* تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ
أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا
يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ
تَتَفَكَّرُونَ } * { وَأَنذِرْ بِهِ
ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن
دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ
وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا
مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
ٱلظَّالِمِينَ } * { وَكَذٰلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ
عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ }
* { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
يقول الله تعالى لرسوله
صلى الله عليه وسلم { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } أي: لست
أملكها، ولا أتصرف فيها، { وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أي: ولا أقول لكم: إني أعلم
الغيب، إنما ذاك من علم الله عز وجل، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه، {
وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ } أي: ولا أدعي أني ملك، إنما أنا بشر من
البشر، يوحى إليّ من الله عز وجل، شرفني بذلك، وأنعم عليّ به، ولهذا قال: { إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ } أي: لست أخرج عنه قيد شبر، ولا أدنى منه،
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوىِ ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } أي: هل يستوي من اتبع الحق وهدي
إليه، ومن ضل عنه فلم ينقد له { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } وهذه كقوله تعالى:
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ }
[الرعد: 19] وقوله: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي: وأنذر بهذا القرآن يا محمد
{ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ }
[المؤمنون:57]
{ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }
[الرعد: 21] { ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أي: يوم القيامة { لَيْسَ لَهُمْ } أي: يومئذ { مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي: لا قريب لهم، ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. وقوله تعالى: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك؛ كقوله:
{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }
[الكهف: 28]. وقوله: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي: يعبدونه ويسألونه { بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ } قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله:
{ وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِىۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }
[غافر: 60] أي: أتقبل منكم. وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات، وقوله: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ } كقول نوح عليه السلام في جواب الذين { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } ، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليّ من حسابهم من شيء؛ كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء، وقوله: { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي: إن فعلت هذا والحالة هذه، قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، هو ابن محمد، حدثني أشعث عن كردوس، عن ابن مسعود: قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } - إلى قوله - { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } ورواه ابن جرير من طريق أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } إلى آخر الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب، في قول الله عز وجل: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ } قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه، فأتوه، فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك، فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا، فاقعد معهم إن شئت، قال:
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ }
[الرعد: 19] وقوله: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي: وأنذر بهذا القرآن يا محمد
{ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ }
[المؤمنون:57]
{ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }
[الرعد: 21] { ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أي: يوم القيامة { لَيْسَ لَهُمْ } أي: يومئذ { مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي: لا قريب لهم، ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. وقوله تعالى: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك؛ كقوله:
{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }
[الكهف: 28]. وقوله: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي: يعبدونه ويسألونه { بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ } قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله:
{ وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِىۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }
[غافر: 60] أي: أتقبل منكم. وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات، وقوله: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ } كقول نوح عليه السلام في جواب الذين { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } ، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليّ من حسابهم من شيء؛ كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء، وقوله: { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي: إن فعلت هذا والحالة هذه، قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، هو ابن محمد، حدثني أشعث عن كردوس، عن ابن مسعود: قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } - إلى قوله - { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } ورواه ابن جرير من طريق أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } إلى آخر الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب، في قول الله عز وجل: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ } قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه، فأتوه، فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك، فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا، فاقعد معهم إن شئت، قال:
" نعم " ، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل فقال: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه، ورواه ابن جرير من حديث أسباط به، وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر، وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه، قال: قال سعد: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود، قال: كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه ونسمع منه، فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا؟ فنزلت: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ } رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان، وقال: على شرط الشيخين، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.
وقوله: { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي: ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض، { لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح:
{ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى }
[هود: 27] الآية، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل، فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل، والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير؛ لو كان ما صاروا إليه خيراً، ويدعنا؛ كقولهم:
{ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ }
[الأحقاف: 11] وكقوله تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بِيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }
[مريم: 73] قال الله تعالى في جواب ذلك:
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً }
[مريم: 74] وقال في جوابهم حين قالوا: { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له؛ بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم؟ كما قال تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ }
[العنكبوت: 69] وفي الحديث الصحيح: " إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف، من أهل الكفر، إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } إلى قوله: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارى، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد ابن أبي مرثد، وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وأشباههم من الحلفاء، فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } الآية، فلما نزلت، أقبل عمر رضي الله عنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآيَـٰتِنَا } الآية.
وقوله: { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أي: فأكرمهم بردّ السلام عليهم، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم، ولهذا قال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } أي: أوجبها على نفسه الكريمة؛ تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً، { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقال معتمر بن سليمان: عن الحكم بن أبان بن عكرمة، في قوله: { مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ } قال: الدنيا كلها جهالة، رواه ابن أبي حاتم، { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي: رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على أن لا يعود، وأصلح العمل في المستقبل، { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي " أخرجاه في الصحيحين، وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج، عن أبي هريرة، وكذا رواه الليث وغيره عن محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق، أخرج كتاباً من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين، فيخرج من النار خلقاً لم يعملوا خيراً، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله "وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان في قوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } قال: إنا نجد في التوراة عطفتين، أن الله خلق السموات والأرض، وخلق مائة رحمة، أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، قال: فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تَثَجُّ البقرة، وبها تثغو الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع، وقد روي هذا مرفوعاً من وجه آخر، وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله:
{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ }
[الأعراف: 156] ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضاً، قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: " أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " ثم قال: " أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم " وقد رواه الإمام أحمد: من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.