*
تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق
{ لاَ تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ
ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ
فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ
ٱلظَّالِمِينَ} * { لاَ يَزَالُ
بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
قال المفسرون: إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد
لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، قالوا:
يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي
لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال عليه السلام: إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء
الله صلينا فيه، فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية، فدعا
بعض القوم وقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وخربوه، ففعلوا ذلك
وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة. وقال الحسن: هم رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: { لاَ تَقُمْ فِيهِ } نهي له عليه السلام عن أن يقوم فيه. قال ابن جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين. ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
قلنا: التعليل وقع بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة، ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة. ومن الروافض من يقول: بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك. وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين، فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره. وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة، فزال هذا السؤال. واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو؟ قيل: إنه مسجد قباء، وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه، والأكثرون أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام، وذكر أن الرجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد الرسول، وقال آخر: قباء. فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا. وقال القاضي: لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } هو كقول القائل، لرجل صالح أحق أن تجالسه. فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد.
فإن قيل: لم قال أحق أن تقوم فيه، مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟
قلنا: المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى، للسبب المذكور.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: { لاَ تَقُمْ فِيهِ } نهي له عليه السلام عن أن يقوم فيه. قال ابن جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين. ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
قلنا: التعليل وقع بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة، ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة. ومن الروافض من يقول: بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك. وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين، فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره. وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة، فزال هذا السؤال. واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو؟ قيل: إنه مسجد قباء، وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه، والأكثرون أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام، وذكر أن الرجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد الرسول، وقال آخر: قباء. فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا. وقال القاضي: لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } هو كقول القائل، لرجل صالح أحق أن تجالسه. فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد.
فإن قيل: لم قال أحق أن تقوم فيه، مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟
قلنا: المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى، للسبب المذكور.
ثم قال تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ
يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين: أحدهما: أنه بني على التقوى، وهو الذي تقدم تفسيره. والثاني: إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا، وفي تفسير هذه الطهارة قولان: الأول: المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي، وهذا القول متعين لوجوه: أولها: أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه. والثاني: أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم. وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. والثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، ولم تحصل نظافة الظاهر، كأن طهارة الباطن لها أثر، فكان طهارة الباطن أولى. الرابع: روى صاحب «الكشاف»: أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: " أمؤمنون أنتم " فسكت القوم ثم أعادها. فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم؛ فقال عليه السلام: " أترضون بالقضاء " قالوا نعم. قال: " أتصبرون على البلاء " قالوا: نعم، قال: " أتشكرون في الرخاء " قالوا: نعم، قال عليه السلام: " مؤمنون ورب الكعبة " ثم قال: " يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء " قالوا: نتبع الماء الحجر. فقرأ النبي عليه السلام: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } الآية.
والقول الثاني: أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر. وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار.
والقول الثالث: أنه محمول على كلا الأمرين، وفيه سؤال: وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز.
والجواب: أن لفظ النجس اسم للمستقذر، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير، فإنه يزول السؤال، ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول، وهو كون المسجد مبنياً على التقوى، فقال: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ } وفيه مباحث.
البحث الأول: البنيان مصدر كالغفران، والمراد ههنا المبني، وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور، يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد، والمراد مضروبه ومنسوجه، وقال الواحدي: يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً، لأنهم قالوا بنيانة في الواحد.
البحث الأول: أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين: أحدهما: أنه بني على التقوى، وهو الذي تقدم تفسيره. والثاني: إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا، وفي تفسير هذه الطهارة قولان: الأول: المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي، وهذا القول متعين لوجوه: أولها: أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه. والثاني: أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم. وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. والثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، ولم تحصل نظافة الظاهر، كأن طهارة الباطن لها أثر، فكان طهارة الباطن أولى. الرابع: روى صاحب «الكشاف»: أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: " أمؤمنون أنتم " فسكت القوم ثم أعادها. فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم؛ فقال عليه السلام: " أترضون بالقضاء " قالوا نعم. قال: " أتصبرون على البلاء " قالوا: نعم، قال: " أتشكرون في الرخاء " قالوا: نعم، قال عليه السلام: " مؤمنون ورب الكعبة " ثم قال: " يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء " قالوا: نتبع الماء الحجر. فقرأ النبي عليه السلام: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } الآية.
والقول الثاني: أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر. وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار.
والقول الثالث: أنه محمول على كلا الأمرين، وفيه سؤال: وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز.
والجواب: أن لفظ النجس اسم للمستقذر، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير، فإنه يزول السؤال، ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول، وهو كون المسجد مبنياً على التقوى، فقال: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ } وفيه مباحث.
البحث الأول: البنيان مصدر كالغفران، والمراد ههنا المبني، وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور، يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد، والمراد مضروبه ومنسوجه، وقال الواحدي: يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً، لأنهم قالوا بنيانة في الواحد.
البحث الثاني: قرأ نافع وابن عامر
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } على فعل ما لم يسم فاعله، وذلك الفاعل هو الباني
والمؤسس، أما قوله: { عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } أي للخوف من
عقاب الله والرغبة في ثوابه، وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة
والرغبة، وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من
عقابه، والرغبة في ثوابه، كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني
لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله، أما قوله: { أمِن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ففيه مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم { جُرُفٍ } ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق.
البحث الثاني: قال أبو عبيدة: الشفا الشفير، وشفا الشيء حرفه، ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة. فذلك الشيء هو الجرف، وقوله: { هَارٍ } قال الليث: الهور مصدر هار الجرف يهور، إذا انصدع من خلفه، وهو ثابت بعد في مكانه، وهو جرف هار هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور.
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول: المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل؟ والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } كان مشرفاً على السقوط، ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم، ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
ثم قال تعالى: { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } والمعنى: أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة. وفي كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ الثالث: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ الرابع: بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد، والصحيح هو الوجه الأول.
البحث الأول: قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم { جُرُفٍ } ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق.
البحث الثاني: قال أبو عبيدة: الشفا الشفير، وشفا الشيء حرفه، ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة. فذلك الشيء هو الجرف، وقوله: { هَارٍ } قال الليث: الهور مصدر هار الجرف يهور، إذا انصدع من خلفه، وهو ثابت بعد في مكانه، وهو جرف هار هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور.
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول: المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل؟ والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } كان مشرفاً على السقوط، ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم، ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
ثم قال تعالى: { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } والمعنى: أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة. وفي كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ الثالث: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ الرابع: بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد، والصحيح هو الوجه الأول.
ثم قال: { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ } وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة { أَن تَقَطَّعَ } بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع، فحذفت إحدى التاءين، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله، وعن ابن كثير { تُقَطَّعَ } بفتح الطاء وتسكين القاف { قُلُوبِهِمْ } بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع، وقوله: { تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي تجعل قلوبهم قطعاً، وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء، فحينئذ تزول تلك الريبة. والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة، وقرأ الحسن { إِلَىٰ أَن } وفي قراءة عبد الله { وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ } وعن طلحة { وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ } على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل مخاطب.
ثم قال: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والمعنى: عليم بأحوالهم، حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم.
البحث الأول: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة { أَن تَقَطَّعَ } بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع، فحذفت إحدى التاءين، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله، وعن ابن كثير { تُقَطَّعَ } بفتح الطاء وتسكين القاف { قُلُوبِهِمْ } بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع، وقوله: { تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي تجعل قلوبهم قطعاً، وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء، فحينئذ تزول تلك الريبة. والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة، وقرأ الحسن { إِلَىٰ أَن } وفي قراءة عبد الله { وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ } وعن طلحة { وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ } على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل مخاطب.
ثم قال: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والمعنى: عليم بأحوالهم، حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم.