك «طَائِعِينَ». وقيل: معنى هذا الأمر التسخير؛ أي كونا فكانتا كما قال تعالى:
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[
النحل: 40] فعلى هذا قال ذلك قبل خلقهما. وعلى القول الأول قال ذلك بعد خلقهما. وهو قول الجمهور. وفي قوله تعالى لهما وجهان: أحدهما أنه قول تكلم به. الثاني أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد؛ ذكره الماوردي. «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ» فيه أيضاً وجهان: أحدهما أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما، ومنه قول الراجز:
امْتَلأَ الْحَوْضُ وقال قَطْني
   
مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأَتُ بَطْنِي
يعني ظهر ذلك فيه. وقال أكثر أهل العلم: بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى؛ قال أبو نصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء ما بحِيالها، فوضع الله تعالى فيه حَرَمه. وقال: «طَائِعِينَ» ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى؛ لأنهما سموات وأرضون؛ لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما. وقيل: لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل، ومثله
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }
[
يوسف: 4] وقد تقدّم. وفي حديث: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب لو أن السموات والأرض حين قلت لهما «ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» عصياك ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: يا رب وأين تلك الدابة؟ قال: في مَرْج من مُرُوجي. قال: يا رب وأين ذلك المرج؟ قال: عِلْم من علمي. ذكره الثعلبي. وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة «آتَيَا» بالمدّ والفتح. وكذلك قوله: { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } على معنى أعطيا الطاعة من أنفسكما «قَالَتَا» أعطينا «طَائِعِينَ» فحذف المفعولين جميعاً. ويجوز وهو أحسن أن يكون «آتَيْنَا» فاعلنا فحذف مفعول واحد. ومن قرأ «آتَيْنَا» فالمعنى جئنا بما فينا؛ على ما تقدّم بيانه في غير ما موضع والحمد لله.

قوله تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي أكملهنّ وفرغ منهنّ. وقيل: أحكمهنّ كما قال:
وعَلَيْهِما مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا
   
دَاودُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
{ فِي يَوْمَيْنِ } سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ كما قال تعالى:
خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
[الأعراف: 54] على ما تقدّم في «الأعراف» بيانه. قال مجاهد: ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون. وعن عبد الله بن سَلام قال: خلق الله الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين، وخلق السموات في يومين؛ خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وقدّر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السموات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وآخر ساعة في يوم الجمعة خلق الله آدم في عَجَل، وهي التي تقوم فيها الساعة، وما خلق الله من دابة إلا وهي تفزع من يوم الجمعة إلا الإنس والجن. على هذا أهل التفسير؛ إلا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت "الحديث، وقد تكلمنا على إسناده في أوّل سورة «الأنعام». { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } قال قتادة والسّدي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وخلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البَرَد والثلوج. وهو قول ابن عباس؛ قال: ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة بحذاء الكعبة، والذي في السماء الدنيا هو البيت المعمور. وقيل: أوحى الله في كل سماء؛ أي أوحى فيها ما أراده وما أمر به فيها. والإيحاء قد يكون أمراً؛ لقوله:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }
[
الزلزلة: 5] وقوله:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ }
[
المائدة: 111] أي أمرتهم وهو أمر تكوين. { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } أي بكواكب تضيء. وقيل: إن في كل سماء كواكب تضيء. وقيل: بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا. { وَحِفْظاً } أي وحفظناها حفظاً؛ أي من الشياطين الذين يسترقون السمع. وهذا الحفظ بالكواكب التي تُرجم بها الشياطين على ما تقدّم في «الحجر» بيانه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء. وقال في آية أخرى:
أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا }
[
النازعات: 27] ثم قال: { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } وهذا يدل على خلق السماء أوّلاً. وقال قوم: خلقت الأرض قبل السماء؛ فأما قوله:
وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
[
النازعات: 30] فالدَّحْوُ غير الخلق، فالله خلق الأرض ثم خلق السموات، ثم دحا الأرض أي مدّها وبسطها؛ قاله ابن عباس. وقد مضى هذا المعنى مجوَّداً في «البقرة» والحمد لله. { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }.